أزمات لا أحد يتعامى عنها أو ينكرها حتى أطراف السلطة وأركانها، اقتصادية وسياسية، ديون وترد في أحوال المعيشة، مجال عام مغلق وحالة احتقان تنتفخ وتتمدد، تغييب للقطاع الخاص، تضييق على حركة الأحزاب. أزمات ومواطنون يكتوون بنارها من أسعار لا تفتأ تزيد يوما بعد يوم، وخدمات تتراجع بخطوات ثابتة عام إثر عام كما يحدث في قطاع التعليم، وبطالة لا تني تستفحل، وجنيه لا يكف عن النزول. أزمات ضخمة وتتضخم، باتت تنشد وتستوجب البحث عن حلول واقعية لها، وعقول قادرة على وضع الحلول ومسارات العبور والخروج من أعناق الزجاجات التي أصبحنا محشورين فيها. هنا نفتح الباب أمام البحث والمكابدة في البحث مع من يمكنهم تقديم حلول عقلانية وعملية، لعل الخروج والعبور يكون قريبا. التقى “مصر 360” الدكتور مصطفى كامل السيد أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة والمقرر المساعد للمحور السياسي بالحوار الوطني، للوقوف على أبعاد الأزمة ووضع أجندة للخروج منها. حيث تناول مقولة لا يمل تكرارها البعض إذ يرجعون جذور الأزمات لثورة يناير.
لا يزال هناك من يحمل يناير 2011 فاتورة خسائرنا الاقتصادية، ما تعليقك؟
الخروج من أي أزمة يقتضي توصيفا صحيحا والاعتراف بما حدث من أخطاء. اتهام ثورة يناير بأنها السبب في الأزمة الاقتصادية الحالية مغالطة. إذ لم تكن يناير هي السبب فيما يحدث الآن. صحيح أن خسائر وقعت، وأهدافا لم تتحقق، وهذا منطقي؛ لأنه لا يمكن حدوث نمو اقتصادي بعد أي ثورة. بل إن العكس يحدث، ويتراجع النمو الاقتصادي. لكنها ليست السبب فيما وصلنا إليه.
وبلغة الأرقام نجد أنه عقب ثورة يناير وما أعقبها من أحداث، وصولًا إلى 30 يونيو 2013، لم يكن الدين الخارجي وصل إلى قرابة 43 مليار دولار. بينما وصل حاليًا إلى قرابة إلى 157.8 مليار دولار. أضف إلى ذلك المديونية الداخلية التي تتجاوز أرقامها التريليونات من الجنيهات. وهذا يدل على أن الحكومة تصرف أكثر من دخلها العام.
وبالملاحظة نجد أن هذا الخلل في الأرقام سواء في الارتفاع الضخم للمديونيات الخارجية والداخلية بدأ يقفز منذ عام 2017.
وبالتالي، لا يمكن القول إطلاقًا إن ثورة 25 يناير وما جرى في 30 يونيو، يٌعد السبب في الأزمة الاقتصادية الحالية. ذلك لأن النموذج الاقتصادي الناجح لابد أن يقوم على الإنتاج والنمو في مجالات الزراعة والصناعة والخدمات الإنتاجية. وبالرصد نجد أن هذه القطاعات هي الأقل نموًا.
هل هناك طريق سريع للخروج من أزمتنا الحالية؟
لقد وجهنا الاهتمام الأكبر نحو مجالات الإنشاءات والتشييد، وغيرها من المجالات غير الإنتاجية. قامت معادلتنا على اعتبار أن السياسة الاقتصادية تستهدف أساسًا البنية التحتية والإنشاءات. وهي بالقطع قطاعات ضرورية، لكنها لا تعمل على تحقيق نمو اقتصادي حقيقي في المجتمع. خاصة عندما تتم بقدر عال من الإسراف. بمعنى أكثر تحديدًا؛ المشروعات الجديدة التي تقوم بها الدولة والخاصة بالإنشاءات، هل تساهم في الإنتاج العام للدولة وتدر عوائد اقتصادية؟
أمام هذه الحقائق، فإن من يقول إن هناك مخرجًا سريعًا للأزمة الحالية فهو يخدع المواطنين. لابد من شد الأحزمة وترشيد الإنفاق في المشروعات التي لا تدر عوائد. خاصة أن المواطنين يعيشون في حالة اقتصادية صعبة نتيجة الارتفاع الكبير في أسعار مختلف السلع، سواء كانت أسباب ذلك تصاعد الأزمة العالمية أو تدهور العملة المحلية.
