مَن المستفيد من ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان؟. يفرض ذلك السؤال نفسه حاليًا في ظل الغموض الذي يكتنف الاتفاق بين الطرفين الذي يشهد معارضة داخلية وتصفه وسائل الإعلام الغربية -خاصة الأمريكية- بـ”الاتفاق التاريخي” وبـ.”كامب ديفيد” جديد.

ومن المقرر أن يمنح الاتفاق إسرائيل سيطرة كاملة على حقل غاز “كاريش” الذي يقع على بعد نحو 80 كيلومتر غرب مدينة حيفا. مع تقاسم حقل “قانا” المجاور لها. أو بمعنى آخر ستحصل لبنان على حق التنقيب مع حصول إسرائيل على عائدات مستقبلية.

وقد اتبعت “تل أبيب” في التفاوض مبدأ “عصفور في اليد خير من 10 على الشجرة”. فمسئولوها غير متأكدين من كمية الغاز بحقل قانا على عكس حقل “كاريش” و”تانين” المجاور له. الذي تسيطر عليه إسرائيل. والحقلان يحتويان على 2.4 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي.

كما أعلنت شركة توتال إنرجيان للتنقيب عن الغاز اكتشافا جديدا قبالة سواحل دولة الاحتلال يتضمن بين 7 و15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في هيرميس. التي تقع جنوب شرق حقل غاز كاريش. ما يعني أنه لا يقع داخل المنطقة المتنازع عليها مع لبنان.

الاتفاق يدر مليارات على خزينة إسرائيل

حقل كاريش على الخريطة
حقل كاريش على الخريطة

بحسب يائير لابيد -رئيس وزراء إسرائيل- فإن حقل كاريش سيعمل وينتج الغاز الطبيعي. ما يؤدي لتدفق الأموال وضمان استقلال الطاقة. مؤكدا أنه لا يعارض تطوير حقل غاز لبناني إضافي ستحصل منه تل أبيب بالطبع على حصة.

واستغرق الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل عامين من المفاوضات. قبل أن يصل إلى محطته الأخيرة. وخلال العامين تشابك السياسي والاقتصادي وخلالهما ولد الاتفاق الذي قوبل بردود فعل متباينة.

وظهر الخلاف على الحدود البحرية بين البلدين على مدار السنوات القليلة الماضية. باعتباره امتدادًا غير متوقع للحرب الإسرائيلية الطويلة مع “حزب الله”. وأدى اكتشاف احتياطيات الغاز الطبيعي البحرية المجاورة لكلا البلدين إلى مطالبة لبنان بإعادة رسم حدود المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدين في البحر الأبيض المتوسط حيث توجد الرواسب.

3 مليارات دولار أم حقل فارغ؟

حقل كاريش كنز غاز لإسرائيل
حقل كاريش كنز غاز لإسرائيل

واكتشفت إسرائيل الغاز شرق المتوسط ​​في عام 2009. وبدأت الإنتاج عام 2013. وبدأ لبنان مفاوضاته حول حدوده البحرية عام 2020 بوساطة أمريكية.

وواجهت المفاوضات معضلة في تأكيد لبنان بداية حيازته لنحو 860 كيلومترًا مربعًا (332 ميلًا مربعًا) من المياه الإقليمية. لكنه عدل العرض ليشمل 1430 كيلومترًا مربعًا إضافيًا. بما فيها جزء من حقل غاز “كاريش” الذي كانت إسرائيل تطلبه كاملاً.

ليئور شيلات -مدير عام وزارة الطاقة الإسرائيلية- قال إن تقديرات مكتبه وشركة توتال إنرجيز التي تمتلك امتياز التنقيب في خزان قانا المتنازع عليه تشير إلى أن الربح المحتمل من المنطقة المعنية يبلغ ثلاثة مليارات دولار فقط.

وأوضح أن إسرائيل لن تتمكن من معرفة الأرقام الدقيقة حتى يبدأ الحفر في الموقع. ومن المحتمل أيضًا أن تكون قانا جافة تمامًا -حسبما أفاد موقع “والا” الإسرائيلي الاستخباراتي.

