طريق الخلاص المُشار إليه في العنوان، هو رؤية نراها في ضوء ما سَلَكَته شعوبٌ قبلنا للتعافي من آثار مِحنتها بعد زوال رؤوس الفتنة (وليس قبل ذلك).. فآثار الفتنة لا تزول بزوال رؤوسها، بل لعلها تتعمق إذا لم يتم التعامل معها بخليطٍ من الحكمة والمحاسبة والتسامح.

وإذا كان التسامح واردا في إجابة سؤال الدم، فإن التسامح لا يجوز مطلقا في إجابة سؤال الفساد.. فالفساد هو المِعوَل الذي يهدم كل جهدٍ وأي إنجاز.. وهو أساس الخراب الذي لا يجوز الصفح عنه لا من قبل، ولا من بعد، ولا الآن طبعا.

اقرأ أيضا.. باب الخروج.. هل من سبل لتفعيل أدوار منظمات المجتمع المدني في مصر؟

مصر دولة فاسدة.. هذا ليس انطباعا للأسف، وإنما هكذا يرانا العالم وِفقَ مقاييسه التي اتفقت عليها دُوَلُه (بما فيها مصر بالمناسبة) والتي يلخصها المقياس المعتمَد عالميا لمكافحة الفساد والذي تصدره منظمة الشفافية الدولية في برلين (حيث صاحبُ الترتيب الأول هو الأكثر شفافيةً والأقل فسادا، بينما الأخير هو الأكثر فسادا والأقل شفافيةً)، ووفقا للتقرير الصادر في بداية هذا العام عن حالة الشفافية عام 2021 تحتل مصر الترتيب 117 من 180 دولة بدرجة شفافية 33٪ فقط.

يتصدر القائمة حاليا كلٌ من نيوزيلندا وفنلندا والدانمارك ويتذيلها جنوب السودان.. وبالنسبة للدول العربية فأكثرها شفافيةً الإمارات في المركز 24 عالميا (69٪؜)، ثم قطر في المركز 31 (63٪؜)، ثم السعودية في المركز 52 (53٪؜)، ثم عمان في المركز 56 (52٪؜).. أمَّا نحن ففي موقعٍ متوسطٍ بين الراسبين (أقل من 50٪؜) وتتقدمهم الأردن، ثم تونس، ثم الكويت، ثم البحرين، ثم المغرب، فالجزائر ومصر.. لكننا بفضل الله أفضل من جيبوتي وموريتانيا ولبنان والعراق وجزر القمر والسودان وليبيا واليمن وسوريا والصومال بالترتيب.

ووصفتْ منظمةُ الشفافية الدولية مصر بأنها (واحدةٌ من الدول الأسوأ أداءً في مجال الشفافية في العامين الماضيين، مع قيام السلطات بمعاقبة المعارضة واحتجاز الصحفيين والسياسيين والنشطاء، والحد من نشاط مؤسسات المجتمع المدني أو السيطرة عليه).

وكانت قد ذكرت في تقريرٍ سابقٍ (أن الفساد مُستشرٍ في مصر في ظل غياب أي إرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ وجادة لمكافحته، وإن الحكومة المصرية تعدت على إحدى الهيئات المستقلة لمكافحة الفساد بإقالة المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات ومحاكمته بتهمة نشر أخبار كاذبة حول الوضع الاقتصادي في البلاد، لأنه كشف أن حجم تكلفة الفساد في مصر بلغ 600 مليار جنيه في أربع سنواتٍ).. ما لم تذكره المنظمة أن الرجل لم يُعزَل ويُحاكَم فقط، وإنما ضُرِبَ ضربا مبرحا وقارب على إكمال عامه الخامس في الحبس الانفرادي.

ليس في وضع مصر في ترتيبٍ مُتدَنٍ على مؤشر الشفافية أي مفاجأة، فالشفافية تعنى بالبلدي أن يكون كل شيء في النور.. لأن الفساد لا ينمو ولا يترعرع إلا في الظلام.. وتتحدد درجة الشفافية في الدولة بناءً على مدى استيفائها لعدة متطلبات، أهمها ما يلي، (وأترك لكم الحُكْمَ بأنفسكم وتقدير الدرجات):

1– وجود برلمان حقيقي يمارس رقابةً حقيقية على السلطة التنفيذية.

