باعتباره مرشح «الضرورة» القادم من المؤسسة «الأنسب والأكثر قدرة على إدارة البلاد وحمايتها» في ذلك التوقيت، خاض وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي انتخابات الرئاسة عام 2014، دون برنامج انتخابي محدد المعالم يرصد أزمات ومشاكل البلاد ويطرح حلول قابلة للتحقق تتناسب مع المعطيات السياسية والاقتصادية المتاحة.

تعبير «مرشح الضرورة» صكه الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل قبل شهور من انتخابات الرئاسة في وقت توالت فيه دعوات من بعض قوى الثورة تنادي بأن يظل السيسي في موقعه كوزير دفاع وقائد عام للقوات المسلحة التي كفل لها الدستور الحفاظ على مدنية الدولة وصون الديمقراطية ومكتسبات الشعب وحقوق وحريات الأفراد.

كان هيكل -رحمه الله- يرى كما غيره من الساسة والكتاب أن البلاد في حاجة إلى رئيس ينتمي إلى مؤسسة القوة حتى لا تختل معادلة الحكم كما حدث في عام الإخوان، فضلا عن أن أوضاع البلاد الأمنية تستدعي وجود رئيس بـ«خلفية عسكرية» تمكنه خبراته من استعادة الاستقرار وتجفيف منابع الإرهاب.

في حواره مع برنامج «صالون التحرير» الذي أذيع قبل أسابيع من فتح باب الترشح للرئاسة، أكد هيكل أن المرشح الرئاسي المحتمل عبد الفتاح السيسي تنتظره مهمة «شبه مستحيلة»، وهي وضع البلاد على طريق المستقبل وإيجاد حلول جذرية لثلاث مشكلات مصيرية تواجه مصر «مشكلة مياه مذهلة، ومشكلة طاقة مزمنة، وقضية نقص حاد في الغذاء»، واعتبر هيكل أن حل هذه المشكلات الثلاث يضع مصر على بداية طريقة المستقبل، «إذا لم نفعل فلن يتجاوز نشاطنا مجرد الكلام».

وبعد توالي الدعوات الشعبية المطالبة بترشيح الفريق السيسي في انتخابات الرئاسة المنتظرة، واحتراما لـ«رغبة الجماهير العريضة من الشعب المصري وباعتبار أن إرادة تلك الجماهير هي الأمر المطاع والواجب النفاذ» فوض المجلس الأعلى للقوات المسلحة بالإجماع وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الذي تم ترقيته إلى رتبة مشير، بالترشح في الانتخابات الرئاسية خلال اجتماع عقده في 27 يناير من عام 2014. وبذلك أصبح السيسي الذي حصل على دعم شعبي كبير مدعوما ومفوضا أيضا من المؤسسة العسكرية.

هيكل أشار في حواره المشار إليه إلى أن الرئيس المقبل -الذي نافس في شعبيته الرئيس الراحل جمال عبد الناصر-، مُطالب بأن يضع مصر على طريق المستقبل، «نريد رجلا قادرا على اتخاذ قرار المستقبل وحركة نحو المستقبل وعليه أن يدرك أن البلد كله لابد أن يكون حاضرا ولايغيب فيها طرف»، داعيا الرئيس المحتمل إلى تشكيل ما اسماه «مجلس أمناء الدولة والدستور» يشارك فيه كل رؤساء الأحزاب وممثلو القوى دون إقصاء لأحد حتى يعاونوه على إصلاح ما فسد ووضع البلاد على طريق المستقبل.

