قبل 7 سنوات، دفع المفكر المصري جميل مطر بمصطلح جديد أسماه “مرحلة استنزاف القوى الناعمة المصرية”، مركزا في مقال نشر بصحيفة الشروق في الثاني عشر من أغسطس/آب عام 2015، على اللهجة المصرية، وأدواتها كالأغنية، السينما، والمسلسلات، باعتبارها هدفا ركزت عليه قوى الاستنزاف الصاعدة في المنطقة –على حد قوله- لتقييد نفوذ مصر الإقليمي، وحرمانها من أهم قواها على الإطلاق. “مطر” لفت أيضا إلى أنه على امتداد السنوات تدخل الممول الأجنبي لفرض مسلسلات، وأفلام سينمائية بعينها، بـ”لهجات” لا تمت بصلة إلى العامية المصرية، وبملابس لا علاقة لها بما يرتديه أهل مصر في ريفها، وصعيدها وسواحلها.

اقرأ أيضا.. “خلجنة الثقافة العربية”.. “الاستحواذ” من الشركات للريحاني وأم كلثوم

بعد 6 أيام من تداول رؤية المفكر المصري، دخل داود الشريان الرئيس السابق لهيئة الإذاعة والتلفزيون بالمملكة العربية السعودية، على خط الدفاع عن التمويل السعودي للدراما والسينما المصرية. الشريان أشار إلى أن التدخل لفرض أفلام، ومسلسلات بعينها الذي يراه “مطر” ذا أثر سلبي على قوة مصر الناعمة، فعل العكس، وسخر إمكانات إنتاج ضخمة. كما قدم أعمالا مصرية لم يقدم عليها “المنتج المصري”، كان أبرزها مسلسل “الملك فاروق”، وغيرها من الأعمال التي كرست عظمة الفنانين المصريين، ونقلت صورة متحضرة إلى المشاهدين العرب.

“كنز مصر” المرصود

افتتاح موسم الرياض

في منتصف الثمانينيات، وحين انتشرت أجهزة الفيديو في دول الخليج، وارتفعت أسعار النفط، زادت معدلات الإنتاج الفني العربي لتلبية احتياجات سوق “الفيديو” آنذاك. تدفقت أموال الخليج منذ ذلك التاريخ على السينما المصرية لاعتبارات العراقة والخبرة في المنطقة العربية. لكن هذا التدفق غابت عنه الرؤية الفنية الواضحة ما تسبب في أزمة سينمائية كانت الأسوأ في تاريخ السينما من حيث المحتوى، وهي ما أطلق عليها وقتئذ “أفلام المقاولات”.

حاليا وبعد إطلاق المملكة العربية السعودية هيئة الترفيه في السابع من مايو/أيار عام 2016 لتكون الجهة المعنية بكل ما يتعلق بالترفيه (دراما، سينما، مسرح، حفلات غنائية، وغيرها)، استضافت منذ إطلاق “موسم الرياض” رأس أنشطتها في نسخته الأولى عام 2019، نحو 70 حفلة غنائية، و350 عرضا مسرحيا، بتكلفة تقترب من 3.1 مليار ريال سعودي.

صناعة السينما

حين أنتجت مصر فيلم “ليلى” أول الأفلام الروائية الطويلة عام 1927، لم تكن المنطقة العربية تعلم شيئا عن “السينما”، وفي عام 1950، وبعد إنتاج المملكة العربية السعودية فيلم “الذباب”، ومدته 30 دقيقة، كانت حصيلة الأفلام المصرية خلال العام ذاته 44 فيلما.

لكن مرحلة ما بعد الألفية الجديدة، وتراجع القدرة الإنتاجية السينمائية المصرية، وتعثر الصناعة بسبب الأوضاع الاقتصادية، بدأ تدفق “المال الخليجي” للاستثمار في الفن المصري والإعلام والثقافة. ما دفع خبراء إلى القلق بشأن الأثر المباشر لذلك المال على هوية المصريين. خاصة بعد أن كانت القاهرة ذات التأثير الأكبر في العالم العربي ثقافيا، وشعبيا نظير جودة محتواها، وغزارة إنتاجها.

انفتاح “بن سلمان”

تخوف مشروع من الأمر ظهرت ملامحه في تصريحات فنانين مصريين إبان موسم الرياض الأول، من بينهم ما قاله حسن الرداد: “الرياض حاليا أصبحت مكانا استراتيجيا، وملتقى للنجوم في العالم كله، وليس العالم العربي فقط، وأنا أريد العيش هنا”، عطفًا على تصريحات موازية للفنان محمد صبحي قبيل أزمته الشهيرة بعد رفضه عرض مسرحيته بـ”موسم الرياض” بسبب مسمى “الترفيه”، قال فيها نصًا: “الرياض أصبحت عاصمة الثقافة، والفن في العالم العربي”.

