وكأنها «شوطة» أو وباء حل على وطننا العربي في السنوات الأخيرة فضرب ما اعتقد البعض لعقود طويلة أنها ثوابت لا يمكن زحزحتها مهما تغيرت الظروف والأحوال، انتقلت عدوى «التطبيع» مع دولة الاحتلال الإسرائيلي من أنظمة محور «التسليم» العربي إلى مؤسسات وكيانات ما كان لأحد أن يظن أنها ستسقط في هذا البئر الآسن.

ظلت الكنيسة الأرثوذكسية لعقود طويلة تقاوم كل دعوات التطبيع مع المحتل، حصنها البابا شنودة الثالث في سبعينات القرن الماضي، وأعلن رفضه زيارة الأقباط للقدس إلا بعد عودة كامل الحقوق إلى أصحابها، متحديا رأس الدولة الذي طلب منه أن يرافقه في زيارته المباغتة إلى القدس عام 1977.

اقرأ أيضا.. «نصف حرب ونصف هدنة».. اليمن على حافة المجهول

اصطدم البابا الراحل بتوجهات الرئيس أنور السادات الذي وقع اتفاقية سلام منفردة مع العدو، كان الأنبا شنودة يعلم تماما تبعات هذا الصدام الذي انتهى بعزله من منصبه ووضعه قيد الإقامة الجبرية في دير وادي النطرون وهو القرار الذي صدر بالتزامن مع اعتقالات سبتمبر 1981 التي استبقت بشهر واحد حادث اغتيال «بطل الحرب والسلام» في ذكرى انتصارات أكتوبر بالمنصة على أيدي “أولاده”.

الرئيس الراحل أنور السادات والبابا الراحل شنودة الثالث

بعد توقيع المعاهدة مارست إسرائيل عملية ابتزاز ممنهج على السادات، ساعية لتحويل السلام النظري إلى خطوات وإجراءات ملموسة على الأرض وهو ما قاومه المصريون بشدة رافضين أي خطوة قد يبدو منها أنها تطبيع مع العدو الإسرائيلي.

وفي ظل هذا الرفض الجمعي، تخيل الرئيس المؤمن أنه سيجد ضالته عند المسيحيين المصريين الذين توقف حجهم إلى الأماكن المقدسة بعد سقوط القدس في قبضة الاحتلال الإسرائيلي، وعرض السادات على رأس الكنيسة «هدية» موافقة الدولة على عودة حج الأقباط للقدس دون أي قيد أو شرط، إلا أنه فوجئ بأن البابا شنودة رفض الهدية وأعادها إليه وهو يعلم أن عواقب الرفض ستكون وخيمة.

ويروي الكاتب الصحفي الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه «خريف الغضب» تفاصيل تلك الواقعة فيقول: «أخطر السادات البابا بأنه أما وقد تم الصلح مع إسرائيل وتحقق السلام، فيسعده أن يبلغه بأن طريق الحج إلى الأماكن المقدسة أصبح مفتوحًا»، لكن البابا رفض هذه الفكرة، ورد على رُسل السادات قائلا «أرجوكم إبلاغ الرئيس أنني لا أرى الوقت مناسبًا لتنفيذ اقتراحه».

لم يكتف البابا بهذا الرد، وفق رواية هيكل، وإنما وجه نصيحته إلى عدد من الأقباط البارزين فى مجال السلطة بأن يقللوا من ظهورهم فى مجال العلاقات مع إسرائيل، لأن هذا من شأنه أن يحدث ردود فعل غير ملائمة لوضع الأقباط، ليس في مصر وحدها، ولكن فى العالم العربى كله.

كتاب خريف الغضب تأليف الأستاذ محمد حسنين هيكل

«لا أرى أن الوقت مناسبا لتنفيذ اقتراح الرئيس، فالمشاكل التي تفصل مصر الآن عن بقية العالم العربي سوف تعرف طريقها للحل ذات يوم، ولا أريد لأقباط مصر أن يكونوا هم خونة الأمة العربية، حينما تعود المياه إلى مجاريها بين شعوب هذه الأمة»، قال البابا معلقا على عرض الرئيس.

