في خطوة نادرة، وفي توقيت سياسي سوداني حرج، يزور المستوى القيادي في حزب الأمة السوداني وهيئة “شؤون الأنصار” مصر، حيث يلتقي مسئولين رسميين وأيضا مراكز بحثية، طبقا لبيان حزب الأمة ذاته.
هذه الزيارة تثير الكثير من الجدل، وتطرح العديد من الأسئلة التي وصلتني عبر صفحتي على فيس بوك.. معظم الأسئلة تدور حول تاريخ العلاقة بين حزب الأمة ومصر، وأخرى تدور حول الأهداف من الزيارة.
هذا الحدث عاد بي على نحو ما إلى تفاعلات حزب الأمة وزعيمه المرحوم الصادق المهدي مع مصر، حيث مرت هذه العلاقة بكثير من المحطات السلبية والإيجابية، تعرفت على الكثير منها مباشرة من السيد الصادق نفسه عبر جلسات مطولة لمسيرة حياته، وطبيعة علاقته بمصر على المستويين الشخصي والحزبي، حيث نشرتها في مجلة الأهرام العربي مع مطلع الألفية كما أذكر.
وربما يكون أهم محطات هذه السلسة من الحلقات في تقديري عددا من الأحداث المفصلية، الأول هو أن الصادق نفسه، كانت قد تمت دعوته في خمسينيات القرن الماضي وهو لم يبلغ العشرين لزيارة مصر والتعرف عليها، وهي زيارة -في تقدير الصادق- كانت مهمة، لأنه حسب تعبيره من يزور مصر غير الذي قد سمع عنها. وربما هذه الزيارة هي ما جعلت الشاب اليافع يقود نشاطا طلابيا عربيا في لندن دعما لمصر أثناء العدوان الثلاثي عليها عام 1956، وهو دعم حظيت به مصر حكومة وشعبا ليس من الصادق وحده ولكن من الشعب السوداني قاطبة، حيث تابعت صحف هذه الفترة وعرفت كيف أن الكنداكات السودانيات كن يتبرعن بمصاغهن الشخصي لدعم المجهود الحربي لمصر ضد العدوان البريطاني الفرنسي الإسرائيلي عليها.
المحطة الثانية التي تحدث عنها الصادق المهدي هي محطة إنقاذه من الاغتيال وهي المحطة التي عاش فيها المهدي في مصر في بداية الثمانينات حماية له من نميري بعد انقلابه عام 1969 وسعيه لاغتيال الصادق خصوصا بعد أحداث الجزيرة آبا.
في هذا السياق تم اعتقال الصادق المهدي بأوامر من السلطات السودانية وترحيله لمصر خوفا من هبة ضد الانقلاب الجديد من جانب جماهير الأنصار، وعاش في مصر مع محمد أحمد محجوب وزير الخارجية السوداني الشهير صاحب العلاقة المتميزة بجمال عبد الناصر، في منزل بحي العباسية وذلك حتى انقلاب هاشم العطا المعروف انتماؤه إلى الشيوعيين، وهو الانقلاب الذي أسفر عن تفاهمات بين الصادق والسادات ضد جعفر نميري.
طبعا هذه المحطات الإيجابية لا تنفي أن العلاقة المصرية بحزب الأمة وزعيمه التاريخي الصادق المهدي فيها الكثير من السلبيات، وهي سلبيات مؤسسة على طبيعة إدراك كل طرف للآخر، منذ مرحلة السعي السوداني الوطني نحو الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في الواقع الفعلي والاستعمار المصري بواقعه الاسمي، وقد امتد هذا الالتباس في العلاقة على مدي العقود التالية لأسباب تتعلق بأن القواعد الاجتماعية والجماهيرية لحزب الأمة هي من المزارعين، وبالتالي كان لهذا الحزب وجماهيره مصلحة في التفاعل مع مصر عبر ورقة نهر النيل، وهو مايفسر لنا طبيعة زيارات الإمام عبد الرحمن المهدي لمصر قبل ثورة يوليو، وكذلك مراسلاته مع محمد نجيب بهذا الصدد، كما يفسر لنا اهتمام الصادق المهدي بالنيل أيضا ونشره كتابا هاما حول مسألة المياه هو كتاب “نهر النيل الوعد والوعيد” عام 2000.
وبطبيعة الحال، تأسست الإدراكات الملتبسة بين مصر وحزب الأمة لسببين: الأول هو الطرف البريطاني الذي حرص على أن يكون له ظهير داخلي في السودان، وهو ما حرصت عليه مصر أيضا عبر علاقتها الممتازة بالحزب الاتحادي السوداني تاريخيا. أما السبب الثاني فهو طبيعة التنافس بين الحزبين الكبيرين، والذي كان يحول دون أن تكون لمصر علاقات بحزب الأمة حرصا على علاقتها بالحزب الاتحادي الذي تأسس أصلا على فكرة الوحدة مع مصر في منتصف أربعينيات القرن الماضي.
