أخيرًا وفي يوم الأربعاء الماضي صدرت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (المعروفة باسم استراتيجية إدارة بايدن-هاريس للأمن القومي) في 48 صفحة مُبَوبةً في افتتاحية ممهورة بتوقيع الرئيس بايدن تلتها خمسة عناوين رئيسية: “المُنافسة فيما هو آت، والاستثمار في القوة الأمريكية، وأولويات عالمنا، والاستراتيجية الأمريكية مُقَسمة حسب المناطق الجغرافية في العالم حيث تعتبر أمريكا العالم كله -بل وفضاءه الكوني أيضًا- حدودَ أمنها القومي، ثم الخاتمة”. كانت الافتتاحية شديدة العمومية وقد تضمنت العديد من التعابير العاطفية وإن احتوت إشاراتٍ هامة لتُختَتَم بفقرة حماسية: “ترتكز استراتيجية 360 درجة هذه على واقع العالم الآن، فتحدد المستقبل الذي نسعى إليه وتطرح خارطة طريق لكيفية تحقيقه.

اقرأ أيضا.. أمريكا بين أوبك ونُوبِك وعندليب شيفشينكو

لن يكون أي من هذه الأمور سهلًا أو بلا نكسات. لكنني على ثقة أكثر من أي وقت مضى، من أن الولايات المتحدة الأمريكية لديها كل ما نحتاجه للفوز بالمنافسة في القرن الواحد والعشرين. نحن نخرج من كل أزمة أقوى مما دخلناها. ليس هناك ثمة ما يتجاوز قدراتنا. يمكننا القيام بذلك لأجل مستقبلنا وللعالم. إن هذا العقد هو الحاسم في تاريخ المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية”.

اللافت في تاريخ الوثيقة الذي جاء في أعقاب الأزمة مع أوبك+ والتي أوضَحْتُ تبعاتها بمقال الأسبوع الماضي، أنها قد خرجت للنور قبل يوم واحد من قيام لجنة الكونجرس الأمريكي المُكَلَفة بالتحقيق في أحداث الشغب التي صاحبت محاولة أنصار الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” اقتحام الكابيتول في يناير 2021، بإصدار مذكرة استدعاء رسمية لترامب لأجل الإدلاء بشهادته حول ماحدث من أنصاره.

وعلى الرغم من أن إصدار مثل هذه المذكرة -في ذاته- لا يترتب عليه إي إجراء قانوني بِحَقِ ترامب على نحو يمنعه رسميًا من خوض معركة الانتخابات الرئاسية القادمة، إلا أن مثل هذا الاستدعاء له أثره السياسي البالغ في إظهاره بمظهر المتمرد المارق عن التقاليد الديمقراطية الأمريكية مع الرهان على ردود أفعاله الحادة وزلات لسانه المُحتَمَلة أثناء إدلاءه بشهادته -إن حدث-، وهو أمرٌ لا أراه يضر بالرئيس السابق والحزب الجمهوري قدر ما يفيد الرئيس الحالي والحزب الديمقراطي خاصةً وأن انتخابات التجديد النصفي للكونجرس على الأبواب وقد حَلت في وقت انخفضت فيه شعبية الرئيس بايدن بدرجة ملحوظة. بالإضافة إلى ذلك، فقد جاءت هذه الوثيقة التي طال انتظارها حسب وصف صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية لتوفير قدر من الشفافية والالتزام بخطوات محددة والإفصاح عن سياسات واضحة إزاء قضايا مُلِحة يمر بها العالم. كانت قراءتي للوثيقة شاملة، لكنني سأعرض على القارئ الكريم في هذا المقال ما يتعلق منها فقط وبشكلٍ خاص بالموقف الأمريكي من الصين وروسيا والشرق الأوسط.

الصين

الرئيسان الأمريكي بايدن والصيني بينج

كان الإقرار الأمريكي واضحًا بأن “جمهورية الصين الشعبية هي المنافس الوحيد الذي تتوافر لديه كل من النية على إعادة تشكيل النظام العالمي، والقوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق تلك النية على نحو متزايد، حيث تطمح الصين لتعزيز نفوذها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأن تصبح القوة الرائدة في العالم”.

هكذا كانت مقدمة الجزء من الوثيقة المتعلق بالصين واضحة بلا مواربة، فنصف الحل يكمن في تقييمٍ موضوعيٍ لقدرات الخصم (المنافس على حد تعبير الوثيقة) التي رغم تأكيدها على محورية دور الصين وتأثيرها العالمي على التحديات المشتركة وهو ما يقتضى تعاونًا على نحوٍ ما تتشارك فيه مع أمريكا لتحقيق التقدم البشري من أجل التعايش السلمي العالمي، إلا أن الوثيقة قد أشارت في جانب آخر وبمنتهى الوضوح إلى تعهد أمريكا بمحاسبة الصين على انتهاكات الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية في “شينجيانج” وانتهاكات حقوق الإنسان في “التيبِت” وتفكيك الاستقلال وقمع الحريات في “هونج كونج”.

