في بقاء المستشار الجليل هشام جنينة في السجن انتقاص كامل من كل دعوات الانفتاح السياسي التي تؤكد عليها السلطة الحالية ورجالها ليل نهار. في كل يوم يقضيه “جنينة” في سجنه تشكيك جديد في أحلام البعض في مستقبل مختلف عن السنوات الفائتة، التي هي سنوات الحكم الفردي المطلق.

هشام جنينة هو أحد أهم رموز حركة استقلال القضاء التي سبقت ثورة يناير الخالدة، وشكلت واحدة من إرهاصات الثورة ومقدماتها.

اقرأ أيضا.. تواصل لا انقطاع.. من جيل “الاستقلال” إلى جيل “الحرية”

بكل الحسابات المنطقية فإن كل رهان على مستقبل مختلف لا يبدأ من نقطة إطلاق سراح كل سجناء الرأي والعمل السياسي الذين لم يتورطوا في العنف لن يجدي، وفي مقدمة هؤلاء رموز العمل الوطني والسياسي الذي يعد جنينة واحدا من أبرزهم.

سنوات قضاها المستشار الجليل خلف القضبان والجميع يعلم أن تهمته الرئيسية هي الخلاف السياسي المشروع مع السلطة الحالية، فلم يكن الرجل في يوم من الأيام من دعاة العنف، ولم يشكل خطرا على البلد ولا أهله، بل كان في أعين الجميع مستشارا كبيرا آمن بحق مصر في الحرية والعدل الاجتماعي، وبحتمية استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية ليبقى حصنا منيعا يصون حقوق الناس ويحفظ حرياتهم.

وقت وجود جنينة على رأس الجهاز الرقابي الأهم في مصر، الجهاز المركزي للمحاسبات، لم يخضع إلا لضميره، كشف وكتب وأعلن ما يراه صحيحا، وما يناسب تاريخه ناصع البياض، لم يهادن الفساد ولم يتستر عليه، ولم يستسلم لتوازنات ومواءمات خوفا من صاحب سلطة أو سلطان، قال ما يظنه صحيحا، وأعلن ما اعتقد أنه في مصلحة مصر ومستقبل شعبها، والعجيب وغير المفهوم أن يدفع الرجل ثمن إخلاصه للبلد، وضريبة حفاظه على أموال الناس وثروة الوطن.

في غمرة أزمة اقتصادية كبيرة تعيشها مصر بات تكريم كل من تحدث عن الفساد وتصدى له هو الأحق والأصدق، ولمن لا يعرف فإن جنينة قد أعد دراسة وقت رئاسته للجهاز المركزي للمحاسبات كشف فيها أن الأعوام من 2012 إلى 2015 شهدت عمليات وإجراءات فساد يمكن تقديرها بـ600 مليار جنيه، وقالت الدراسة المهمة التي أعلنها المستشار الجليل، وحملت عنوان “دراسة عن تحليل تكاليف الفساد بالتطبيق على بعض القطاعات في مصر” إنها اعتمدت على تقارير الجهاز نفسه في الفترة من عام 2012 حتى عام 2015.

كما ضمت حصرا بتكلفة المخالفات التي كشفها الجهاز في الهيئات الاقتصادية والخدمية وقطاعات البترول والصحة والأدوية والأوقاف والسياحة والتأمين الاجتماعي والقطاع المصرفي ووحدات الإدارة المحلية والهيئات العامة والخدمية التابعة لقطاع البيئة والتي وصلت لـ600 مليار جنيه على الأقل.

وقتها اتهم بعض المحسوبين على السلطة الحالية “جنينة” بالمبالغة في تقدير حجم الفساد ونتائجه، حدث هذا قبل أن ندرك جميعا ومع مرور السنوات التكلفة الفعلية للفساد التي تبدد ثروة البلد، وتهدر الملايين سنويا في عمليات وإجراءات تخالف القانون وتبدد المال العام.

وللتذكير فإن منظمة الشفافية الدولية وضعت مصر في المركز 117 من 180 دولة في مؤشر مكافحة الفساد العالمي، وتقدمت مصر درجتين في تقرير المنظمة السنوي لعام 2020 حول مؤشر الفساد العالمي حيث أصبح تقييمها 33 نقطة من أًصل 100 نقطة.

وقالت المنظمة وقتها إنها رصدت تحديات فساد فيما يتعلق بجائحة كورونا، بعدما “افتقرت المستشفيات والمراكز الصحية إلى الموارد والتنظيم اللازمين للاستجابة بفعالية للموجة الأولى من كورونا، وعانت المستشفيات العامة من نقص الإمدادات والموظفين، حيث أصبح العديد من مقدمي الرعاية الصحية في حالة مرض خطيرة”.

بنظرة مدققة على التقارير الصحفية المنشورة خلال السنوات الماضية والتي تكشف العمل الذي تقوم به هيئة الرقابة الإدارية يمكن الاطمئنان التام لما ذكره المستشار “جنينة” عن حجم الفساد وتأثيره في مصر، فضربات الرقابة الإدراية ضد الفساد طوال السنوات الفائتة كشفت إهدار -أو محاولات لم تتم- لمئات الملايين في الهيئات والمؤسسات التابعة للدولة، أبطالها مسئولين وموظفون حاولوا الاستيلاء على أموال وثروات البلد بعيدا عن أعين القانون، ففي تقرير نشرته الأهرام في بداية عام 2018 قالت الصحيفة إن الرقابة الإدارية وجهت في بداية العام 15 ضربة قوية للفساد، وألقت القبض على مسئولين، وفي لافتة موحية ذكرت أن الهيئة ألقت القبض على “مسئولين قبل الاستيلاء على أرض بقيمة 1.4 مليار جنيه!”.

عملية واحدة فقط خلال عام واحد كادت أن تهدر مليار و400 مليون جنيه، وما زال بيننا من يتهم جنينة بالمبالغة في أرقامه عن الفساد، في محاولة مكشوفة للإيحاء بأن الرجل أعلن الأرقام المفرعة بسبب خلافه مع السلطة الحالية، وهو اتهام باطل ليس هناك ما يدعمه.

الإفراج العاجل عن المستشار هشام جنينة بات مطلبا طبيعيا وعادلا، فجنينة وأمثاله ليس مكانهم السجون بل إن مكانه الطبيعي وسط أهله وأسرته، وعمله الطبيعي هو أن يكون في مقدمة الصفوف الوطنية التي تناضل من أجل وطن الحرية والعدل الاجتماعي واحترام حقوق الإنسان، وبغير إطلاق سراح “جنينة” ورد اعتباره فكل حديث عن حوار وطني أو انفتاح سياسي يبقى مجرد وهم، فليس هناك ما يمكن تصديقه حول جدية دعوات الانفتاح بينما الشرفاء ما زالوا رهن السجون في قضايا سياسية في الأساس، وليس هناك من يمكن أن يقتنع بأن من ناضل ليصون ثروات البلد ما زال سجيناً بينما هناك من يتغنى بأن القادم أفضل.

أطلقوا سراح المستشار هشام جنينة الآن وليس غدا، وافتحوا أبواب الحرية لكل هؤلاء الذين ما زالوا في السجون فقط لأنهم حلموا لوطنهم بالأفضل، ولمستقبلهم بالحرية والكرامة.

جنينة ينتظر حقه في الحرية ورد الاعتبار، أما حقه الطبيعي والمشروع في التكريم المستحق فسيحصل عليه من خلال الشعب المصري نفسه في يوم سيكون قريبا مهما ابتعد، وهو يوم آت لا محالة.