مثل هذه التصريحات كشفت أثر المال الخليجي في عقد مقارنة بين وضع “القاهرة” الراهن رغم تاريخها، وانفتاح “الرياض” التوسعي. لكن الأمر قوبل بتقليل من الناقد الفني طارق الشناوي من حيث التأثير السلبي على قوة مصر الفنية. إذ لفت إلى أن مصر تملك أوراق ضغط قوية، ولديها “مؤلف، مخرج، نجم سينمائي، مونتير، مصور، وفنيين”، وأن الكرة في ملعبها.

وفي ثنايا أزمة “صبحي” مع رئيس هيئة الترفيه السعودية لاحت في الأفق إشارة ضمنية إلى أن “المال الخليجي” يرصد للفنانين مقابل الترفيه، دون تفرقة بين مرحلة ظهور قنوات “روتانا”، و”آرت” رغم احتكارهما للتراث السينمائي المصري، والمرحلة الحالية القائمة على خطط، وأرقام، وميزانيات فائقة، ورغبة في صدارة عربية لصناعة الدراما، والسينما، والمسرح. بالتوازي مع انفتاح غير مسبوق منذ تصدر ولي العهد محمد بن سلمان الواجهة في الرياض. هذا الانفتاح الذي وصفه “الشناوي” بأنه انفتاح فكري في كل شيء مع عهد “بن سلمان”، انفتاح في نوعية الأفلام، والدراما منزوعة المحاذير عكس ما كان في العقود الماضية.

فرصة لصناعة الفن المصري

توقيع الاتفاق بين الجانبين المصري والسعودي

في إبريل/نيسان 2018 وقعت اتفاقية شراكة بين كيانات مصرية-سعودية للإنتاج الفني، مثّل الجانب المصري فيها الكاتب الروائي الدكتور يوسف حسن مؤلف مسلسل “كلبش”، وصاحب مسلسل “منطقة محرمة”. بينما مثل الجانب السعودي كل من سلطان مجدلي بن زيني بن سعود ومحمد بن حمد الدعيس. وتضمنت الاتفاقية إنتاج عدد من الأفلام ومسلسلين. الاتفاقية وصفها ممثل الجانب المصري بأنها ستكون ملائمة للذوق العربي، وللسوق المصرية، والسعودية بصفة خاصة، ضمن خطة الإنتاج الضخمة المستقبلية التي تستهدف إكمال البنية الأساسية للصناعة، والتي تطلب أن يتم تصوير الأعمال الفنية كاملة في العاصمة الرياض.

الاتفاقية ذات الميزانيات السخية اعتبرها “الشناوي” فرصة للنجوم الذين تضاءلت أجورهم في مصر، ويتمتعون بشعبية كبيرة لدى جمهور السعودية.

ومع إقراره بأن دور العرض السعودية ظلت مغلقة حتى عام 2016، أضاف “الشناوي” لـ”مصر360″ أن تزايد أعداد دور العرض سيحقق لصناعة السينما في مصر إيرادات عالية عبر تعاقد التوزيع الخارجي بجانب الفضائيات. كذلك لفت إلى أن الخوف الذي كان موجودا في الماضي، لا نصدْره في الحاضر.

يذكر أن 340 فيلما جديدا طرحوا في دور العرض السينمائية السعودية البالغ عددها 430، في وقت أعلنت فيه الرياض رغبتها في الوصول إلى 2600 شاشة سينمائية بحلول عام 2030، فإن “الشناوي” يرى في الأمر إيجابية كبيرة للنهوض بالصناعة المصرية.

وحسب خبراء فإن أخطر ما في العلاقات السينمائية، هو تحول مصر ذات الصناعة الأكبر بالمنطقة إلى أسيرة لتطورات سوق حديثة لم تستقر بعد. يأتي ذلك بجانب إقامة عدد من الفنانين المصريين لفترات طويلة في الرياض، وهو ما يمكن أن يؤثر على السوق المحلية المصرية مستقبلا.

الدراما.. منصة شاهد

منصة شاهد

ومن “السينما” إلى الدراما حيث تقع منصة “شاهد” على قمة مناطق الجذب الدرامي في ظل تراجع الإنتاج السنوي المصري للمسلسلات. حيث أنتجت 15 مسلسلا مصريا خلال العام الماضي، وتستعد لعرض نحو 40 آخرين خلال موسم “رمضان المقبل”.

بهذه الطاقة الإنتاجية، ومع سيطرة رئيس هيئة الترفيه “تركي آل الشيخ” على بعض العاملين في الوسط الفني، وتحكمه في عدد هائل من حسابات وسائل التواصل الاجتماعي لإعادة نشر تدويناته، والترويج لما يريد. فرضت المنصة سيطرتها على سوق الإنتاج الدرامي في مصر، باعتبارها نافذة لعشرات الممثلين والمؤلفين والمخرجين الهاربين من الركود، وغيرهم ممن لا يجدون فرصا للعمل، ومن يرغبون في تقديم محتوى قد ترفضه الرقابة في مصر.