كما أشارت الوثيقة بمزيدٍ من الوضوح إلى تعهد الإدارة الأمريكية بمنح الأولوية للاستثمار في جيش مُقاتل موثوق فيه لرد العدوان عن حلفاء وشركاء أمريكا في المنطقة وليساعدهم في الدفاع عن أنفسهم، وخصت الوثيقة “تايوان” بالذكرِ الصريح في تلك الإشارة. وقد انتهى هذا القِسم من الوثيقة بإبرازٍ صريحٍ لاستعداد أمريكا للانخراط مع الصين بشكل بَنَّاء ورغم الخلافات المبدئية للعمل سويًا لإيجاد حلول للقضايا الكبرى عابرة الحدود كأزمة المناخ.

روسيا

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

“خلال العقد الماضي، اختارت روسيا اتباع سياسة خارجية إمبريالية بهدف تدمير الركائز الأساسية لاستقرار عناصر النظام العالمي”، هكذا كانت بداية القسم الخاص بروسيا في الوثيقة. نعم أيها القارئ الكريم، لم يَخُنْكَ بصرك ولم يخطأ قلمي، أمريكا تنتقد “إمبريالية” روسيا!! سقى الله الأيام الخوالي!.

قدمت الوثيقة سردًا تاريخيًا لخطايا روسيا في العالم خلال العَشْرية الأخيرة بالإشارة إلى غزوها لأوكرانيا عام 2014 وتدخلها العسكري في سوريا ومحاولاتها المستمرة لزعزعة استقرار جيرانها وتقويض العملية الديمقراطية في دول العالم، ثم أشارت -في تعبير ليس غريبًا عن الأدبيات السياسية لكنه بالغ الدلالة- إلى تدخل روسيا “بوقاحة” Brazenly)) في السياسة الأمريكية وقيامها بزرع الانقسامات بين الشعب الأمريكي.

ثم أسهبت الوثيقة في استعراض جهود الإدارة الأمريكية لحشد دول العالم لمحاسبة روسيا على فظائعها في أوكرانيا بالتعاون مع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي مؤكِدَةً على تعهدات الإدارة الأمريكية ببذل الجهد في أربعة توجهات: أولًا) ستواصل أمريكا دعمها لأوكرانيا في كفاحها من أجل الحرية، وستساعدها على التعافي اقتصاديًا، وستشجع تكاملها الإقليمي مع الاتحاد الأوروبي.

ثانيًا) ستدافع أمريكا عن كل شبر من أراضي حلف شمال الأطلسي، وستواصل بناء وترسيخ تحالف مع الحلفاء والشركاء لمنع روسيا من التسبب في مزيد من الضرر للأمن والديمقراطية والمؤسسات الأوروبية. ثالثًا) ستردع أمريكا وسترد -عند الضرورة- على الإجراءات الروسية التي تهدد المصالح الأمريكية الأساسية، بما في ذلك الهجمات الروسية على البنية التحتية والديمقراطية الأمريكية. رابعًا) سيكون الجيش الروسي التقليدي قد ضعف، الأمر الذي من المرجح أن يزيد من اعتماد موسكو على الأسلحة النووية في تخطيطها العسكري حيث لن تسمح أمريكا لروسيا أو أية قوة أخرى بتحقيق أهدافها من خلال استخدام الأسلحة النووية أو التهديد باستخدامها.

الشرق الأوسط

ولي عهد السعودية والرئيس الأمريكي

اعترفت الوثيقة بإخفاق سياساتها المتعلقة بتدخلها العسكري خلال العقدين الماضيين في تغيير النظم الحاكمة بمنطقة الشرق الأوسط وأشارت إلى أن الإدارة الأمريكية تعتمد الآن إطارًا من شأنه أن يعزز مصالحها ويساعد شركاءها الإقليميين على إرساء قواعد الاستقرار والازدهار لشعوب المنطقة يقوم على خمس مبادئ:

أولًا، ستدعم أمريكا وتعزز الشراكات مع الدول التي تحترم قواعد النظام العالمي مع التأكد من إمكانية قيامها بالدفاع عن نفسها ضد التهديدات الأجنبية.

ثانيا، لن تسمح أمريكا للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيقي هرمز وباب المندب، ولن تتسامح مع الجهود التي تبذلها أي دولة للسيطرة على دولة أخرى من خلال الحشود العسكرية أو أعمال الغزو أو التهديد بذلك.