أما ما يخص الديون، ليس أمامنا حل سوى السعي لإعادة جدولتها. ثم إعادة النظر في المشروعات القائمة وكيف التصرف في مسألة الإنفاق عليها، والاهتمام بالصناعات، ودفع ودعم الكيانات الاقتصادية المملوكة للدولة، بدلًا من عملية تصفيتها وبيعها بالاستحواذ.
على الجانب الآخر، القطاع الخاص في مصر مستبعد منذ فترة. يجب إرسال رسائل تطمين لرواده، والعمل على بث روح الحياة فيه مرة أخرى، ومنح الفرصة لرجال الأعمال بالعمل والدخول في المنافسة.
اقرأ أيضًا: لو كنت رئيسًا للمؤتمر الاقتصادي
القطاع الخاص واجه اتهامات بـ”النهب” قبل ثورة يناير.
لا يمكن أن نتفق على هذه الرؤية. أعتقد أن القطاع الخاص كان إيجابيًا، خاصة على المستوى الاقتصادي. كانت هناك تنمية حقيقة. وثورة يناير قامت بسبب اعتماد “تساقط الثمار” كفلسفة اقتصادية. وهو ما يعني ترك الاقتصاد ينمو إلى أن يحدث اكتفاء، فتتساقط ثماره على باقي المجتمع. وهذه النظرية وفلسفتها هي التي سقطت وليست الثمار.
صحيح يلزم بلادنا أن تتدخل الدولة في توزيع الدخول وتحقيق نوع من العدالة بتوزيع الثروات على المجتمع. ذلك عن طريق تحصيل الضرائب والصرف منها على القطاعات الأكثر احتياجًا. لكن هذا لا يعني أن تسيطر الدولة على الاقتصاد ككل وتصبح هي المستثمر الرئيسي.
ألم يركز القطاع الخاص على الربح السريع والاستثمار في الخدمات؟
هذا كلام ليس بصحيح. العديد من رجال الأعمال قبل يناير ساهموا بشكل أو بآخر في العملية الإنتاجية؛ مثل أحمد عز والسويدي ومحمد فريد خميس ومحمد أبو العينين. كل هذه الأسماء رجال صناعة أنتجوا وصدروا، في حين أنه في ظل النظام الحالي حدث نوع من إزاحة القطاع الخاص، لدرجة أنه في العديد من المرات عندما يفتتح الرئيس مشروعات تنموية لا نجد جواره أيا من المستثمرين. وهو أمر لا أريد أن أتوسع في الحديث عنه. لكن في النهاية ما حدث تسبب في الحد من دور القطاع الخاص.
يقول البعض إن الدولة أرادت الاعتماد على مؤسسات أكثر قدرة على الالتزام والإنجاز.
المشكلة الكبرى أنه لا تتوفر أمامنا شفافية. لا نعرف ما تم إنجازه بشكل دقيق، ولا توجد مصادر محايدة تتحدث عن الإنجازات الاقتصادية التي تحققت حتى الآن.
يجب أن يكون هناك دور للدولة، هذا صحيح. لكنه يبقى دورًا توجيهيًا لا سيطرة كلية. في حقيقة الأمر، ما يحدث هو تصفية القطاع العام، وفي الوقت نفسه تضييق على القطاع الخاص؛ كيف إذًا تحدث التنمية؟
لابد من البحث عن طريقة للتنمية، ترفع يد الدولة وتتيح الفرصة سواء للقطاع العام المدني والقطاع الخاص هو الذي يستثمر وينتج.
اقرأ أيضًا: الجيش والسياسة
كيف نتجنب تكرار ما حدث سياسيا واقتصاديا؟
بإعادة النظر في السياسات العامة في مصر، والتوظيف الصحيح للإنفاق. فعلى سبيل المثال: هل يعقل أن تصرف الدولة أكثر من 40 مليار جنيه على إنشاء الجامعات الأهلية؟
القاعدة تقول إن الجامعة الأهلية تُنشأ بواسطة الأهالي وليس الحكومة أو الدولة.
على ذلك، يمكننا قياس عشرات النماذج في عملية الإنفاق غير المعقول واللا منطقي في قطاعات عدة ومشروعات لم تكن هناك حاجة ملحة أو أولية وأولوية لها الآن.