ومع مخاوف إثر الإنتاج السعودي الدرامي، ولما تمثله الدراما من قدرة استثنائية على التأثير في ثقافة الشعوب، اعتبر “يحيى قلاش”-نقيب الصحفيين الأسبق-أن المعروض على المنصات السعودية يشبه أطعمة “المعلبات”. الذي وجد ضالته لكون ماكينة الإنتاج الدرامي المصري معطلة حاليا.

جنوح منصة “شاهد” في الفترة الأخيرة إلى إنتاج دراما اجتماعية رغم خطها “التجاري” مثل مسلسل “منورة بأهلها”، واستعانتها بالمخرج المصري يسري نصر الله، لا يعدو كونه ملء فراغ على حد قول “قلاش”. وعلى خطورته في تشكيل وعي من نوع آخر لدى المشاهد، قد يتسق مع طرح المفكر جميل مطر من ناحية فرض لون ثقافي مغاير. لكنه لن يستطيع أن يحدث انقلابا ثقافيا في المنطقة العربية-على حد وصفه.

لكن استقطاب شركات الإنتاج المصرية، وشركات الخدمات الفنية وفق قرار وقف التعاقد مع الشركات التي تعمل خارج المملكة، من شأنه إحداث تأثيرات واضحة، أبرزها سحب البساط تدريجيا من القاهرة، وإخضاع الفنيين، وأطراف الصناعة لشروط الجهة الممولة. رغم ذلك يستطرد “قلاش”: “هذا كله رد فعل للمرحلة الحالية التي تمر بها الصناعة المصرية، وتكرر كثيرا من قبل، ولن يكتمل”.

أضاف نقيب الصحفيين الأسبق لـ”مصر360″ أن وجود قوائم بالممنوع، والمسموح في الفن المصري يعد سببا فيما يحدث لأبرز القوى الناعمة المصرية. لافتا إلى أن الفن دائما متحرر، وليس به حسابات –على حد وصفه.

المنصات الإعلامية

حفل افتتاح المقر الرئيسي لmbc في الرياض

منذ منتصف التسعينيات، وبعد الوفرة المالية التي حققتها دول مجلس التعاون الخليجي بسبب ازدياد مبيعاتها من النفط الخام، اتجهت هذه الدول للاستثمار في قطاع الإعلام، وامتلكت العديد من وسائل الإعلام العربي في منطقة الشرق الأوسط.

وحسب خبراء فإن المملكة العربية السعودية تحتل قمة الاستحواذ على القنوات، والمنصات الإعلامية، تليها الإمارات، ثم قطر. وفي تصريحات سابقة دعا وزير الإعلام السابق أسامة هيكل إلى التحقق من مصادر تمويل المؤسسات الصحفية، والإعلامية، لافتًا إلى أن من يملك المال يملك التوجيه.

وتمتلك مؤسسة “أبوظبي للاستثمار الإعلامي” 25 علامة تجارية في قطاعات التلفزيون والراديو والنشر والإعلام الرقمي، إلى جانب كونها شريكا بـ50% في قناة “سكاي نيوز عربية”.

وعلى نحو يوضح اتجاهات الاستحواذ على المنصات الإعلامية يقول الناشر هشام قاسم، إن ضخ الأموال في الإعلام يسير في اتجاهين: أولهما الاستثمار، وهو صناعة مربحة بالضرورة، وهذا أيضا يشمل الصحف. أما الهدف الثاني يتمثل في فرض دعاية معينة، وهذا يتأتى من ميزانية سنوية تضخ لأفراد محددين داخل الكيانات الإعلامية للترويج، أو الدفاع، حسبما يقتضي الأمر.

وتعد مجموعة “MBC” السعودية، والتي تبث من القاهرة تحت مسمى “MBC مصر” الأكثر ربحية نظير نسب المشاهدة، ومحتواها المتصدر، قياسا على ميزانيتها الضخمة، وحسب تصريحات لمديرها بأنها “فخر السعودية”.

أضاف “قاسم” لـ”مصر360″ أن الاستعانة بفريق عمل محترف للوصول إلى الصدارة، ومغازلة أذواق الجماهير لتحقيق الأرباح هدف أساسي للعمل الإعلامي. لكن ذلك لا يمنع أثر زيادة الجرعات الترفيهية في تسطيح الوعي. لافتا إلى أن بث قناة “MBC” من مصر يعطيها مصداقية أعلى، بجانب تحقيق هدف أن المملكة لا تريد فتح مجال إعلامي أكبر في الداخل.