وفي ظني أن علاقة وإدراك حزب الأمة وزعيمه المهدي وقيادات حزبه ورموز الأنصار قد تطورت بمصر في فترة وجود المعارضة السودانية في مصر تحت لواء التجمع المعارض لنظام البشير من التسعينيات وحتى 2005، وهي الفترة التي دلف فيها الصادق المهدي إلى النخب المصرية عبر حزب الوفد المصري، صاحب العلاقة المتميزة بالسودان تاريخيا، واستطاع المهدي عبر علاقته بالنخب المصرية أن يطور إدراك هذه النخبة بالسودان وقضاياه، وطرح الصادق هذه القضايا بكثير من الشفافية عبر منصات عدة، منها وربما أهمها منصة مركز الأهرام للدراسات، وكذلك منصة نقابة الصحفيين المصرين.
ونستطيع القول إن هذه الفترة قد أنتجت إدراكا جديدا للنخب الحزبية السودانية بمصر خصوصا حزب الأمة والحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جارانج، حيث عرف الجميع أمرين: الأول طبيعة الشعب المصري ومحبة الناس العادية للسودان وأهله، وأيضا إدراكا لطبيعة الدولة المصرية ومؤسساتها، وطريقة اتخاذ القرار فيها من حيث الحساسية والتعقيد إزاء السودان، وهو أمر ساهم في تقديري في تحسين الإدراك على الجانب السوداني خصوصا نخب الأنصار وحزب الأمة، أما الجانب المصري فقد استمرت مشاكله نسبيا مع الصادق المهدي وحزب الأمة بسبب حساسية نظام البشير من أي اقتراب مصري بالمهدي وحزبه، وهي حساسية كلفت مصر تكاليف كبيرة في تقديري.
حاليا مياه كثيرة جرت في النهر عبر عقود، وتغيرت البيئة السياسية في السودان كليا، وأصبح كيان مؤسسة الدولة مهددا بالانفراط، من هنا أصبحت كل الأطراف الإقليمية والدولية تسعى لأن تحافظ على استقرار السودان عبر العلاقة المتواصلة بكل أطراف المعادلة السياسية، وهو ما يفرض على مصر في هذه المرحلة تواصلا على مستوى عال مع كل الأطراف السودانية في محطتي الخرطوم والقاهرة سواء الحزبية أو الشبابية.
وبالتأكيد يؤثر في القرار المصري أن المرحلة الانتقالية التي سوف يتم التوافق حولها سوف يعقبها انتخابات سيكون للأحزاب التاريخية في السودان دور فيها، كما تتواصل أدوارها السياسية بشكل مؤثر إذا تم الاستقرار على النظام البرلماني كنظام للحكم في السودان كما هي العادة التاريخية المتأثرة بالنموذج البريطاني.
أما الهدف الاستراتيجي المصري الذي يؤطر هذه السياسيات فهو استقرار السودان والوصول إلى صيغ سياسية تمكن الدولة من الاستمرار في القيام بوظائفها الأساسية، بل وضرورة تطوير هذه الوظائف عبر التنمية الاقتصادية وهو ما يفسر المجهود المصري في تدشين خط سكة حديد واحد بين البلدين.
وفي تقديرنا أن الهدف الاستراتيجي المصري في استقرار السودان هو هدف متفق عليه إقليميا وعالميا، إذ إن أي خلخلة في السودان على هذا الصعيد ستخلق إقليما مضطربا بامتياز، وذلك مع حالة السيولة السياسية والأمنية في كل من إفريقيا الوسطى وتشاد وليبيا، وكلها دول ومساحات تملك فيها الفصائل المسلحة علاقات تواصل وتعاون، كما أنها رقعة جفرافية أوسع من أن يتحمل نتائج فوضاها أحد لا في الإقليم ولا في العالم، خصوصا إذا علمنا أن عدد العمليات الإرهابية في إفريقيا خلال عام 2021 قد تجاوز سبعة آلاف عملية، وأن الضحايا من البشر يتجاوزون ثلاثين ألفا، وأن التوقعات العلمية تشير إلى أن الظاهرة الإرهابية إلى توسع في إفريقيا، وهي مؤشرات تجعل صانع القرار المصري متحسبا للسودان ربما أكثر من أي وقت مضى، وتجعل الاستقرار السوداني على قمة أهدافه الإقليمية في هذه المرحلة.