2- توسيع نطاق مساءلة كافة مؤسسات الدولة أمام الشعب، حيث لا استثناء لفئة أو مؤسسة (جيش/ شرطة/ قضاء … إلخ).

3- وجود منظمات مجتمع مدني قوية ومستقلة وفعَّالة (ولا تُلَفَق لها القضايا ويُعتقَلُ نُشطاؤها بالطبع).

4- قضاء قوي ومستقل استقلالا تاما، وتطبيق صارم للقانون على الجميع بلا استثناءات.

5- درجة عالية من إتاحة المعلومات وحرية تداولها، والإفصاح عن الذِمَّة المالية للمسؤولين، ومنع تضارب المصالح.

6- إعلامٌ حر مستقل.

7- التزام الشفافية حيال العقود التي تبرمها الدولة وكافة أوجه الإنفاق العام والميزانيات العامة والمشروعات الحكومية (أو ما يُسَّمَى بالمشروعات القومية).

8- احترام حقوق الإنسان (بالمفهوم المتعارف عليه عالميا لا التعريف الهزلي الذي انفردنا به).

العالم يرانا دولةً فاسدةً.. فالعالم لا يقيس مكافحة الفساد في بلدٍ ما بعدد المُتَّهَمين الذين تضبطهم الأجهزة الرقابية.. فكل الدول والأنظمة (بما فيها الفاسدة والفاشلة) تُلقِي القبض من آنٍ لآخر على فاسدٍ هنا أو هناك.. حتى العصابات تعاقب بعضَ لصوصها أحيانا.. الأعداد مجرد مؤشرٍ ضعيفٍ على إنجاز الجهاز الرقابي القائم بالضبط.. وحتى هذا الإنجاز لا يكتمل قياسه إلا بمعرفة عدد المضبوطين الذين انتهت محاكمتهم بالإدانة.. فضبط الأبرياء ليس إنجازا.

والعالم لا تخدعه العبارات البراقة مثل (القانون على الجميع) وهو يرى القانون ليثا هصورا في مواجهة البعض.. خجولا ذليلا في مواجهة آخرين.. فالانتقائية في محاربة الفساد فساد.

والعالم يراقب التزام رئيس الدولة بنشر تفاصيلَ ذِمَّتِه المالية في الجريدة الرسمية، ومِن أين اكتسبها، ليس تفضلا وإنما التزاما بالدستور.. فإذا لم يفعلها لا يستمر على مقعده يوما واحدا وتتم محاسبته أمام البرلمان.. المشكلة أن العالم يضع مواصفاتٍ مختلفةً للبرلمانات تختلف عن برلماناتنا.. فميزانياتها أيضا معلنة وليست سرا من أسرار الأمن القومي.

والعالم لا يتخيل أن دولةً تَدَّعِى محاربة الفساد تصدر قانونا ليس له شبيه في تاريخ الأمم للتصالح مع أصحاب المعالي لصوص المال العام وتكريمهم (القانون رقم ١٦ لتعديل الإجراءات الجنائية).. وهو قانون لا تجرؤ حتى عصابات المافيا على إصداره لإدارة شؤونها.. وتُصدر قانونا فضائحيا آخر يُحَّصِن كل جرائم الخصخصة بأثرٍ رجعي.. وكأنها دعوةٌ رسمية: ادخلوها فاسدين.

تقرير الشفافية الأخير لا يُدين الشعب وإنما يدين النظام.. فالتدهور في البنود السابقة كلها مسؤولية النظام لا الشعب.. الشعب المصري في معظمه شعبٌ شريف.. معظم المصريين يلاطمون الحياة ويبيتون على الطوى ولا يسألون الناس إلحافا ولا يمدون أيديهم إلى مالٍ حرامٍ.

إجابة سؤال الفساد سهلة.. كل تَحَّسُنٍ في أي من البنود الثمانية المذكورة يصعد بنا على مؤشر الشفافية إلى أعلى، وكُلُّ تَرَاجُعٍ ينحدر بِنا في اتجاه القاع.

لا أدري أين سيكون موقعنا على المؤشر الجديد الذي سيصدر بعد شهورٍ قليلة (بداية 2023) عن حالة الفساد هذا العام (2022)، وإن كانت الشواهد تَدُّلُ على أن الجي بي إس الرسمي يقودنا بسرعةٍ (رغم شبكة الكباري الرائعة) في اتجاه.. الصومال.