يجب العمل على تحديد السياسية الاقتصادية في مصر، ووضع برنامج محدد ومخطط للحكومة تسعى لتطبيقه، لأننا نجد أن رئيس الوزراء وحكومته يقولون إنهم ينفذون سياسيات السيد الرئيس رغم أن دورهم في الأساس هو صنع هذه السياسات.
أيضًا، غاب الدور التشريعي والرقابي الحقيقي لمجلس النواب. فأصبحنا أمام سؤال صعب: من يحدد السياسات العامة لمصر؟ نحن لا نستعين بالخبرات والكفاءات رغم أن مصر مليئة بالعقول الناجحة في مختلف المجالات.
اقرأ أيضًا: “ملفات خاصة”| رؤى مصرية للخروج من الأزمة الاقتصادية
كيف ترى التغيير الواجب؟
التغيير يأتي من أمرين: إما بتغيير الأشخاص أنفسهم وإما بأن يغير أصحاب القرار نظرتهم الحالية. هذا من جانب، ومن الجانب الآخر يجب أن نتخلى عن اتهام الثورات؛ يناير ويونيو بالتسبب في الأوضاع الحالية، وندرك أن سبب الأزمة سياسيات خاطئة أهلمت البعد الاقتصادي للمشروعات. بالإضافة إلى مراجعة الإنفاق على مشروعات لا تعود بالنفع على الوضع الاقتصادي لمصر.
الخروج من الأزمة يقتضي تغيير طريقة صنع القرار. بمعني أن يقوم كل بدوره كما ينص الدستور. الرئيس يقوم بدوره في وضع السياسات الخارجية والاستراتيجية وقضايا الأمن القومي، أما الحكومة فتقوم بدورها في إدارة شؤون الدولة وتحقيق النمو وحل المشاكل الاقتصادية وتسهيل العقبات بهدف تحقيق أوضاع أفضل. بمعني أن الحكومة تكون مسئولة أمام الشعب وليس أمام الرئيس.
يجب أن تكون الحكومة “مستقلة” وصاحبة صلاحيات كاملة، وأن تضع الخطط بالتشاور مع الخبراء. ولا يكون دورها تنفيذ توجيهات رئيس الدولة. وهذا الكلام لا يعني عدوانًا على صلاحيات أو سلطات الرئيس في إدارة كافة شؤون الدولة.
ما الذي ينقص الأحزاب لتشكيل الحكومة أو التأثير في قرارتها؟
دعنا نعترف أنه لا يوجد حزب على الساحة يمكن أن يحقق مفهوم “حزب الأغلبية”. وهنا سؤال: من المسئول عن الوضع الذي وصلت إليه الأحزاب في مصر؟ هل توفرت لها حرية الحركة حتى تكون فاعلة على الساحة العامة؟ هل يعقل أن ينظم حزب سياسي ما إفطارًا رمضانيًا لعدد من أعضائه فيتم الاعتداء عليهم من قبل بلطجية مأجورين؟ هل يبني هذا الواقع أحزابًا سياسية قادرة على التفاعل الجاد والمنافسة السياسية الحقيقية؟
وهل يعقل أن عددًا من قادة ورموز هذه الأحزاب رهن الاعتقال؟ هل لدينا إعلام حر؟
لفترة لم يكن مسموحا للإعلام أن يستضيف أيا من رموز المعارضة. ربما حدث تغيير بعد الدعوة للحوار الوطني وظهر البعض على الشاشات. رغم أن الأمر اقتصر على برنامج أو اثنين.
لابد من تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية وقانون الانتخابات. فلا يعقل أن تكون القائمة المطلقة السبيل لحياة ديمقراطية حقيقة. لابد من وجود أصوات مختلفة داخل المجالس النيابية وأن تتسع قواعد المشاركة وأن يحصل الإعلام على مساحة أكبر بالإضافة إلى ترسيخ حرية تداول المعلومات.
يجب التمهيد لإجراء انتخابات نزيهة توفر تمثيلًا للمعارضة حتى يقوى المجتمع المدني وتنشط الحياة السياسية على المدى القصير. وبعد فترة من الزمن نصل إلى مرحلة “القوة والنضج”. وهو ما يحقق على المدى البعيد خلق قوة تعبر عن التيارات السياسية المختلفة الموجودة في الشارع، وهو ما يمثل ضمان بناء نظام سياسي مستقر.
هناك تخوف أن يتسبب الانفتاح السياسي في تسرب الإخوان للشارع مرة أخرى.. فما رأيك؟
أين هو التيار الإسلامي؟ إنهم محظورون، والشعب خرج ضدهم، وحتى لو تسلل عدد منهم لا يمكن أن يمثلوا خطورة.
