تستعد مملكة البحرين لاستقبال بابا الفاتيكان فرنسيس الأول مطلع نوفمبر/ تشرين الأول المقبل، في ثاني زيارة للحبر الأعظم إلى منطقة الخليج العربي، بعد توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بالإمارات عام 2019، حيث يلتقي بابا الفاتيكان شيخ الأزهر ومجلس حكماء المسلمين خلال تلك الزيارة، التي لا تخلو من إقامة قداسات وصلوات بمملكة البحرين، التي تعرف بجهودها في التسامح الديني، حيث كانت من أوائل دول الخليج العربي إقامة للكنائس على أراضيها للمقيمين.

الأب رفيق جريش، كاهن كنيسة الروم الكاثوليك وأحد الفاعلين في مجال العلاقات الإسلامية المسيحية، يرى أن زيارة بابا الفاتيكان تأتي للتأكيد على مضمون وثيقة الإخوة الإنسانية ولتعميق العلاقات الإسلامية المسيحية، وهي تأتي استجابة لدعوة من ملك البحرين، وتعنى بتوسيع آفاق الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية، التي اهتمت بالعلاقة مع المسلمين منذ الإعلان عن ذلك في المجمع الفاتيكاني الثاني في ستينيات القرن الماضي.

ويعتقد جريش أن العلاقات مع المسلمين تتحسن يومًا بعد يوم؛ فلم تعد الكنيسة الكاثوليكية ولا الدول العربية مغلقة على نفسها في مواجهة التعصب والتطرف والإرهاب. ويضيف، في حديثه لـ”مصر 360″، إن هذه الزيارة لبابا الفاتيكان ستنعكس على العاملين والمقيمين من الكاثوليك في الخليج، وتوسع أفق التسامح الديني، وتؤكد على رغبة القيادات الخليجية في التقارب مع المسيحيين.

توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين بابا الفاتيكان فرنسيس الأول وشيخ الأزهر أحمد الطيب، أبو ظبي، 4 فبراير/ شباط 2019 (موقع الوثيقة)
توقيع وثيقة الأخوة الإنسانية بين بابا الفاتيكان فرنسيس الأول وشيخ الأزهر أحمد الطيب، أبو ظبي، 4 فبراير/ شباط 2019 (موقع الوثيقة)

كما أن البابا فرنسيس ذو الأصول اللاتينية “أرجنتيني الأصل” يقدر ضرورة التقارب مع بلدان نصف الكرة الجنوبي. وهو ما يظهر في زيارته للعراق ومصر والإمارات والبحرين، وكلها مبادرات إيجابية تعني أن مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية سيدخل عصرًا جديدًا، كما يوضح جريش.

اقرأ أيضًا: رسائل البابا فرنسيس من العراق.. هل خسرت إيران زعامة العالم الشيعي؟

طبيعة المسيح وعقيدة الفداء

في كتابها “المسيحيون والمسلمون ويسوع”، الصادر بالإنجليزية عن دار جامعة يل الأمريكية، تتعرض الدكتورة منى صديقي، الأستاذة بجامعة أدنبرة، للحوار الإسلامي المسيحي. وهي تحاول فض الاشتباك بين أكبر ديانتين إبراهيميتين انتشارًا في العالم، عبر شرح دقيق للعقائد الأساسية وموقف كل دين منها، وفي القلب طبيعة المسيح وعقيدة الفداء وما تشكله هاتان القضيتان من محرك أساسي للحوار بين الطرفين، لاسيما المسيحيين العرب الذين عاشوا في ظل الإسلام كدين جديد، لم يروا فيه إلا بدعة مسيحية، نظرًا للتشابه الكبير بين الإسلام والمسيحية مقارنةً بالمعتقدات الأخرى.

تشرح “صديقي”، في مقدمة كتابها، دوافعها لإنجاز هذا العمل الذي تتمناه جسرًا للتواصل بين الديانتين الكبيرتين وجزءًا من رحلتها الأكاديمية والروحية في فهم اللاهوت المسيحي كأستاذة للدراسات الإسلامية تدين بالإسلام. ومن ثم فهي لا تنكر أن الكتاب يقع في المساحة ما بين الكتابة الأكاديمية والشخصية. ويبرز تاريخًا من الحوار الديني، اختارت الكاتبة شخصياته وأبطاله بعناية، عبر ستة فصول رئيسية؛ أولها نهاية النبوة، وتشرح فيه فكرة النبوة في كل دين، مع التأكيد على موقف المسيحيين من نبوة محمد، وموقف المسلمين من نبوة المسيح، وكيف أصبحت النبوة خلافًا بين الدينين.