ثالثًا، العمل على خفض التصعيد وإنهاء الصراعات كلما أمكن من خلال الدبلوماسية.

رابعًا، ستعمل أمريكا على تعزيز التكامل الإقليمي من خلال بناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركائها الإقليميين، من خلال البنى الهيكلية لأعمال الدفاع الجوي والبحري، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة.

خامسًا، ستعمل أمريكا دائما على تعزيز حقوق الإنسان والقيم التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة. كما أشارت الوثيقة إلى استمرار الجهود الأمريكية في منع تصدير الإرهاب أو الهجرة الجماعية من اليمن وسوريا وليبيا، أخذا بالاعتبار تأثيرات التغيرات المناخية والتكنولوجية والديمجرافية مع العمل مع شركائها الإقليميين لمساعدتهم في إدارة الأثر الأشمل لهذه التحديات.

أكدت الوثيقة استمرار أمريكا في تعزيز ودعم حل الدولتين الذي يحافظ على مستقبل إسرائيل مع تلبية تطلعات الفلسطينيين إلى دولة آمنة مؤكدة على تصريحات الرئيس بايدن خلال زيارته للضفة الغربية في يوليو 2022، من أن “دولتين على طول خطوط عام 1967، مع مقايضات متفق عليها بشكل متبادل with mutually agreed swaps، لا تزال هي أفضل طريقة لتحقيق قدر متساو من الأمن والازدهار والحرية والديمقراطية للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.”

الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي

وأشارت الوثيقة إلى استمرار سعي أمريكا لتعميق علاقات إسرائيل بالدول العربية بما في ذلك “اتفاقات إبراهيم” مع الالتزام الأمريكي الصارم بالحفاظ على أمن إسرائيل. وفيما يتعلق بإيران، أكدت الوثيقة استمرار العمل مع الحلفاء الإقليميين لتعزيز قدراتهم على ردع ومواجهة تحركات إيران المزعزعة للاستقرار من خلال العمل الدبلوماسى لضمان عدم تمكين إيران من امتلاك سلاح نووي، مع البقاء في وضع يسمح باستخدام وسائل أخرى في حال فشلت الجهود الدبلوماسية. وأشارت الوثيقة كذلك إلى دعم الشعب الإيراني في نضاله من أجل حقوقه الأساسية التي حَرَمَهُ منها النظام الإيراني حسب نص الوثيقة.

كانت الوثيقة -في تصوري- واضحة تمامًا في تقييمها للواقع العالمي من وجهة نظر الإدارة الأمريكية، فحصرت نطاق المنافسة في الصين فقط بينما وضعت روسيا في مرتبة أدنى باعتبارها مصدرًا للإزعاج وزعزعة الاستقرار مستخدمة تعابير من قبيل “الردع” Deter و”الرد” Respond على التحركات والتهديدات الروسية لمصالح أمريكا الأساسية (وما أدراك ما المفهوم الأمريكي لكلمة “الأساسية”).

وأتصور أن قضايا الشرق الأوسط قد توارت للخلف قليلًا في سُلم الأولويات الاستراتيجية للإدارة الأمريكية وهو ما يعكس رؤيتها المُطمئنة على قدرة حلفائها على حفظ استقرار الأوضاع بالمنطقة حتى وإن اختلفت مع بعضهم تكتيكيًا. لم تأت الوثيقة بجديد على المستوى الاستراتيجي، حيث جددت الإدارة الأمريكية تعهدها بعدم التدخل العسكري لتغيير الأنظمة القائمة، وأكدت على التزامها الصارم بأمن إسرائيل وتبنيها حل الدولتين الذي يُتداول منذ عقود بلا أي تقدم جاد يتيح سلامًا وتعايشًا حقيقيين.

كانت الوثيقة قاطعة في طرح تصوراتها للتعامل مع الواقع العالمي بكل تهديداته، إلا أن صياغتها كانت تحمل ملمحًا أساسيًا اعتمد على الوعيد أحيانا والتهديد أحيانًا أخرى حتى في أدق القضايا وأكثرها حساسية فتركت الباب مواربًا بعض الشيء للسماح بحلول دبلوماسية هادئة منخفضة التكاليف وغير تصادمية تستعيد من خلالها هيمنتها وإن كان للممارسة الفعلية على الأرض شأن آخر تحكمه مواقف تكتيكية تتبدل أساليب التعاطي معها في حدود السياق العام. وكما بدأت الوثيقة بعبارة “إن هذا العقد هو الحاسم في تاريخ المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية”، انتهت بعبارة “لا وقت لدينا لنضيعه”.