احتلت الحرب في أوكرانيا عناوين الصحف الأمريكية والأوروبية والعالمية، التي ناقشت تطوراتها وكل تفصيلة في سير معاركها. كل هذا وهناك حروب أخرى تدور في العالم، تخلف ضحايا، لا يحتشد الغرب لتغطية مآسيهم، ولا يوليهم القدر نفسه من الأهمية. وهو ما حاول جون فيفر، مدير “فورين بوليسي إن فوكس” في معهد دراسات السياسة، الإجابة عليه في تحليل حديث عبر موقع “إنفورميد كومنت” البحثي الأمريكي، إذ خلص إلى أن أهوال اليوم تفرض إبعاد أهوال الأمس عن دائرة الضوء.

لماذا أوكرانيا؟

يقول جون فيفر إن أهمية أوكرانيا، كما جادل البعض في الأيام التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، تتلخص في العرق. الأشخاص البيض في البلدان ذات الأغلبية البيضاء في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا تعاطفوا مع محنة الأوكرانيين البيض بطرق لم يتعاطفوا معها مع الضحايا غير البيض للحروب في أماكن أخرى مثل اليمن أو إثيوبيا.

تم الترحيب باللاجئين الأوكرانيين في أوروبا بحماس كان غائبا إلى حد كبير تجاه الموجات السابقة من اللاجئين السوريين والأفغان والليبيين الذين وصلوا إلى أوروبا. في الحالة الأكثر تطرفًا من هذا التعاطف العنصري، دعم المتعصبون البيض روسيا إلى حد كبير، معتبرين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أقوى حليف عالمي. رغم أن بعض القوميين البيض دعموا بدلا من ذلك التشكيلات اليمينية المتطرفة علنا على الجانب الأوكراني.

صحيح أن البيض في شمال الكرة الأرضية يرفعون أيديهم بشكل روتيني في مواجهة الصراعات في إفريقيا والشرق الأوسط. لكنهم يرفضون معرفة أسباب القتال أو قبول دور الحكومات الأوروبية أو الأمريكية في إدامة تلك الحروب لأسباب عدة. ففي الحالة الأمريكية، يكون هذا الميل لتجاهل مساحات شاسعة من العالم، جزءا من رفض عام لتعلم لغات أخرى أو الالتفات إلى دول أخرى إلا لو كان الأمر جزءا من رحلات ترفيهية أو سياحية. قد يكون الأمر في الغالب متعلق بالعنصرية التي لها دور بالفعل في الأزمة، لكن لا يمكن أبدا استبعاد أهمية الكسل والجهل المطلق.

على حافة أوروبا الغربية

أوكرانيا على الحدود الأوروبية

لكن دعونا نلقي نظرة على بعض الأسباب الأخرى للتركيز الحالي على أوكرانيا. على سبيل المثال، تعتبر الدولة ذات أهمية قصوى بالنسبة للأوروبيين “الغربيين” بسبب قربها المطلق. فهي تقع أوكرانيا في أوروبا الشرقية بالقرب من الغرب الأوروبي، كما أعربت عن اهتمامها الكبير بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. كذلك لدى كييف روابط اقتصادية واسعة خاصة بالطاقة والغذاء مع المستهلكين الأوروبيين. ثم هناك روابط النسب، حيث يعيش العديد من الأشخاص من أصل أوكراني الآن في أوروبا الغربية والولايات المتحدة وأستراليا.

في نهاية المطاف ورغم كل ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا تستحوذ على نصيب الأسد من العناوين الرئيسية -وبالتالي النطاق الترددي الفكري للصحفيين والمحللين وصناع السياسة- لسبب أهم، وهو أنها تقع تاريخيا في قلب الجغرافيا السياسية.

مؤسسو علم الجغرافيا السياسية كانوا مشغولين بالهيمنة العالمية، ومنجذبين بشكل طبيعي إلى الامتداد الهائل للأراضي والموارد والقدرات الصناعية “للمنطقة الأوراسية” اي مناطق التقاء أوروبا بآسيا. أما أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا، كانت بالنسبة لهم اهتمامات هامشية.

من خلال هذه النظرة المشوهة للكرة الأرضية وهي وجهة نظر لا تزال تدرس في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، تقع أوكرانيا في قلب الصراع من أجل السيطرة على الكرة الأرضية. في وسط المنطقة الأوراسية، ويوفر ساحلها وصولا مهما إلى البحرين الأسود والمتوسط.

