نشرت الجريدة الرسمية قرار وزارة العدل رقم 5959 لسنة 2022، بإنشاء مأمورية بمجمع مركز إصلاح وتأهيل بدر، بمحافظة القاهرة تتبع محكمة استئناف القاهرة، تختص بنظر المحاكمات الجنائية بدلا من مقرها الحالي في معهد أمناء الشرطة بطرة، ويقع ذلك المجمع بمنطقة صحراوية تبعد كثيرا جغرافيا عن القاهرة السكنية، وهو الأمر الذي يمثل بذاته عبئا إضافيا على المتعاملين بهذا القرار، وبشكل خاص المحامين منهم، ومن زاوية التناقض الذي يسود المجتمع المصري، فقد سبق ونشر موقع المصري اليوم على صفحته الإلكترونية بتاريخ أول ديسمبر 2021، قرار وزير العدل رقم 8183 لسنة 2021 والمتضمن إنشاء محكمة جزئية بناحية بني عبيد شمال المنصورة، بحسب الموقع تحقيقا لمبدأ تقريب جهات التقاضي.

اقرأ أيضا.. الغاية من القانون

فأي القرارين يضمن نفاذ نص المادة 97 من الدستور المصري والتي يرى نصها أن: التقاضي حق مصون ومكفول للكافة. وتلتزم الدولة بتقريب جهات التقاضى، وتعمل على سرعة الفصل في القضايا، ويحظر تحصين أى عمل أو قرار إدارى من رقابة القضاء، ولا يحاكم شخص إلا أمام قاضيه الطبيعي، والمحاكم الاستثنائية محظورة.

ولما كان الأمر معني باستعراض قرار وزير العدل الأخير بنقل المحاكمات الجنائية إلى مجمع وتأهيل مركز بدر، فإن ذلك يتناقض بشكل كامل مع ذلك المبدأ الذي يصون نصيا أحد مفردات حقوق المواطنين في اللجوء إلى القضاء لاستقضاء حقوقهم، وهو الأمر الذي أكدته المحكمة الدستورية العليا في القضية رقم 11 لسنة 24 قضائية بقولها أنه “وحيث إن تقريب جهات القضاء من المتقاضين يتوخى ضمان حماية أكثر فعالية لحق التقاضي، إلا أن اللجان المشار إليها بنص المادة الحادية عشرة المطعون عليها لا صلة لها بجهات القضاء، ولا بمواقعها التي تباشر فيها وظائفها، ولا شأن للدستور بقربها منها أو نأيها عنها، ولذلك يكون الادعاء بمخالفتها لأحكامه خليقا بالالتفات عنه”.

وقد أكدت ذلك المحكمة الإدارية العليا، مؤكدة ضرورة احترام الدولة للمبادئ الواردة بالمدونات الحقوقية، وذلك في الطعن رقم 5015 لسنة 39 قضائية: ومن حيث إن المشرع الدستوري إعمالا لحقوق الإنسان طبقا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الاتفاقية الدولية للحقوق المدنية والسياسية التي انضمت إليها مصر وأصبحت جزءا من نظامها القانوني وتحقيقا لسيادة القانون من خلال إخضاع الدولة للقانون قد كفل حق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي، وجعل التقاضي حقا مصونا ومكفولا للناس كافة – وألزم الدولة بتقريب جهات القضاء من المتقاضين وسرعة الفصل في القضايا وحظر النص في القوانين على تحصين أي عمل أو قرار إداري من رقابة القضاء (م 88) كما جعل حق الدفاع أصالة أو وكالة مكفولا من الدولة وضمن لغير القادرين ماليا تحقيق وسيلة اللجوء إلى القضاء والدفاع عن حقوقهم وفقا للقانون – على حساب المجتمع ومصالحه ممثلا في الخزانة العامة للدولة (م 69).

مركز الإصلاح والتأهيل بدر

كما أن تقريب جهات التقاضي يعد أو يمثل وسيلة ضرورية لإنفاذ حق التقاضي ذاته، إذ بدون تقريب جهات التقاضي للمواطنين، حسب محال إقامتهم الجغرافية، لا يمكن تفعيل قيمة الحق في التقاضي من أساسه، وذلك لكون وجود المحاكم أو الهيئات القضائية في أماكن يصعب الوصول إليها أو تمثل عبئا ثقيلا على المواطنين، فإن ذلك يمثل إرهاقا لممارستهم لحقهم في الوصول للقضاء أو النفاذ لجهات التقاضي استيفاء لحقوقهم، وهو الأمر المرتبط ارتباطا وثيق الصلة بمبادئ سيادة القانون وإعمال الدولة للقانون، وخضوع الدولة للقانون بمعناه الشمولي، فمن ناحية احترام الدولة للقانون فإن عدم تقريب جهات القضاء للمواطنين يعد إثقالا منها لاقتضاء الحقوق عن طريق القضاء، وهو الأمر الذي يدفع بهم للبحث عن سبل أخرى لاقتضاء الحقوق، وتعتبر مقاربة العدالة من زاوية النفاذ إلى القضاء والحصول على حكم قضائي بمناسبة نشوء نزاع معيّن ضرورية باعتبارها الآلية القانونية الأساسية لحصول المتقاضين على حقوقهم في كنف احترام الضمانات القانونية، إلاّ أن هذه المقاربة تبقى محدودة باعتبار أن الولوج إلى العدالة اصطلاحًا هو أوسع مجالا، فالعدالة لا ترتبط بالضرورة بالقضاء بل تشمل أوجهًا أخرى فهي تصوّر إنساني مبني على تحقيق التوازن بين أفراد المجتمع على مستوى الحقوق التي تكرّسها المنظومة القانونية وهو ما من شأنه أن يولّد لدى أفراد المجتمع إحساسًا بالعدل وبالمساواة وعدم التمييز. وفي هذا الإطار لا تكون العدالة مفردًا بل هي متعددة، فيجوز أن نتحدّث عن العدالة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعدالة أمام القضاء كوجه من أوجه العدالة. وعلى هذا الأساس يكون اللجوء إلى العدالة أوسع من الحق في التقاضي وشروطه وإجراءاته.

ولكن حتى ولو كانت السياسات الحكومية تتجه نحو التوسع في إنشاء المحاكم والأبنية القضائية، مسايرة منها لزيادة أعداد السكان والذي ينتج عنه زيادة في نسب التقاضي واللجوء لجهات القضاء للفصل في المنازعات، منعا لاقتضاء الحقوق بطرق شخصية أو أساليب فردية، فإن ذلك لا يعد سببا أو دافعا للدولة لإنشاء المحاكم في أماكن بعيدة عن الكتل السكنية أو المجتمعات العمرانية، ولا يمكن التحجج في ذلك بالاتساع الجغرافي أو ضيق الأماكن، بل إن من أهم واجبات الدولة هو تقريب تلك الجهات القضائية، ولا ولن يكون ذلك إلا عن طريق إنشاء المحاكم بداخل المجتمعات العمرانية أو التجمعات السكنية، بما يسمح للمواطنين بالوصول للجهات القضائية بطريقة لا تشكل عبئا إضافيا عليهم، خصوصا مع اتجاه الدولة حديثا نحو زيادة الرسوم المقررة على الخدمات القضائية في جميع خطواتها، بما يشكل عائقا إضافيا يمنع من الوصول إلى القضاء، فإن الإعاقة الجديدة عن طريق عدم تقريب الجهات القضائية يمثل عبئا إضافيا لا يسهل بالمرة النفاذ إلى العدالة عن طريق إعمال النصوص القانونية من خلال أحكام المحاكم، وهذا ما يدور بالأفراد في سبل غير حقوقية، كما أنه يمثل هدرا من السلطة لأحد أهم الالتزامات المفروضة عليها.

ومن هنا فإنه من الواجبات الملحة على عاتق السلطة الحاكمة، بحسبها المتصرفة في أمور الدولة أن تسعى إلى التوسع في إنشاء المحاكم بحسب المراكز والأقسام، سواء كان ذلك من خلال بنايات جديدة، أو تحديث ما هو قائم من أبنية خاضعة لوزارة العدل، إذ كيف يستقيم الأمر فأنه في وقت تسعى فيه الدول إلى إنشاء المحاكم المتحركة، أو سيارات المحاكم لمساعدة كبار السن أو ذوي الاحتياجات الخاصة تكون هناك أزمة في أبنية المحاكم العادية.