هذا الأمر يُستخدم سياسيًا. من المفيد للحكومة أن تخيف الناس بعودة الإخوان للسلطة، وقوى الشر التي تتربص بنا. أين قوى الشر في مصر؟ لا بد أن يتم تحديد هذا المفهوم ومن المعني به.
اقرأ أيضًا: في ندوة “مصر 360″| السادات: نطالب بالعفو العام عن سجناء الرأي.. ونصدق الحوار الوطني حتى يثبت العكس
ما هو تصورك للسيناريو الذي سيخرج به الحوار الوطني؟
الحوار الوطني فيه تمثيل للمعارضة والسلطة، وفكرته إصلاحية، ولكن في الحقيقة لا يجرؤ أحد من الموالين للسلطة أن يقول إن هناك أخطاء تحتاج لتصحيح. لذا لا أعرف كيف سيتصرفون، وأتمنى ألا يقتصر الأمر على عرض المواقف وفقط.
الحوار في تصوري له جانبين: 50% “مكلمة” بين الأطراف المشاركة لتسمع لبعضها البعض، والـ 50% الأخرى متوقفة على ما يقبله الرئيس من مخرجات، وهذه هي الأهم.
في الحقيقة، هناك قضايا ليس واضحًا إذا كان سيتم مناقشتها أم لا، مثل قضية سد النهضة والأمن المائي، أو علاقاتنا الخارجية خاصة مع إسرائيل. بل وقضايا اقتصادية مثل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
ورغم ذلك، نتمنى أن يخرج الحوار بتوصيات أو مخرجات تكون قابلة للتنفيذ ومدعومة برغبة من السلطة لتحقيقها.
وأنا لست متفائلًا كثيرًا. لو غادر المحبوسون من المدنيين السجون وأُجريت تعديلات على قانون الحبس الاحتياطي الذي تحول إلى عقوبة، سيعد هذا إنجازًا كبيرًا، ولو كبر حلمنا قليلًا، يمكن أن نطمح إلى فتح المجال العام ومساحة أوسع للصحافة ووسائل الإعلام لتلعب دورها وتكون هناك فرصة للقوى السياسية المختلفة أن تطرح رؤيتها.
نطمح في تغيير قانون الانتخابات الحالي وإلغاء فكرة القائمة المطلقة حتى تحقق الانتخابات قدرًا من الرضا الشعبي وتأتي بممثلين حقيقيين عن المواطنين؛ لأن استمرار الوضع القائم يدفع ثمنه النظام الحالي.
بصفتك أستاذًا للعلوم السياسية.. هل هناك خطوات أولية للخروج من أزمتنا؟
طبعًا؛ الخطوة الأولى أن تضع الحكومة السياسات بمشاركة السيد الرئيس، وتستند في ذلك على خبرات ومهارات أبرز العقول في مصر. وليس كما يحدث الآن. مثل التشكيل الوزاري الأخير الذي أُبعدت فيه أفضل الكفاءات لتحل بدلًا منها أسماء لا تقدم شيئًا.
ثانيا لابد من تصفية ملف المسجونين في قضايا سياسية، سواء المحبوسين احتياطيًا أو من تعرضوا للحكم بالسجن بدون مسوغ، مثل هشام جنينة أو عبدالمنعم أبو الفتوح، وسجناء قضية “تنظيم الأمل”. لابد من احترام القانون وحقوق الإنسان.
ثالثًا، لا مفر من مساحة أوسع للإعلام، وحصول الأحزاب على حرية حركة في نشاطها المشروع بدلًا من شل حركتها. مع فرض قواعد عامة، عليها الالتزام بها، مثل عدم تلقيها أموال من الخارج، واحترام الدستور القائم وعدم الدعوة للعنف أو الكراهية أو التفرقة بين المواطنين. ثم الإعداد لقانون انتخابي جديد، سواء بالعودة للنظام الفردي أو القائمة النسبية.
وأخيرًا فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، يجب التوقف عن بيع القطاع العام، وإعطاء فرصة حقيقية للقطاع الخاص وفق ضمانات ليتحرك ويعمل وينتج. مع ضمانات الحماية الاجتماعية لبعض الفئات. وأعتقد أن المواطن لديه حس سياسي، لو شعر أن هناك أملا في تغيير الأوضاع سيصبر.