يرى المسيحيون في المسيح إلهًا ذو طبيعتين ولا يراه المسلمون إلا نبيًا.

تشير “صديقي” أيضًا إلى الأسباب الجوهرية التي يسوقها كل طرف لإنكار فرضية الآخر؛ فالمسيحيون لا يؤمنون بمحمد لأن الكتب السابقة (التوراة والإنجيل) لم يبشرا به. بينما يرد المسلمون دفاعًا بالتأكيد على تحريف الإنجيل وحذف محمد من بين نصوصه.

لوحة صلب المسيح
لوحة صلب المسيح

الثالوث والتوحيد

في فصل بعنوان: الله كواحد، تشرح الكاتبة قضية التوحيد من منظور مسيحي. إذ تقدم الرؤية المسيحية لقضية التثليث أو الاتحاد الأقنومي كطريقة لفهم الوحدانية. وفي المقابل تطرح لماذا عجز المسلمون عن فهم الثالوث كرمز للتوحيد عصي عليهم في ظل بنية مختلفة للإسلام. وذلك على لسان أبطال الحوار الإسلامي المسيحي المبكر.

وفي الفصل التالي تغوص أكثر في أعماق الحوارات الدينية، ليتسع الجدل مع تغييرات السياسة، وحتى ظهور مدارس إسلامية مثل المعتزلة والأشاعرة، كان لكل منها نصيب في هذا الجدل الإسلامي المسيحي، حتى تصل إلى الفصل الرابع الذي ينحو في اتجاه العذراء مريم كشخصية توافقية بين أتباع الديانتين؛ فهي الأنثى الوحيدة التي يفرد لها القرآن سورة باسمها، ومن ناحية أخرى يقدسها المسيحيون دون جدلية العبادة.

تتفق الديانتان على سردية حبلها الإعجازي، ومن ثم تطرحها الكاتبة كمساحة للاتفاق بعد فصولها الأولى التي غرقت في الجدال بين الطرفين، وربما تبادل الاتهامات، ثم تصل بالكتاب إلى فصل بعنوان “التوحيد وجدلية الحب والقانون”، وفيه تشرح موقف الإسلام والمسيحية من العمل الصالح والحياة الأخرى وفهم القوانين الإلهية والثواب والعقاب، بطريقة تؤكد فيها على اختلاف المنهجية أو الفلسفة الحاكمة لكل دين.

المسيحية ترى أن حب الله مقدم على العمل الصالح؛ فالله يحب خليقته كقاعدة ثابتة، أما في الإسلام فإن الجزاء من جنس العمل، ومن ثم نيل الحب الإلهي يتطلب عملًا يتقرب به المؤمن إلى الله، بالإضافة إلى شرح مفصل لبنية القرآن كنص يقوم على “أفعل ولا تفعل” بالشكل الذي يوضح بساطة الفهم الإسلامي، مقابل فلسفة العقيدة المسيحية. وفي النهاية تختتم الكاتبة بعرض تجربتها الشخصية مع الصليب: كيف تتلقاه كمسلمة. وتطرح إمكانية تنحية الخلاف حوله جانبًا لصالح تقارب أوسع بين الطرفين، دون أن يقصر المسيحيون الإيمان بالمسيح على عقيدة الصليب والفداء، مما يفتح الباب أمام قبول جميع المؤمنين بالمسيح أيًا كانت مشاربهم.

الحوار الإسلامي المسيحي.. آمال التقارب

إذا كان الكتاب يشكل محاولة للتقارب الإسلامي المسيحي، فإنه يغوص في الجدل بين الطرفين دون أن يستند إلى فلسفة محددة لاستخدام التاريخ؛ ففي بعض المرات يحضر التاريخ كخلفية للأحداث، وفي مرات أخرى يغيب. بينما يظل التاريخ محركًا أساسيًا لفهم اللاهوت ومحدداته؛ كأن تشير الكاتبة عرضًا إلى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد استدعى بطريرك النساطرة للتحاور معه في قصره أثناء غزو بيزنطة التي تدين بالمسيحية، تلك المسيحية التي تكفر النساطرة دون أن تشرح ما الذي يعنيه ذلك.