الحرب في أوكرانيا مهمة لأنها ذات أهمية حيوية في المعارك الضروس داخل بلدان الشمال العالمي للسيطرة على لوحة اللعبة بأكملها. لكن هناك أسباب أخرى تجعل أوكرانيا تهيمن على العناوين الرئيسية للصحف في أوروبا وأمريكا.

مقياس الصراع

انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان

في الواقع لا يوجد الكثير من الحروب بين الدول في عالم اليوم. أصبح الصراع الداخلي في اليمن دوليا بعد تدخل السعودية وحلفائها الخليجيين. أما الحرب الأهلية في إثيوبيا فلها بعد دولي لأن رئيس الحكومية الإثيوبية آبي أحمد تحالف مع إريتريا لهزيمة تمرد التيجراي. أما أرمينيا وأذربيجان فدخلا في نزاع حول منطقة ناجورنو كاراباخ، لكن القتال خفت حدته، على الأقل في الوقت الحالي.

أصبحت الحروب الدولية الأخرى الآن، وطنية بالكامل تقريبا. إذ سمح انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان لطالبان بإعادة التركيز على القتال ضد أعدائها الداخليين. الحرب في العراق استقرت في الغالب على صراع أهلي محتدم، لكن الحرب الأهلية الشاملة يمكن أن تعود في أي وقت. الحرب الأهلية في سوريا انتهت، لكن لا تزال الولايات المتحدة وتركيا وروسيا، في حالة تشابك لتحقيق مصالحهم بالكامل. أصبحت الصراعات المماثلة في كشمير وليبيا وفلسطين متقطعة، مع عدد قليل نسبيا من الضحايا، لكن هذه الصراعات يمكن أن تتصاعد بسرعة وتتحول إلى حرائق إقليمية.

لا تزال الحروب الأهلية نشطة في ميانمار والصومال، بينما تستمر الفصائل المتطرفة المختلفة وأكثرها شهرة تنظيم “داعش” الإرهابي في شن هجمات متفرقة في جميع أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.

الخسائر

أخيرا، هناك الحروب المجمدة بين الكوريتين، وبين الصين وتايوان، وداخل جورجيا، كل تلك المعارك يمكن أن تشتعل إذا قرر الخصوم المختلفون إطلاق الشرارة اللازمة.

حرب اليمن

ولكن من حيث الخسائر الفعلية، من الواضح أن الصراع في أوكرانيا هو أكثر الحروب إثارة للقلق. حيث قتل عشرات الآلاف من العسكريين والمدنيين. سيكون الصراع هناك الأقرب من حيث الحجم للحرب الأهلية في ميانمار حيث سقط حوالي 13000 ضحية حتى الآن في عام 2022. كما تسببت صراعات أخرى في انخفاض عدد القتلى إلى حوالي 5000 حالة وفاة في كل من إثيوبيا واليمن هذا العام.

تصدرت أوكرانيا الأخبار أيضا بسبب عدد اللاجئين الذين فروا من البلاد. إذ ذهب أكثر من 7.6 مليون أوكراني إلى أوروبا في أعقاب غزو فبراير /شباط إلى جانب مئات الآلاف الذين غادروا روسيا لتجنب التجنيد والسجن، أو عدم اليقين الاقتصادي. بالطبع، أوكرانيا ليست فريدة من نوعها فيما يتعلق باللاجئين. إذ فر ما يقرب من 7 ملايين سوري من الاضطهاد والحرب الأهلية، وغادر أكثر من 6 ملايين فنزويلي إلى بلدان أخرى. كما فر ما يقرب من 6 ملايين أفغاني من ديارهم.

التقارير الحقوقية تتحدث عن جرائم حرب تحدث في أوكرانيا، بما في ذلك الإعدام بإجراءات موجزة، والتعذيب، والاغتصاب، والاستهداف العشوائي للمدنيين. وهنا أيضا تواجه حرب أوكرانيا منافسة شديدة من حيث الإبادة الجماعية ضد الروهينجا في ميانمار، والقمع المستمر في سوريا، والتجويع المتعمد لليمنيين من قبل السعودية وحلفائها.

لكن الطول الهائل للنزاع يزيد حتما من إجهاد الانتباه وإرهاق التعاطف. بمعنى أنه إذا استمر الصراع الأوكراني للسنة الثانية أو الثالثة، فسيبدأ الكثير من الناس في تغيير القناة.