استشاط السادات غضبا واعتبر رفض البابا لمقترحه تخليا عنه، «أثبتت الأيام أن قرار البابا كان يدل على بصيرة ثاقبة وذكاء سياسي بارع»، يثني هيكل على تصرف البابا، معتبرا أن هذا القرار هو الذي أدى إلى عزله في نهاية حقبة السادات.

ويضيف: «يستطيع المرء أن يتصور كيف تكون النتيجة لو أن البابا رضخ لرغبة السادات وكان الأقباط هم أول من سارعوا لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؟.. كيف ستتقبل جماهير العرب هذه السرعة في قبول الأقباط للتطبيع مع إسرائيل قبل تحقيق السلام الكامل والعادل والشامل في القضية الفلسطينية وأيضا في ضوء إجماع العالم العربي حول رفض هذا العمل الذي كان يتصور أنه عمل مشين ووصمة عار في وجه من يسارع بتطبيق التطبيع بهذا الشكل مع إسرائيل؟».

في وقت لاحق سألت إحدى الصحف البابا شنودة عما إذا كان يقبل بتدويل المدينة، فأجاب: «القدس قبل الاحتلال الإسرائيلي كانت مدينة عربية، وإذا تم تدويل القدس، فمعنى هذا أن العرب قد تنازلوا بالتمام عن حقهم فيها، وتنازلهم عن حقهم فى القدس يتطور إلى طلب إسرائيل فى أن تظل يهودية».

في نهاية السبعينيات سافر البابا شنودة إلى العاصمة الأمريكية واشنطن، والتقى هناك الرئيس الأمريكي جيمي كارتر الذي بادره بسؤال: «لماذا ترفض زيارة إسرائيل.. أوليس اليهود شعب الله المختار؟» فرد البابا: «إن اليهود ليسوا شعب الله المختار وإلا ماذا نسمى الكنيسة المسيحية؟ فإذا كنا نعتقد أنهم شعب الله المختار فمعنى ذلك أننا -المسيحيين- لسنا مختارين من الله بالمرة».

البابا شنودة والرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر سنة 1977

كانت مواقف البابا شنودة وتصريحاته في هذا الشأن مضرب الأمثال في تلك الآونة، ففي الوقت الذي اختار فيه الرئيس المصري طريق التطبيع أصر رأس الكنيسة المصرية على المضي في طريق المقاومة، فاستحق لقب «بابا العرب» أو «البابا العروبي» الذي دفع ثمن مواقفه عزله من منصبه وتقييد حريته.

لم يتأثر البابا بالمتغيرات التي طرأت على المواقف العربية، ولم يثنه عن موقفه توقيع منظمة التحرير الفلسطينية وصديقه ياسر عرفات اتفاقية أوسلوا مع سلطات الاحتلال، «أنا مبدئى ثابت، ولا أقبل أى علاقة تطبيع مع إسرائيل فى ظل الاحتلال المفروض على الفلسطينيين»، جدد البابا موقفه نهاية عام 2009 في ظهور تلفزيوني على قناة «أون تي في»، مشيرا إلى أن كثيرا من الأقباط عارضوه فى هذا القرار بدعوى أنهم كانوا يريدون الذهاب إلى القدس.

وفي موقع آخر قال: «لن أزور القدس إلا مع شيخ الأزهر»، ثم عاد وأكد أنه «لن يزورها حتى لو ذهب شيخ الأزهر» على ما نقل عنه الكاتب الصحفي الأستاذ عبد الله السناوي.

سأل السناوي البابا في لقاء جمعه به في بداية القرن: «هل أنت مطمئن يا قداسة البابا إلى أن من سوف يأتى بعدك سوف يلتزم بتوجهاتك الرئيسية فى رفض التطبيع مع إسرائيل حتى لا تكون هناك فتنة أو اتهامات لأقباط مصر بأنهم خونة الأمة العربية، على ما تحذر دائمًا؟». كانت إجابته: «لا تقلق، فما أعبر عنه هو التيار الرئيسي داخل الكنيسة المصرية، وهذه مدرسة لي فيها تلاميذ أوفياء سوف يحملون الراية بعدي».