الرغبة في لعب دور إقليمي

ورغم سيطرة قنوات “روتانا” و”art” على الإعلام الفني، واحتكارها عشرات المطربين المصريين، وتوجهها إلى المنصات الإلكترونية مثل “ديزر”، شجعت هيئة الترفيه شركات أخرى مثل “بنش مارك”. كما تعمل هذه المنصات للحفاظ على صدارة المملكة كسوق حفلات موسيقية مفتوح طوال العام. لدرجة استغلالها لمطربي المهرجانات، وتنظيم حفلات صاخبة لهم بعد إيقافهم من قبل نقابة الموسيقيين.

وإلى ذلك، وفي سياق الصدارة الإعلامية قال نقيب الصحفيين الأسبق “قلاش”: “الرغبة في لعب دور إقليمي تستلزم امتلاك منصات إعلامية”، لافتا إلى أن دول الخليج تمتلك صحفا ورقية، ومراكز أبحاث إعلامية، ومنصات إلكترونية.

وفرق “قلاش” بين الإعلام الرسمي الذي يبث داخل الدولة الممولة، والآخر الذي يبث من خارجها بتمويل مباشر. كما أشار إلى أن الأخير يلعب في الفراغ دون مواجهة، ويشكل جزءا كبيرا من المشهد، في ظل ضعف منافسة الإعلام المصري كأحد أبرز ركائز القوى الناعمة.

ولم يخف تأثير الإعلام الممول على الوعي المصري، والثقافي نظير كونه يعرف جيدا جمهوره المستهدف، ومعني برسائله، معربا عن تخوفه من تأثر المجتمع بهذه الرسائل مثلما حدث إبان فترة السبعينيات بعد سفر قطاع كبير من المصريين للخليج، واستيراد ثقافات أصبحت بعد بضع سنين من ثوابت المجتمع.

وقال: “عوامل الحماية راسخة في المصريين رغم التمويل، ورسائله، وأبرزها أن الثقافة في مصر ليست سطحية”.

مهرجانات الكويت والشارقة

معرض الشارقة للكتاب

مؤخرًا، شهدت منطقة الخليج تطورا ملحوظا فيما يتعلق بالاهتمام بالثقافة ومنتجاتها، وبصفة خاصة دول الكويت والإمارات والسعودية. انعكس على حركة النمو والاقتصاد فيها. مقابل تخوفات أخرى على تراث القاهرة الثقافي المتراجع.

“محمد إبراهيم أبوسنة” الشاعر الحاصل مؤخرا على جائزة العويس في الشعر، وهي الجائزة التي أسسها الشاعر الإماراتي الراحل سلطان العويس، قال إن بعضًا من دول الخليج لها بالفعل دور بارز في صناعة الثقافة. وضرب المثل بدور “الكويت” في نشر المعرفة من خلال إصدار سلاسل متخصصة في الثقافة والعلوم، مثل مجلتي “عالم المعرفة”، و”العربي”، وسلسلة “عالم الفكر” الفلسفية. كما لفت إلى أن الجوائز التي ترصدها دول الخليج للمبدعين والمفكرين، خاصة الكويت تعتبر نموذجا، لكونها تساهم في الارتقاء بالثقافة العربية.

الشيخ سلطان القاسمي أمير الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، حسب رؤية “أبو سنة” يؤدي دورا في ملف الثقافة من خلال معرض الشارقة الدولي للكتاب. بالإضافة إلى بعض المساهمات الثقافية لسلطنة عُمان، والتي تتمثل في مجلة “نزوى” وبعض المطبوعات، والمؤتمرات الثقافية. أما في السعودية يعقد مهرجانات الجنادرية للتراث الشعبي، وعكاظ للشعر، الذي يرصد جائزة سنوية للشعر.

هذه الطفرة الثقافية التي تميل بقوة إلى الاستحواذ على المشهد الثقافي العربي وصفها الناقد “شريف الجيار” بأنها تنعكس على الصالح العربي. لكن ذلك ينبغي أن يلفت نظر وزارة الثقافة المصرية لتنشيط مكانتها، واسترداد القاهرة لريادتها الثقافية.

واستطرد قائلا: “مصر هي الرائدة للثقافة العربية على مر العصور بتاريخها الثقافي، والتراثي، ولا ينبغي أن تتراجع”.

كما اعتبر أن الدعم المادي الكبير الذي تقدمه دول الخليج للقطاع الثقافي العربي، تجاوز مرحلة إنفاق الأموال إلى مرحلة إنتاج الثقافة، وصناعتها. كذلك أشار إلى أن إنفاق 5 ملايين دولار على الأنشطة الثقافية سنويا يعد استثمارا له عائد ربحي من جهة، وطريق لعقد بروتوكولات ثقافية مع دول زائرة للخليج.