المشاهد التي يراها الجميع في تعامل الحكومة مع عمليات تطوير الشوارع والأحياء لا تعكس فقط أزمة في التخطيط العمراني ولا في فهم الفارق البديهي بين تطوير شارع في حي سكني، وبين تطوير طريق سريع، إنما بالأساس في نظرة السياسة السائدة للمواطن، ودورة في المجال العام.
السياسة الرشيدة تقول إن نقطة الانطلاق هي المواطن والحفاظ على الدولة من أجل الحفاظ على مصالح المواطن وليس رجالات الدولة، وإن إشراك المواطنين في صناعة القرار من بديهيات عمل أي نظام سياسي بصرف النظر عن طبيعته، فالصين التي يحكمها حزب واحد ونظامها غير ديمقراطي يشارك فيها الناس في القرارات الخاصة بتطوير شوارعهم وأحيائهم والسياسات العامة المتبعة في الصحة والتعليم والخدمات، دون التطرق للسياسات العليا واختيار النخب الحاكمة، التي تتم في دوائر ضيقة تتراجع فيها المشاركة الجماهيرية.
اقرأ أيضا.. هل من شروط لمواجهة الفوضى؟
أما في الدول الديمقراطية فهناك مشاركة شعبية في اختيار المحليات والبرلمان والسلطة التنفيذية حتى لو كانت الديمقراطية التمثيلية تعاني من بعض المشكلات والتحديات، أما دول التعددية المقيدة مثل تركيا أو المغرب، فتنطلق في الأولى من قوة المحليات ومن مبادرات الناس في الأحياء المختلفة، بل أن الرئيس التركي بنى قوته ومشروعه السياسي من المحليات حين كان قبل ثلاثين عاما عمدة لاسطنبول، وقوة المعارضة التركية الحالية زادت بعد أن سيطرت على المحليات في ثلاث مدن كبرى هي أنقرة واسطنبول وأزمير وفي كلا الحالتين كان الخط السياسي لمن يدير المحليات مختلف عن خط السلطة التنفيذية الحاكمة، ومع ذلك سمح لهم بالحركة ما ساعد الناس على تعلم الممارسة الديمقراطية في قضايا يومية معاشة. أما في المغرب فتعدديتها المقيدة تسمح بالنقاش العام الحر بين الأحزاب والحكومة حول كل القضايا دون تجاوز الخطوط الحمراء المتعلقة بالنظام الملكي.
والحقيقة أنه لا يوجد نظام سياسي واحد أحال دون مشاركة الناس في القرار، صحيح أن حدود هذه المشاركة اختلفت من نظام لآخر، إلا أنها ظلت موجودة ومصانة طالما لم تتجاوز القواعد والقوانين.
والحقيقة أن مسألة المشاركة التي تضمنتها نظم التعددية المقيدة أو نظم الحزب الواحد المنجزة بالعلم وليس بالكلام الفارغ، تمثل “المهمة السهلة” أمام أي نظام سياسي، لأنها لا تتعلق بالقضايا السياسية الكبرى، إنما هي تشعر الناس بالتأثير والحضور في “مساحات آمنة” بعيدا عن “السياسات العليا”، مثل ما يتعلق بالتنسيق العمراني والحفاظ على ما تبقى من المساحات الخضراء والحدائق، فلا يمكن القول إن من اعترض على “تطوير” أحياء مصر الجديدة والمقطم وأحمد عرابي بالمهندسين معارض أو مؤيد، إنما هو غالبا لا تعنيه التوجهات السياسية للحكم.
والحقيقة أن المشاهد التي جرت في شوارع مصر الجديدة بعد “التطوير” وما يجري حاليا في المقطم في شارع 9 من “تطوير” آخر وفي غيرهما، عكس مثالب الإدارة السياسية التي تلغي حضور المواطن في المجال العام، وترجمت في الممارسة اليومية بهذا الشكل الذي يقوم تطوير الشارع فيه على إلغاء رصيف المشاة أي رصيف المواطن العادي، وتوسيع الشارع لصالح المواطن المالك للسيارة. وهنا سنجد المعنى الرمزي واضح، فالموطن الأول الذي حرم من مكان آمن يسير عليه هو المواطن الذي لا يمتلك إلا قدمه التي خلقها الله، أما المواطن الثاني فهو “بشرطة” ومالك لسيارة فيوسع له الشارع.
الكارثة أن هذا التفكير الذي تكرر في كثير من شوارع مصر لا يحل المشكلة لأن الحارة أو الاثنتين التي أخذت من المواطن العادي لصالح المواطن أبو سيارة ستدفع الأول إلى المشي في الشارع بجوار السيارات، كما نشاهد يوميا، وهو يعرضهم لحوادث ومعاناة يومية.
وجاءت الأزمة الثانية بتعزيز خيار الدوران الحر (U turn) أي إلغاء الإشارة التي تنظم التقاطعات وإبدالها بنظام “اللف والدوران” وكأن ذلك سيؤدي إلى سيولة مرورية، واعتاد الناس على هذا النظام رغم كارثيته، فهو أولا لا يحل مشكلة السيولة المرورية إنما يرحلها لمئات الأمتار حتى تصل للدوران حيث تتكدس السيارات وتتعارك في مشهد فوضوي متكرر، كما أنه يحرم المواطن العادي من مكان آمن يعبر منه.
وفي كل مرة يجري فيها الحديث عن تطوير الشوارع يدعو الناس إلى الله أن يعطي الحكومة البصيرة، ويراجعوا مفهوم التطوير، ولكن للأسف تتكرر نفس المشاهد حرفيا في كل شارع يصيبه “التطوير” رغم النتائج السلبية في التجارب السابقة.
فهناك توسيع مزيف للشارع بحيث يبدو إنه واسع وفي الحقيقة أنت هدمت رصيف للمشاة ونقلت الناس من السير على رصيف موجود إلى السير وسط السيارات، وبدلا من أن يكون هناك مثلا 6 “يوتيرن” جعلتهم 3 لتصعب مهمة عبور المشاة للشارع وتجعل الحوادث المميتة كالتي حدثت ولازالت تحدث في مصر الجديدة مشهدا يوميا، وبعدها تبدأ رحلة البحث عن ممول لكوبري للمشاة أو وضع مطبات صناعية.
المدهش أن في كل هذه الأحياء وعلى ضفاف هذه الشوارع هناك كثير من المواطنين كانوا على درجة من التحضر والرقي في الاعتراض على هذه الطريقة في “التطوير”، وقدموا بدائل كان يجب أن ترعاها وتدعمها الحكومة، فهناك من رفض هدم المترو القديم في مصر الجديدة خاصة أن عودته باتت ظاهرة عالمية، سواء في البلاد المتقدمة أو النامية، وهناك من رفض القضاء على المساحات الخضراء أو إنشاء أعداد كبيرة من الكباري في حي سكني دون وجود أماكن آمنة لعبور المشاة، وحتى “اليوتيرن” الذي هو محل نقد تم تقليصه والتعامل مع الشارع في حي سكني كأنه الطريق الصحراوي.
المراجعة الحقيقية ستتم إذا انطلق نظامنا السياسي من أن خدمة المواطن وحقه في المشاركة حق أصيل، عندها سنجد أن المنهج الحاكم لما يسمى تطوير الشوارع والأحياء سيتغير جذريا، ولن يصبح عبأ يدعو الناس كل يوم ألا يصيبهم.