تشهد العلاقات السعودية الأمريكية توترا ملحوظا منذ قرار “أوبك +” الرافض لتأجيل خفض إنتاج النفط لشهر واحد فقط، وهو القرار الذي اعتبرته الإدارة الأمريكية انحيازا لروسيا في معركتها، وتهديدا مباشرا لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن قبيل انتخابات الكونجرس المقررة في نوفمبر المقبل. خاصة أن التأخير لمدة شهر واحد الذي طلبته واشنطن كان يعني خفض الإنتاج في الأيام التي تسبق الانتخابات، وهو ما سيكون له تأثير كبير في محافظ المستهلكين قبل اقتراعهم الانتخابي.
أزمة (أوبك +) -اتفاق يضم 23 دولة منها 13 دولة مصدرة للبترول- جددت الصراع بين “بايدن” الذي وصل إلى منصبه متعهدا بمعاملة المملكة باعتبارها منبوذة بسبب حقوق الإنسان، ومقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي عام 2018 وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يبدو مصمما على رسم سياسة خارجية مستقلة عن النفوذ الأمريكي، في خروج عن التبعية السعودية المطلقة للولايات المتحدة الأمريكية منذ ثمانية عقود.
كما أن تلك الأزمة فتحت الباب أمام الكثير من التساؤلات المتعلقة بما إذا كان التصعيد الأخير انتكاسة جديدة في العلاقات، التي أخذت في التحسن قليلا بعد زيارة بايدن للمملكة في يوليو/تموز الماضي. أم أنها محاولة من جانب الرياض للحصول على ضمانات أمريكية بشأن إيران في ظل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الجارية، وتمرير مطالب متعلقة بأزمات الإقليم وعلى رأسها الأزمة اليمنية؟
اقرأ أيضا.. زيارة السيسي إلى الدوحة.. دلالات التوقيت وملفات التقارب
البنزين والانتخابات الأمريكية
يتوجه الناخبون الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات النصفية للكونجرس المقررة في الثامن من نوفمبر/تشرين ثاني المقبل، والتي سيتم فيها انتخاب كامل أعضاء مجلس النواب (435 عضوا)، و34 عضوا من أصل 100 عضو في مجلس الشيوخ، وأكثر من ثلث حكام الولايات.
ويتمحور السؤال حول أداء الرئيس بايدن والديمقراطيين في هذه الانتخابات، التي تُمثل استفتاءً حول شعور الناخبين تجاه الرئيس في البيت الأبيض.
ويدرك “بايدن” أن خسارة الديمقراطيين في انتخابات التجديد النصفي ستدفعه للاعتماد على الفيتو لمنع الجمهوريين من تمرير أي قوانين تخالف توجهاته. إذ أن سيطرة الجمهوريين على الهيئة التشريعية ستحد من قدرته على تنفيذ أجندته للفترة المتبقية من ولايته الأولى الممتدة حتى موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024.
ورغم أن “بايدن” تمكن من تمرير بعض بنود أجندته التشريعية، فإنه ما زال أمامه بعض القضايا الاجتماعية والسياسية المهمة التي يرغب في تمريرها قبل الاستحقاق الرئاسي المقبل.
ومنذ مطلع الصيف الجاري بذل بايدن مجهودا كبيرا لتعديل مؤشرات رضا الأمريكيين عن الأوضاع، لتجنب تحقيق الجمهوريين نصرا كاسحا في الانتخابات المرتقبة. كان أبرز نجاح حققه الرئيس الأمريكي في هذا الإطار هو النزول بسعر جالون البنزين في محطات التزود بالوقود من 5 دولارات وصل إليها مع بداية وصوله للبيت الأبيض، إلى 3.6 دولار للجالون. ليعدل مؤشرات استطلاعات الرأي بشأن رضا الناخبين عن أدائه، لتتحول من 37% مطلع الصيف الجار، إلى 42% مؤخرا.
ويمتلك “بايدن” فرصة دفع ثمن أقل في انتخابات نوفمبر/تشرين ثاني المقبل في حال عدم حدوث ارتفاع جديد في أسعار البنزين، وهي الفرصة التي مثل قرار “أوبك +” الأخير الذي جاء بمباركة سعودية تهديدا لها. إذ يشعر المستهلكون الأمريكيون بحساسية خاصة تجاه أسعار البنزين، ويعتبرونها مؤشرا على تكاليف الحياة.
تعقيدات المشهد الداخلي الأمريكي المرتبط بصراع الطاقة، واقتراب موعد الانتخابات، تعود أيضا للمغامرة الكبيرة التي أقدمت عليها إدارة “بايدن” للسيطرة على سوق الطاقة، بقرار استخدام الاحتياطي الاستراتيجي للبلاد من النفط. حيث عملت وزارة الطاقة الأمريكية من خلال استخدام 160 مليون برميل من النفط الخام منذ مارس/آذار الماضي -ربع المخزون الاحتياطي تقريبا- على خفض مستوى ذلك الاحتياطي إلى أدنى مستوياته منذ أربعة عقود.
مواصلة استخدام الاحتياطي قد يشكل اختبارا لأمن الطاقة في الولايات المتحدة، خاصة في ضوء القرارات الجديدة وعدم بدء الإدارة الأمريكية في إعادة ملء الاحتياطي، حيث مددت استخدامه، بدلا من وقف تلك الخطوة في أكتوبر الجاري كما كان مخططا.
رسائل متبادلة
في أعقاب القرار أعلن متحدث باسم البيت الأبيض الثلاثاء الماضي أن الرئيس جو بايدن يريد “إعادة تقييم” علاقة واشنطن مع الرياض. بينما دعا نواب نافذون إلى وقف عمليات تسليم الأسلحة للسعودية.
وأفاد المتحدث باسم مجلس الأمن القومي جون كيربي في مداخلة له على قناة “سي إن إن” بأن الرئيس الأمريكي جو بايدن “كان واضحا للغاية في أنه يتعين علينا إعادة تقييم علاقتنا مع السعودية، وأن نكون مستعدون لإعادة النظر فيها “. كما أضاف أن بايدن “مستعد للعمل مع الكونجرس للتفكير فيما يجب أن تكون عليه هذه العلاقة في المستقبل”.
في مقابل ذلك أكدت المملكة، رفضها لـ”التصريحات الصادرة تجاهها” بعد قرار “أوبك +”، مشددة على أنها لن تقبل أية إملاءات.
البيان السعودي الذي جاء ردا على التصريحات الأمريكية، تضمن بين طياته رسائل عديدة، تركزت في مجملها على الشكل الذي يجب أن تكون عليه العلاقات بين البلدين بحيث تقوم على المصلحة المشتركة التي يراعي فيها كل طرف المخاوف والضغوط الواقعة على الطرف الآخر. وأن ذلك يجب أن يسير في الاتجاهين وليس في اتجاه واحد فقط.
وأكدت السعودية خلال البيان أنها “تنظر لعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية من منظور استراتيجي يخدم المصالح المشتركة للبلدين”.
وشددت على “أهمية البناء على المرتكزات الراسخة التي قامت عليها العلاقات السعودية الأمريكية على مدى العقود الثمانية الماضية، المتمثلة في الاحترام المتبادل وتعزيز المصالح المشتركة، والإسهام الفعال في الحفاظ على الأمن والسلم الإقليمي والدولي، ومكافحة الإرهاب والتطرف وتحقيق الازدهار والرخاء لشعوب المنطقة”.
مقايضات إقليمية
لم تنتظر السعودية كثيرا في أعقاب موقفها الذي أثار غضب الإدارة الأمريكية، حتى تبعث برسائلها الواضحة، التي تتضمن مطالبها ومخاوفها إزاء سياسات واشنطن بشأن محيطها الإقليمي.
وخلال جلسة مجلس الأمن الدولي التي عقدت، الخميس الماضي حول الأوضاع في الشرق الأوسط، دعت المملكة المجلس إلى تصنيف جماعة أنصار الله الحوثية في اليمن، كجماعة إرهابية، مؤكدة ضرورة “مقاطعتها وتجفيف منابع تمويلها”، وهي الجماعة التي سبق وأوقعت خسائر فادحة في المنشآت النفطية السعودية.
“بايدن” كان اتخذ عقب توليه الرئاسة الأمريكية قرارا بسحب الدعم العسكري للعمليات التي تقودها السعودية في اليمن، وشطب جماعة الحوثي من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية، بعدما أدرجتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب مبررة ذلك بصلتهم بإيران.
تجديد السعودية مطلبها بإدراج جماعة الحوثي على قائمة الإرهاب، جاءت في الوقت الذي عبر فيه المبعوث الأممي إلى اليمن هانس جروندبيرج، الخميس الماضي ، عن أسفه لعدم تجديد الهدنة في اليمن، مؤكدا أن “العودة إلى الحرب ستعني تجديد وزيادة معاناة المدنيين اليمنيين”.
السعودية جددت طلبها، إذ أكدت أن الفرصة سانحة لطرح مخاوفها المتعلقة بإحياء الاتفاق النووي الإيراني، وجاءت الرسالة هذه المرة على لسان وزير الخارجية فيصل بن فرحان، الذي قال في مقابلة تلفزيونية الثلاثاء الماضي، إن أي اتفاق مع إيران يجب أن يراعي الأمن الإقليمي في المنطقة. مضيفا أن “الاتفاق النووي يجب أن يراعي القصور في الاتفاق السابق”، في إشارة إلى الاتفاق الذي وقعته طهران مع القوى الكبرى عام 2015 وانسحبت منه أمريكا عام 2018.
في مقابل ذلك كشفت صحيفة “وول استريت جورنال”، على لسان مسئولين بارزين، أن إدارة “بايدن” تدرس ما إذا كانت ستنسحب من المشاركة في منتدى الاستثمار “لمبادرة الاستثمار المستقبلية” الذي يعقد في السعودية في وقت لاحق هذا الشهر.
وبحسب مطلعين على الأمر، انسحبت الولايات المتحدة من اجتماع مجموعة عمل بشأن الدفاعات الإقليمية سيعقد الأسبوع المقبل في مجلس التعاون الخليجي، والذي يتخذ من المملكة مقرا له.
إضافة إلى ذلك هدد رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي بوب مينينديز، بمنع أي مبيعات أسلحة للسعودية في المستقبل. وقال مينينديز: “علي أن أشجب القرار الأخير الذي اتخذته الحكومة السعودية للمساعدة في دعم حرب بوتين (في أوكرانيا) من خلال كارتل أوبك”.
وكتب كل من السناتور ريتشارد بلومنثال والنائب في مجلس النواب رو خانا، عمودا في صحيفة “بوليتيكو” اليومية اتخذا فيه الموقف نفسه قائلين: “لا ينبغي لأمريكا منح مثل هذه السيطرة غير المحدودة لأنظمة الدفاع الاستراتيجية إلى دولة متحالفة على ما يبدو مع عدونا الأكبر”.
وكانت واشنطن أعلنت في أغسطس الماضي بيع 300 صاروخ باتريوت ومعداتها للسعودية مقابل 3.05 مليار دولار.