إن كان الكتاب يركز على الحوار الإسلامي المسيحي، فإن هذه الحوارات لم تنشأ بمعزل عن سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي؛ فالحوارات التي تمت في شبه الجزيرة العربية وقت ظهور الإسلام قطعًا تختلف عن حوارات ما بعد اشتداد شوكة الإسلام وتأسيس الدولة الإسلامية. وهو ما يغير حال المسيحيين العرب من جماعة مؤمنة تعيش في جزيرة من غير الموحدين إلى أقلية تعيش في ظل الدولة الإسلامية.

اقرأ أيضًا: لماذا غضب الأقباط من كتاب “كيف أصبح المسيح إلهًا”؟

وفي الوقت نفسه، فإن الكتاب يتعرض لقضايا فلسفية في الدين والعقيدة، دون أن يقدم رؤية واضحة للأسباب التي دفعت النص الديني سواء القرآن أو الإنجيل إلى اتباع هذا المسلك البنيوي؛ فالقرآن الذي نزل في شبه الجزيرة العربية لعقلية الصحراء يختلف جذريًا عن المسيحية التي ظهرت في فلسطين، وتختلف قطعًا عن مسيحية بولس وقسطنين، وهي كلها مناطق غائمة يتركها الكتاب بلا إشارة أو توضيح يسهم في خلق وعي للقارئ عن الفلسفة الحاكمة لكل دين والبنية السوسيوثقافية (التكوين الثقافي الاجتماعي) للنص.

أما استخدام المصطلحات والتعبيرات، فقد عابه الكثير من غياب الدقة؛ فلا تشير الكتابة إلى “النصارى” المذكورين في القرآن وهي تتعرض لحضور المسيح في النص القرآني، ولماذا يشكل مصطلح النصارى إشكالية للمسيحيين، ومن هم النصارى المقصودين: هل هم مسيحيو شبه الجزيرة أم أن القرآن يطلق الوصف على كل أتباع المسيح؟ وهي كلها جدالات من صميم عمل الكتاب، بالإضافة إلى استخدام المصطلح “توراة” و”العهد القديم” للإشارة للإنجيل العبراني، وهي أوصاف غير أكاديمية؛ فالتوراة هي الإنجيل العبراني كما يصفه القرآن، ومن ثم استخدامه للإشارة إلى الإنجيل العبراني يعني أن الكاتب مسلم، بينما تمثل التوراة عند اليهود أحد كتب الإنجيل العبراني، وبالمثل، فإن استخدام مصطلح العهد القديم يعني أن هناك عهد جديد، وهو استخدام مسيحي؛ لأن اليهود لا يؤمنون بالعهد، ومن ثم اتفق الأكاديميون على استخدام مصطلح الإنجيل العبراني في وصف ما يسميه المسلمون بالتوراة، وما يصفه المسيحيون بالعهد القديم، انحيازًا للدقة العلمية.

رحلة في ذهن المسلمين

إن كانت مؤلفة الكتاب قد أكدت على هويتها كمسلمة تعمل في مجال الحوار الإسلامي المسيحي، فإن هذا الكتاب لم يخل من النظرة المركزية للإسلام كدين. وهو ما انعكس على اختيارها لأبطال الحوار الإسلامي المسيحي، وحتى الكتابات اللاهوتية التي اتخذتها مرجعًا في قضية الحوار، حتى أن مارتن لوثر أحد أهم من غيروا في المسيحية المعاصرة لا يحضر إلا عبر نقده للإسلام، بينما يأتي ذكر انتقاده للسلطة الباباوية عرضًا، رغم أنها جدليته الأساسية.

يشكل الكتاب رحلة لفهم أكبر ديانتين إبراهيميتين في العالم، وإن كان يحتاج الكثير من الإيضاحات التاريخية، حتى لا يصبح وكأنه مجرد محاولة لفهم اللاهوت في الفراغ، بمعزل عن القوى المحركة له في التاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع.