كانت الخصخصة إحدى الركائز الأساسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي والتكيّف الهيكلي الذي أطلقته مصر في العام 1991. وذلك ضمن محاولاتها وفق “تصورات” القائمين على الحكم آنذاك لمواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة التي عايشتها وقتها. ونتيجة لهذا البرنامج تم بيع 382 مؤسسة مملوكة للدولة، بعضها خصخصة كلية وأخرى جزئية. فيما بلغ إجمالي حصيلة بيع الشركات العامة بموجب برنامج الخصخصة 57.4 مليار جنيه مصري (حوالي 9.4 مليار دولار تقريبًا) حتى عام 2009، وفق إحصائيات البنك الدولي. وقد شاب برنامج الخصخصة -الذي اعتمدته مصر في التسعينيات وأوقفته مؤقتًا بعد ثورة يناير كثير من الفساد، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك “1981-2011″، وذلك في ظل الوقائع التي أحاطت بصفقات البيع.
وفي السنوات القليلة الأخيرة اتخذ التصرف في الملكية العامة من جانب الدولة شكلا جديدا هو ما سمي بالاستحواذات، ولكنه ظل من ناحية الجوهر لم يختلف عن خصخصة التسعينيات وعهد مبارك، بما انطوت عليه من تفريط في حقوق وأصول المصريين لصالح كيانات، حققت أرباحا مليارية من الهواء بمجرد عملية الاستحواذ.

المراجل البخارية

في شتاء العام 1994، باعت الحكومة المصرية شركة النصر لصناعة المراجل البخارية وأوعية الضغط إلى الشركة الأمريكية بابكوك أند ويلكوكس بقيمة 17 مليون دولار، رغم أن التقديرات حينها أن قيمة الشركة كانت تتخطى الـ100 مليون دولار.

شركة المراجل البخارية أنُشأت في نهاية ستينيات القرن الماضي بغرض صناعة الغلايات لمحطات توليد الكهرباء والطاقة النووية. وأٌقيمت على مساحة 31 فدانًا على شاطئ نيل الجيزة، بالقرب من منطقة منيل شيحة. وقبل خصخصتها مباشرة، كانت توظف قرابة 1100 عامل، وتُحقق الموازنات الخاصة بها أرباحًا، قبل أن تتعرض لخسائر خلال موازنتي العامين الماليين 1992/ 1993، 1993/ 1994 بسبب وجود أخطاء وعيوب في منتجات الشركة، التي ظهر فجأة أنها غير مطابقة للمواصفات، وفقًا لدراسة حول تأثير الخصخصة على الدول العربية صادرة عام 2011.

لكن ووفقًا لأوراق الدعوى القضائية رقم 40510 لسنة 65 القضائية لعام 2010، فإن الشركة تم بيعها إلى شركة بابكوك أند ويلكوكس، بهدف التوسع في الإنتاج وإدخال تكنولوجيا حديثة. وكان ذلك جزءًا من خطة صندوق النقد الدولي الذي اتفقت مصر معه على برنامج للإصلاح الهيكلي عام 1991.

تغطية صحفية لأزمة شركة المراجل البخارية (صحيفة الأخبار)
تغطية صحفية لأزمة شركة المراجل البخارية (صحيفة الأخبار)

ثم وبعد مرور أكثر من 12 عامًا وتحديدًا في 2008، باعت الشركة الأمريكية شركة المراجل البخارية إلى شركة الخلود للاستثمار العقاري التي فككت المعدات وباعتها إلى إحدى الشركات التابعة لمجموعة أوراسكوم للإنشاءات الصناعية.

ونتيجة لـدعوى قضائية تقدم بها بعض العمال وحقوقيون أبرزهم حمدي الفخراني، وربيع قطب، وياسر أحمد جادو، وعادل قرني مدكور، في العام 2010 برقم 40510 لسنة 65 القضائية ضد رئيس مجلس الوزراء، ورئيس الهيئة العامة للاستثمار، ورئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية، ورئيس مجلس إدارة شركة الخلود للاستثمار العقاري، أعيدت الشركة مرة أخرى إلى الحكومة المصرية في 2012. إلا أن شركة الخلود للاستثمار العقاري لجأت للتحكيم الدولي في عام 2015، حيث كانت تُطالب بتحويل أرض الشركة من نشاط صناعي إلى سياحي.