وحال العثور على الغاز في الخزان فسيتم تقسيم الأرباح بين إسرائيل ولبنان وتوتال إنرجيز. ومع الإقرار النهائي للاتفاقية ستضفي إسرائيل الشرعية على سيطرتها على الخزانات الأخرى في البحر الأبيض المتوسط ​​الأكثر ربحية بكثير. كما تكسب إسرائيل اعترافًا دوليًا بحدودها التي تحمل علامات العوامات على بعد خمسة كيلومترات من ساحل بلدة “روش هانيكرا” الشمالية التي أنشأتها إسرائيل عام 2000.

بينما يشير اجتماع مجلس الوزراء الإسرائيلي إلى الإنجازات السياسية والأمنية التي ستجلبها لها الاتفاقية.

إسرائيل: اتفاق “تاريخي” يعزز  الأمن ومصالح الاقتصاد

 

لابيد وانتصار ترسيم الحدود مع لبنان
لابيد وانتصار ترسيم الحدود مع لبنان

تشارك رئيس الوزراء الاسرائيلي التوجه الأمريكي في الاتفاق ووصفه بأنه “تاريخي وسيعزز أمن إسرائيل وسيضخ المليارات في اقتصادها وسيكفل استقرار حدودها الشمالية”. ويعتبر الاتفاق “نصرا” لرئيس الوزراء بعد رحلة تأسيسه حزب “هناك مستقبل”. بينما قوبل الاتفاق برفض من زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو  واليمين الإسرائيلي.

هدد نتنياهو بأنه لن يلتزم بالاتفاق حال نجاح حزبه بانتخابات الأول من نوفمبر/تشرين الثاني وتوليه منصب رئاسة الحكومة. بينما تمرير الاتفاق دون طرحه على البرلمان الإسرائيلي ليس قانونيا. وبالتالي هذا يفسر رغبة اليمين الإسرائيلي التوجه للمحكمة لإبطال الاتفاق.

وسبق وسنّ الكنيست “البرلمان الإسرائيلي” في عام 2014 قانونا يجبر أي حكومة على إجراء تصويت برلماني على أي قرار أو اتفاق يقضي بالانسحاب من أراض تحت السيادة الإسرائيلية.

ولا تزال الصفقة بحاجة إلى موافقة البرلمان الإسرائيلي. وقد تواجه بعض العقبات في ظل فقدان حكومة يائير لابيد أغلبيتها. إذ رفض اليمين المتطرف في إسرائيل الاتفاق وهدد باللجوء إلى المحكمة العليا بدعوى أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية “يعني تنازل عن أراض تقع تحت سيادة إسرائيل”. بينما أعلن حسن نصر الله أمين عام “حزب الله” اللبناني أنه يوافق على الاتفاق ما دام يحقق مطالب الدولة اللبنانية.

من جانبها وصفت أمريكا الاتفاق بأنه “اختراق تاريخي”. وقدمت تعهدات لإسرائيل بعدم توجيه عائدات الغاز  إلى “حزب الله”. لكن الاتفاق يثير انقسام الإسرائيليين. فبينما أشادت به شخصيات أمنية تخشى تهديدات “حزب الله” بضرب أصول الغاز الطبيعي الإسرائيلية في البحر المتوسط أدانه رئيس الوزراء السابق وزعيم المعارضة نتنياهو.

وأشاد الرئيس الأمريكي جو بايدن بما سماه “حالة الانفتاح بين الإسرائيليين واللبنانيين” لتحقيق مصلحة شعبي البلدين. وحددت إدارة بايدن حل نزاع الحدود البحرية كـ”أولوية رئيسية” من شأنها تعزيز الاستقرار في المنطقة.

إيران حاضرة في الاتفاق

مسيرات حزب الله فوق حثل كاريش
مسيرات حزب الله فوق حثل كاريش

مع تراجع حظوظه السياسية وسط الانهيار الاقتصادي في لبنان والفساد المستشري أرسل “حزب الله” ثلاث طائرات دون طيار فوق حقل غاز كاريش الإسرائيلي في يوليو/تموز الماضي. ثم هدد بالضرب إذا لم يتم حل الخلاف على الحدود البحرية الإسرائيلية اللبنانية.

ورغم مناوشات “حزب الله” هناك اتجاه يرى أنه يتجنب التصعيد مع إسرائيل. ويكتفي بالتهديد باستخدام صواريخه وطائراته المسيرة. وهذا قد يحقق نتائج أكثر من الأسلحة نفسها. وأن حربا أخرى يمكن أن تكون لها تداعيات أسوأ على الحزب من تقديم تنازلات لعدوه اللدود.

لا تغيب إيران عن الاتفاق. إذ تمر طهران بموقف صعب “احتجاجات مقتل مهسا أميني” حيث يسعى نظامها المنهك للتماسك. وربما يريد تهدئة الأوضاع للوصول إلى صيغ تفاهم سواء في الاتفاق النووي أو ساحات الصراع الإقليمي.

وكان موقف رئيس الجمهورية اللبناني العماد ميشال عون ملخصا في قوله إن إنجاز اتفاقية ترسيم الحدود سيمكّن لبنان من استخراج النفط والغاز. وبالتالي سينتشل لبنان من الهاوية التي أُسقِط فيها. وأشار إلى أن الاتفاقية هدية للشعب اللبناني.

وكانت بيروت على عِلم بأن الفشل في التوصل إلى اتفاق سيؤدي إلى رد فعل داخلي عنيف. لأن اقتصاد لبنان لا يمكنه تحمُّل المزيد من التوترات مع المجتمع الدولي.

وتأمل القيادة السياسية أن تفتح الموافقة على إبرام اتفاق تتوسط فيه الولايات المتحدة بشأن الترسيم العام للحدود البحرية أبوابا أخرى. مثل تسهيل نقل الغاز المصري عبر إسرائيل إلى لبنان.

أمريكا.. السعي للتضييق على روسيا وإيران

الرئيسان الفرنسي والأمريكي ماكرون وبايدن
الرئيسان الفرنسي “يسار” والأمريكي ماكرون وبايدن

بالنسبة لأمريكا -التي قامت بدور الوسيط- فإن صفقة ترسيم الحدود البحرية تساعد الجهود الأمريكية لقمع إيران وعزل روسيا ودعم أمن الطاقة الأوروبي. بينما تحدث مسئولون إسرائيليون وفرنسيون عن دور للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في دعم المفاوضات لحل مشكلة الطاقة.

بالنسبة للبنان لم تواجه واشنطن تحديًا. فالوضع الاقتصادي الكارثي وتوفر الكهرباء لمدة ساعتين يوميًا جعلت بيروت مستجيبة.

الدكتور أحمد سلطان -المتخصص في شئون النفط والطاقة- يقول إن أمريكا ضغطت على شركات الحفر والتنقيب العالمية لعدم مباشرة العمل مع لبنان قبل تسوية نزاعه مع إسرائيل أولًا على ترسيم الحدود البحرية.

يضيف أنه قبل الاتفاق لا يحق لأي طرف أن يبدأ التنقيب. ومع غياب الحماس لدى الشركات الأجنبية للتنقيب في أماكن متنازع عليها يمكن لإسرائيل فعل ذلك عبر شركاتها الخاصة. وهي بالطبع تستفيد من الحماية الأمريكية ولن تتعرض لأي ضغط أمريكي أو أوروبي.

لبنان في حاجة إلى غاز الاستقرار

معاناة لبنان من نقص الكهرباء
معاناة لبنان من نقص الكهرباء

يقول الرئيس اللبناني ميشال عون إن الصيغة النهائية للعرض -اتفاق ترسيم الحدود البحرية- تُرضي بلاده وتلبي مطالبه وتحافظ على حقوقه في ثروته الطبيعية.

ولا توجد علاقات دبلوماسية بين لبنان إسرائيل. إذ كانتا في حالة حرب منذ تأسيس الأخيرة عام 1948. وليس لديهما حدود برية متفق عليها ولكنهما ملتزمتان بوقف إطلاق النار على طول ما يعرف باسم “الخط الأزرق”. أو الحدود التي رسمتها الأمم المتحدة بعد انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان عام 2000.

ويمكن للبنان -الذي يعاني نقصًا مزمنًا في الكهرباء- أن يستفيد من الإمداد المحلي بالغاز الطبيعي حتى وإن استغرق وصول الغاز إلى المستهلكين سنوات. خاصة مع الوضع السيئ للبنية التحتية والاقتصادية في لبنان.

وبحسب مسئولين لبنانيين فإن اتفاق الحدود “نعمة لبلادهم” التي هي في أمسّ الحاجة إليه لتحقيق الاستقرار. لكنهم أكدوا مرارًا وتكرارًا أن ذلك “لن يكون خطوة نحو مزيد من التطبيع مع إسرائيل”. وذلك فيما يبدو إشارة لتطبيع دول عربية علاقاتها مع إسرائيل.

وتوقف مصرف لبنان المركزي تمامًا عن توفير الدولار لواردات البنزين. في خطوة أدت إلى ارتفاع أسعار الوقود بشكل كبير. حيث قفز سعر 20 لترا من البنزين بواقع 20 ألف ليرة. وهي زيادة حادة مقارنة بتقلبات يومية عادية بواقع آلاف قليلة من الليرات في الأسابيع السابقة.

ولا يزال حقل قانا مجهولا حاليا فيما يتعلق باحتياطياته من الغاز. فإذا صحت التوقعات الإسرائيلية بعدم وجود كميات كبيرة من الغاز ستكون بيروت قد اشترت المجهول حال وصولها إلى اتفاق نهائي مع الجانب الإسرائيلي.

اتفاق “كامب ديفيد” جديد

مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل
مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل

واعتبرت أصوات عربية عدة أن الاتفاق بين إسرائيل ولبنان بمثابة “كامب ديفيد” جديدة. وفعليا ربما يفتح الاقتصاد أبواب التعاون بين لبنان وإسرائيل التي لا تزال تعتبر نفسها في حالة صراع مع لبنان تعززها سنوات الحرب والمواجهات العسكرية.

وتشير  حنين غدار في تحليل نشرته في معهد واشنطن إلى أن الاتفاق يمكن أن يسفر عن واقع وسردية جديدين على الحدود الجنوبية مع إسرائيل. وربما تراجع لحدة التوترات.

وسبق أن هدد وزير الدفاع بيني جانتس قبل الوصول إلى الاتفاق  بأنّ “لبنان سيدفع ثمنا عسكريا باهظا إن حاول حزب الله ضرب المصالح الإسرائيلية”.

وبعد إقرار الاتفاق يمكن أن يخف الصراع لكنه لن ينهي التوترات المتصاعدة بينهما على طول “الخط الأزرق”. أي الحدود البرية التي تمتد من الساحل إلى الحدود السورية. والتي ما زالت ساحة للهجوم الإسرائيلي بما فيها استهداف قوات “حزب الله” المتمركزة في سوريا.

ويقول الدكتور رمضان أبو العلا -خبير البترول والطاقة- إن لبنان هو الطرف الأضعف في المفاوضات حاليًا. فليس لديه القدرة على مواجهة إسرائيل والضغط الأمريكي الكبير الذي يستهدف توفير الغاز لأوروبا ومواجهة روسيا. وكان ذلك الحافز أيضًا لمساع أمريكا لعقد مصالحة بين الأطراف الليبية.

ويضيف “أبو العلا” أنه حال إقرار ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان ستستفيد مصر من تلك الاتفاقية بزيادة الكميات الواردة من إسرائيل لمحطتي الإسالة في إدكو ودمياط. اللتين لديهما القدرة على إسالة 130 مليون طن سنويا تعادل 20 مليار متر مكعب من الغاز وتصديرها لأوروبا. وهي كمية كفيلة بتعويض توقف الغاز الروسي.