للأسف خابت توقعات «بابا العرب» الراحل، وزار خلفه القدس عبر تل أبيب عاصمة الاحتلال بدعوى المشاركة في جنازة مطران القدس والشرق الأدنى. وعلى رأس وفد كنسي يضم ثمانية من كبار القساوسة ذهب البابا تواضروس الثاني في نوفمبر من عام 2015 لتجنيز الأنبا إبراهام الأورشليمي الذي أوصى بأن يدفن في القدس وليس في مصر.

برر البعض حينها زيارة البابا تواضروس إلى القدس التي كسر بها المبدأ الذي أرساه سلفه بأنها «زيارة المضطر أو المكره»، أثارت تلك الزيارة جدلا حادا وفتحت باب الهجوم على الكنيسة المصرية التي ظل موقفها ثابتا راسخا من قضية التطبيع.

البابا تواضروس في القدس

لام الأشقاء الفلسطينيون على الكنيسة المصرية كسرها لقرار المجمع المقدس الذي تم التصديق عليه في مارس 1980 بـ«منع سفر المسيحيين للحج في الأراضي المقدسة التزامًا بمقاطعة قطاعات واسعة من الشعب المصري زيارة فلسطين عقب اتفاقية كامب ديفيد».

وتحت وطأة الهجوم اضطرت الكنيسة إلى تبرير موقفها وأكدت أن موقفها لايزال كما هو لم يتغير، «لا سفر إلى القدس بدون جميع أشقائنا المصريين المسلمين»، قال المتحدث الرسمي باسم الكنيسة في بيان آنذاك.

وأضاف المتحدث في بيانه أن زيارة البابا إلى القدس لا علاقة لها بأي أجندة سياسية وإنما تأتي لأسباب دينية وروحية، موضحا أن الكنيسة كانت تنحو، في بادئ الأمر، إلى إرسال وفد كنسي لحضور الجنازة، دون أن يترأسه البابا شخصيا، لكن الأمر تغير بعد أن علمت الكنيسة بأن الأنبا إبراهام أوصى بأن يدفن في القدس وليس في مصر، وهذا يعني أن البابا تواضروس لن يستطيع أن يصلي على الجثمان داخل الأراضي المصرية، وقد دفعه هذا إلى السفر إلى القدس بنفسه.

انتهت هوجة سفر البابا تواضروس إلى القدس، وقبل الرأي العام حينها بيان التبرير الكنسي على مضض، وصدرت عدة تصريحات من شخصيات مسيحية مؤثرة تؤكد أن الكنيسة لن تقترب مجددا من باب التطبيع تحت أي دعوى «فلا حج ولا تجنيز ولا غيره مادام قرار المجمع المقدس قائما ووصية البابا الراحل الأنبا شنودة لم تمس».

الأسبوع الماضي فوجئ الرأي العام المصري والعربي بزيارة رسمية لوفد كنسي برئاسة الأنبا رفائيل أسقف عام كنائس وسط القاهرة وأسقفية الشباب ممثلا عن البابا تواضروس بحسب ما نقلت منصات إعلام مصرية وإسرائيلية.

شملت الزيارة التي وصفت بأنها «أول زيارة رعوية» إلقاء عظات روحية وتفقد أبناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في القدس وعدد من مدن الأراضي المحتلة، وفق إعلان مطرانية الأقباط الأرثوذكس بالقدس.

أثارت الزيارة الأخيرة العديد من الأسئلة وعلامات الاستفهام حول موقف الكنيسة الرسمي من التطبيع مع دولة الاحتلال، فهل غض البابا تواضروس والمجمع المقدس الطرف عن قرار البابا السابق بمنع وتحريم زيارة القدس والأراضي المحتلة؟ وهل هناك قرار غير معلن بتطبيع العلاقات مع المحتل بالمخالفة للموقف السابق؟ وهل تسعى الكنيسة التي كانت ذات يوم رأس حربة في مواجهة التطبيع إلى اللحاق بركب المطبعين الجدد في الشرق والغرب العربي؟.

كل تلك الأسئلة وغيرها لم تجب الكنيسة عليها حتى كتابة تلك السطور، فإلى الآن لم يصدر أي بيان يوضح للرأي العام الموقف العام للكنيسة الأرثوذكسية التي أرسلت وفدا يمثلها في زيارة رسمية إلى الأراضي المحتلة.