اقرأ أيضًا: خفايا مفاوضات مصر وصندوق النقد.. قرض مساومة على “الدعم والخبز والثقة”

وبعد أربع سنوات، وتحديدًا في عام 2019 أسدلت الحكومة الستار على هذا النزاع الطويل، وتكبدت مبلغ 642 مليون جنيهًا كتعويضات؛ منها 400 مليون جنيهًا لبنك فيصل الإسلامي، و224 مليون جنيهًا لشركة الخلود للاستثمار العقاري.

وفي النهاية، دُمرت شركة المراجل البخارية، واستحوذت وزارة البترول على أرضها مقابل مديونيات كانت على الشركة القابضة للصناعات الكيماوية لصالح الوزارة، وانتهت دون رجعة.

الخصخصة والفساد

يصف المحلل الاقتصادي، أحمد السيد النجار، برنامج الخصخصة في مصر بـ”وجع وفساد”، مدللًا بقضية بيع شركة المراجل البخارية كمثال صارخ على الفساد الذي وصل قمة الهرم الحكومي. ويقول أن أحد المسئولين الكبار حصل على رشوة بقيمة 91 مليون دولار.

ويشار إلى أن عبد الوهاب الحباك، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية سابقًا، قد حُكم عليه في عام 1997 بالسجن لمدة 10 أعوام بتهمة استغلال منصبه والتربح من المال العام على إثر صفقة بيع شركة المراجل البخارية.

وكانت التُهم الموجهة إليه إيداع مبالغ قدرت بنحو 50 مليون دولار في حسابات خارجية. فيما غرمته المحكمة -وقتها- مبلغ 24.7 مليون دولار، بالإضافة إلى 5.6 ملايين مصري. وقد أعاد للحكومة مبلغ 20 مليون دولار منها، وفقًا لتقارير صحفية.

الخصخصة والبنوك

لم تكن تلك هي الحالة الوحيدة التي انتهت فيها شركات ومؤسسات بالانهيار والإفلاس بعدما خصخصتها الحكومة أو باعت أسهمًا تملّكها فيها للقطاع الخاص. إذ هناك نموذج آخر، انتهت فيه المؤسسة المباعة إلى اندماجها وتماهيها مع مؤسسة خارجية. ففي عام 1997، باعت الحكومة المصرية بنك الإسكندرية التجاري البحري إلى الإمارات بقيمة 27 مليون دولار، ثم تحولت اسمه إلى بنك الاتحاد الوطني مصر عام 2007.

وفي عام 2020، تغير مسمى بنك الاتحاد الوطني مصر إلى بنك أبوظبي التجاري بعد حصوله على موافقة البنك المركزي المصري. وذلك بعد إتمام بنك الاتحاد الوطني في الإمارات اندماجه مع بنكي أبو ظبي التجاري ومصرف الهلال في نفس العام، ليتكون بذلك أحد أكبر البنوك التجارية في دولة الإمارات.

تدمير سيمو للورق

الحالة الثالثة هي شركة الورق للشرق الأوسط “سيمو”، والتي باعت الحكومة أسهمًا فيها إلى شركات وأشخاص عام 1997. وهو الأمر الذي تسبب في تحكّم المستثمر أحمد ضياء الدين وأولاده في نسبة 65% من أسهمها.

تأسست شركة الورق عام 1945 على مساحة أكثر من 300 فدان، وكانت حتى عام 1997 واحدة من كبرى شركات إنتاج الورق والأغلفة والمواسير الحلزونية في الشرق الأوسط وتكفي احتياجاتنا ويفيض من إنتاجها للتصدير. ذلك بالإضافة إلى ماكينات لإنتاج أطباق البيض الكرتونية، وأيضًا كانت تكفي الاحتياج المحلي ويصدر منها إلى الخارج. لكن وبعد بيع الأسهم، بدأت الشركة في تسجيل خسائر، وفقًا للمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

بحسب المركزي المصري، كان وضع شركة الورق للشرق الأوسط عام 1997 كان جيدًا. إذ حققت مبيعات بقيمة تزيد على 38 مليون جنيهًا. وكانت تمتلك آلات ومعدات تزيد قيمتها على 10 ملايين جنيه، ومخزون من قطع الغيار يزيد عن 9.5 مليون جنيه، في حين كان رأسمال الشركة المصدر والمدفوع 30 مليون جنيهًا.

وبالتالي، فإن كل الدلائل تؤكد في حالتها أيضًا أنه لم يكن هناك ما يدعو لبيعها. ومن ثم فهو بيع دون مقتض ودون توافر الشروط المقررة بالمادة 26 من اللائحة التنفيذية للقانون رقم 203 لسنة 1991 الخاص بشركات قطاع الأعمال العام، وتقضي بعدم بيع أي أصل في شركة من القطاع العام إلا بموافقة الجمعية العامة غير العادية.