المستضعفة

أثار القصف الروسي على العاصمة كييف

أيضا يحب معظم الناس المستضعفين، وهو ما يحدث في أوكرانيا، إذ يحارب الأوكرانيون ببسالة وشجاعة ضد عصابة من الغزاة الذين لا يرحمون. هذا السرد الأخلاقي الأساسي قوي لدرجة أن التعقيدات المختلفة تقع على جانب الطريق، دون اهتمام من أحد.

ومع ذلك، يمكن تفسير الصراع في أوكرانيا بلغة بسيطة نسبيا للأشخاص الذين لا يعرفون شيئا عن تعقيدات المنطقة. إذ يمكن القول إن روسيا الكبيرة غزت بلدا أصغر للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أراضيه. من ناحية أخرى يقاوم ذلك البلد الصغير لتفادي الاختفاء كدولة. وعند هذا الأمر يكون من الصعب عدم تشجيع انتصارات الضحايا.

الحرب في إثيوبيا

مقاتلو جبهة التجيراي

في نفس الوقت لا تصلح الحروب الجارية الأخرى بسهولة لمثل هذا التغليف. خذ على سبيل المثال الحرب في إثيوبيا.

شن رئيس الوزراء آبي أحمد، من أصول قومية الأورومو، صراعا سياسيا ضد الحزب الحاكم من عام 1991 إلى 2018، وهو جبهة تحرير شعب تيجراي. تحول هذا الصراع السياسي إلى عنف عندما انتقلت الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، التي تم تهميشها من حكومة أحمد، إلى شمال إثيوبيا.

وفي نوفمبر / تشرين الثاني 2022 هاجمت حامية للجيش الإثيوبي في ميكيلي، العاصمة الإقليمية لإقليم تيجراي. لهزيمة تمرد تيجراي، تعاون آبي أحمد مع إريتريا، التي قاتلت إثيوبيا حتى اتفاقية السلام لعام 2018، التي توسط فيها “أحمد” إلى حد كبير، والتي أنهت النزاع أخيرا. بالإضافة إلى إريتريا، جند “أحمد” مساعدة مجموعة عرقية أخرى وهي الأمهرة. كما شارك جيش تحرير أورومو أيضا في القتال، رغم أن دوره في ارتكاب الفظائع كان ومازال مثيرا للجدل.

دولة ديمقراطية

وبالمثل، ورغم أن التحالف السعودي ارتكب عددا هائلا من انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن، فإن خصومهم، الحوثيين، لا يمكن مقارنتهم بالملائكة. كذلك الهند وباكستان مسئولتان عن انتهاكات حقوق الإنسان في مناطق كشمير التي تحتلها نيودلهي، سواء بسواء. أيضا تصرفت الولايات المتحدة بشكل سيء في أفغانستان، لكن الأمر ليس كما لو أن أي شخص في العالم كان يشجع حركة طالبان على تولي زمام الأمور.

في غضون ذلك، ورغم العيوب المختلفة لحكومتها، تظل أوكرانيا دولة ديمقراطية. إن الدفاع عن أوكرانيا أمر أساسي في عصر الاستبداد. إنها النسخة الحالية من إسبانيا الجمهورية التي تحاول درء الفاشية في ثلاثينيات القرن الماضي. بعبارة أخرى، هناك أسباب سياسية وجيهة للدفاع عن المستضعف. ويمكن القول إن أوكرانيا ليست مجرد دولة، إنها في الحقيقة رمز.

ومع ذلك، لا يبرر أي من هذه الأسباب التغطية الضئيلة للصراعات الأخرى في وسائل الإعلام مقارنة بأوكرانيا. لمجرد استمرار الحرب، أو حدوثها بعيدًا عن قلب أوراسيا، أو عدم حلها بسهولة في معركة الخير ضد الشر. فإنها لا تزال تستحق اهتمام الصحفيين الذين يحتاجون إلى تغطية الخسائر وشرح التعقيدات، وصانعي السياسات ممن يحتاج إلى محاولة لإنهاء إراقة الدماء. إن مقتل عدد قليل من الأشخاص في حرب هو مأساة أقل من إبادة جماعية واسعة النطاق، لكنها تظل مأساة.

لكن أوكرانيا أيضا تحظى باهتمام العالم لأسباب مفهومة. إن الحرب هناك هي نتيجة هجوم غير مبرر، كما أنها تمثل انتهاكا صارخا للقانون الدولي. عندما يتعلق الأمر بمحاربة الظلم وتعزيز السلام، يجب أن نتبنى مقولة الكوميديا ​​الارتجالية: “نعم نعم الحروب في أماكن أخرى من العالم تستحق اهتمامنا، لكن يجب علينا استنكار التدخل الروسي في أوكرانيا أولا”.