اقرأ أيضًا: قراءة غير اقتصادية لوثيقة سياسة ملكية الدولة المصرية

حالات بيع أصول أو حصص في شركات القطاع العام كما حددتها المادة 26 من اللائحة التنفيذية للقانون 203
حالات بيع أصول أو حصص في شركات القطاع العام كما حددتها المادة 26 من اللائحة التنفيذية للقانون 203

وفي عام 2014، أصدرت محكمة القضاء الإداري، حكمًا بقبول الدعوى التي أقامها 1500 عامل هم أغلب عمال شركة الورق للشرق الأوسط “سيمو”، وقضت ببطلان عقد بيع الشركة، وعودة جميع أصولها وممتلكاتها للدولة، وإعادة العمال المفصولين. وقد أصدر مجلس الدولة في 2020 حكمًا بوقف نظر الطعن الذي أقامته الحكومة على حكم القضاء الإداري. حيث كانت تُطالب بعدم تنفيذه وعدم عودة الشركة لحيازتها.

وقد أوقف الحكم وقفًا تعليقيًا لحين فصل المحكمة الدستورية العليا في الطعن المقام أمامها على دستورية القانون رقم 32 لسنة 2014 بتنظيم الطعن على عقود الدولة.

وفي النهاية، ووفقًا لشهادات بعض العمال، فإن الشركة حاليًا متوقفة عن العمل. ورغم ذلك تستمر الشركة القابضة للصناعات المعدنية في دفع أجور العاملين بها. إذ سددت الشركة نحو 287 مليون جنيهًا للعاملين بشركة الأوسط للورق، وشركة المراجل البخارية، وطنطا للكتان والزيوت، في العام المالي 2020/ 2021.

بيع يخالف القيمة الحقيقية

تكشف دراسة أجرتها الدكتورة سلوى صابر، أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر، أن برنامج الخصخصة في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك سُجلت عليه شبهات فساد وتربح عديدة. وهو ما تُوضحه أرقام الجهاز المركزي للمحاسبات، إذ أن 69% من صفقات بيع هذه الشركات تمت بأقل من قيمها الحقيقية.

كما أن إجمالي قيمة بيع أصول القطاع العام الحكومي المصري في عهد مبارك بلغت قرابة 500 مليار جنيه. ذلك علمًا بأن تلك الأصول قُيمت وقت إنشاءها في ستينيات القرن الماضي بحوالي 115 مليار جنيه، حسب التقارير الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية. في وقت كانت القيمة الحقيقية التي دخلت خزائن الحكومة المصرية، وفقًا للبيانات الصادرة عن دراسة سلوى صابر، لم تتخط 25 مليار جنيهًا. بما يشير إلى بيعها بأقل من 5% من قيمتها الحقيقية بعد عام 1994.

الشركات المباعة وفقًا للقانون 2003 حسب برنامج الخصخصة المصري من 1991 إلى 2010
الشركات المباعة وفقًا للقانون 2003 حسب برنامج الخصخصة المصري من 1991 إلى 2010 (إنفوجراف: مصر360)

تسرد الدراسة حالات الفساد التي جرت في عمليات بيع الشركات. وذلك بداية من صفقة بيع شركة “عمر أفندي” لمستثمر سعودي بقيمة 589.5 مليون جنيهًا. وهو مقابل لا يساوي قيمة ثمن الأرض المقام عليها نحو 82 فرعًا للشركة بالمحافظات. في حين قدرت لجنة التقييم حينها أسعار بعض فروع الشركة بأكثر مما عرضه المستثمر. وبذلك ضاع نحو 500 مليون جنيه على الدولة، هي ثمن الفرق بين عملية البيع والقيمة التي قدرتها لجنة التقييم.

تكررت الحالة أيضًا في شركة النشا والجلوكوز والتي قُدرت أصولها الدفترية بقيمة 161 مليون جنيهًا. فيما بيعت لمستثمر كويتي بقيمة 26 مليون جنيهًا، وفقًا للدراسة.

مصنع غزل قليوب مثال آخر صارخ على الفساد، إذ كانت تُقدر قيمته الدفترية بحوالي 60 مليون جنيهًا. لكن تم بيعه بقيمة 4 ملايين جنيه فقط. وكذلك مصنع غزل شبين الذي تم بيعه بقيمة 170 مليون جنيهًا، رغم تقييم اللجنة الحكومية له بأكثر من 325 مليون جنيهًا، بحسب الدراسة.

استحواذات 2022

*في إبريل/ نيسان الماضي، استحوذت شركة أبوظبي القابضة (الصندوق السيادي الإماراتي)، على حصص بـ5 شركات، تضمنت البنك التجاري الدولي، وفوري، وأبو قير للأسمدة، ومصر لإنتاج الأسمدة موبكو، والإسكندرية لتداول الحاويات، مقابل نحو 1.8 مليار دولار.

وبعد 3 أشهر حققت شركتان هما أبوقير للأسمدة وموبكو أرباحًا تاريخية بقيمة 11.2 مليار جنيهًا. حيث حققت شركة أبوقير للأسمدة أرباح بقيمة 9.1 مليار جنيهًا في العام المالي 2021/ 2022، مقابل 3.5 مليار جنيهًا في العام المالي السابق عليه.

وقد حققت شركة موبكو أرباحًا بقيمة 2.1 مليار جنيهًا خلال الربع المالي الثاني من عام 2022. وارتفع صافي مبيعات الشركة بأكثر من 91% في الفترة من إبريل/ نيسان وحتى يوليو/ تموز الماضي؛ لتصل إلى 4.1 مليار جنيه، مقابل 2.1 مليار جنيه للفترة نفسها من عام 2021، وفقًا لبيانات صادرة عن الشركة.

وحتى بعد تحقيق تلك الأرباح، باعت الحكومة نسبة 25% من شركة موبكو إلى الصندوق السيادي السعودي بقيمة 300 مليون دولار في أغسطس/ آب الماضي.

اقرأ أيضًا: عمال الشركات الحكومية بعد التصفية.. حقوق ضائعة وتعويضات هزيلة

ليس ذلك فقط، بل تكررت الحالة أيضًا مع البنك التجاري الدولي الذي حقق أيضًا ارتفاعًا في أرباحه بعد بيع حصص الحكومة لصالح شركة أبوظبي القابضة، بنسبة 28% خلال النصف الأول من العام 2022.

وبحسب البيانات التي أصدرها البنك في يوليو/ تموز الماضي، سجل البنك صافي ربح بقيمة 7.76 مليار جنيهًا منذ بداية يناير/ كانون الثاني حتى نهاية يونيو/ حزيران الماضي، مقابل نحو 6.08 مليار جنيه أرباحًا خلال نفس الفترة من العام الماضي 2021.

كما بلغت إيرادات البنك خلال نفس الفترة نحو 6.9 مليار جنيه بزيادة مقدارها 8% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي 2021.

والحالة الأخيرة تكررت مع استحواذ مجموعة مواني أبوظبي الإماراتية على 70% من حصص من شركتي ترانسمار الدولية للنقل البحري “ترانسمار”، و”ترانسكارجو الدولية” “تي سي آي” المصريتين مقابل نحو 140 مليون دولار. في حين تمضي الشركتان في تحقيق عائدات بقيمة تصل إلى 137 مليون دولار، وأرباح قبل عملية استقطاع الفوائد والضرائب والإهلاك بقيم تقترب من 65 مليون دولار عن العام الجاري 2022، بحسب بيان للشركة.

أعداد وحجم الشركات المشتركة بين القطاع العام والحكومة التي بيعت حسب برنامج الخصخصة المصري 91/ 2010 (إنفوجراف: مصر360)
أعداد وحجم الشركات المشتركة بين القطاع العام والحكومة التي بيعت حسب برنامج الخصخصة المصري 91/ 2010 (إنفوجراف: مصر360)

أعداد وحجم الشركات المشتركة بين القطاع العام والحكومة التي بيعت حسب برنامج الخصخصة المصري 91/ 2010

في النهاية، إذا كان على الحكومة أن تبيع شركات وأموال المصريين، فلابد وأن تكون هناك لجان تقييم لأسعار تلك الأصول، بدلًا من بيعها في وقت تستغل فيه بعض المؤسسات والشركات تراجع قيمة تلك الأصول بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية مع تردي أوضاع الاقتصاد.


* أحصى “مصر 360″، مجموعة من تلك الصفقات الكبرى اعتمادًا على المواقع الإخبارية وبيانات البورصة المصرية. وذلك فيما يتعلق بالصفقات التي أبرمتها الحكومة مع شركات خليجية على وجه الخصوص، باعتبارها الأكثر استحواذًا وشراءً خلال الفترة الماضية.