أعفى التفويض والشعبية الكاسحة المرشح الرئاسي (السيسي) من إعداد برنامج انتخابي واضح يُمكن المصريين من محاسبته ومساءلته في حال عدم تنفيذ ما طرحه فيه من بنود، فالانتخابات الرئاسية التي وصفت حينها بأنها «انتخابات خوف لا انتخابات أمل»، أجريت في ظل حالة قلق عام على تماسك واستقرار الوطن وذعر من المجهول، وعزز من تلك الحالة تصاعد العمليات الإرهابية التي انتشرت في طول البلاد وعرضها عقب خلع الإخوان من السلطة، وهو ما دفع الناس إلى خيار التمسك بالرجل القوي القادم من المؤسسة العسكرية القادرة دون غيرها في ذلك التوقيت على تحقيق الأمن وفرض الاستقرار وحماية الشعب من أي أخطار محتملة.

وفقا للنتائج التي أعلنتها اللجنة العليا للانتخابات حاز المرشح عبد الفتاح السيسي على ثقة نحو 96% من الناخبين الذين شاركوا في أول استحقاق رئاسي عقب عزل الرئيس الراحل محمد مرسي.

كان من الممكن أن يستند الرئيس الجديد على تلك الشعبية في وضع البلاد على طريق المستقبل.. طريق الدولة الجديدة التي خرج الملايين من أجلها في 2011 و2013 «دولة مدنية ديمقراطية حديثة تخاصم سوءات الماضي وتنطلق نحو المستقبل».

في يونيو 2014 وقع السيسي مع سلفه الرئيس المؤقت عدلي منصور على وثيقة لتسليم السلطة، تعهد فيها بـ«احترام ثورة 25 يناير وما حملته من طموحات وآمال وتطلعات، وثورة 30 يوينو المكملة التي صوبت المسار»، لكن وبعد شهور قليلة أثبتت التجربة أن الرئيس الجديد المفوض لا يقبل المراجعة أو النقد، وبدا من تصريحاته وتوجهاته أنه راغب في طي صفحة الثورة بما تحمله من طموحات وأحلام.

بعدها بشهرين، تحديدا في ديسمبر 2014 انتقد هيكل السيسي ودعاه إلى الثورة على نظامه، «المستقبل لا يمكن أن يُبنى على مصنع أو طريق أو قناة، لكن يجب أن يوضع هذا كله في سياق ورؤية، وضمن نظرة نقدية لكل شيء، حتى نستعيد روح الثورة، سواء في 25 يناير أو 30 يونيو»، مشيرا إلى أن الشعب المصري الذي ثار في سبيل التغيير، «لابد أن نُصغي لصوته، ولابد من الاستجابة لمطالبه».

وبعد أقل من عام على هذا التاريخ أيقن هيكل أن شعبية السيسي تراجعت بفعل غياب الرؤية وتبني سياسيات أضرت بالأغلبية العظمى من الشعب، وجه الأستاذ إلى الرئيس رسالة قال فيها «لا تستطيع أن تستعيد سلطة وشعبية جمال عبدالناصر بسياسات إسماعيل صدقى».

رسالة هيكل الأخيرة التي بعثها قبل أسابيع من وفاته، قصد بها أن سياسات السيسي وتوجهاته لا تختلف عن سياسات إسماعيل باشا صدقى، رئيس وزراء مصر الأسبق، الذى حكم البلاد بالحديد والنار، وانقلب على دستور 1923 وعطل البرلمان وانقض على خصومه وسيطر على الجهاز الإدارى للدولة ليضمن سيطرة حزبه على الحكومة والبرلمان، واعتدى على الصحافة وأصحاب الرأي، وهي سياسات لا تصنع شعبية ولا تؤسس لشرعية.

لم تصل رسالة هيكل إلى صاحبها، ومضى الرئيس في طريق «حكم الفرد» الذي تدور في فلكه كل مؤسسات الدولة، لا يُسمع إلا صوته ولا يتحدث المسئولون إيا كان موقعهم إلا بلسان حاله تصدر القرارات وتُرسم السياسات وتطرح المبادرات «برعايته وتنفيذا لتوجيهاته»، وبذلك انتكست أحلام 25 يناير و30 يونيو في تأسيس دولة المؤسسات التي تسمح بالتعددية والمشاركة وتداول السلطة.

كشف ما جرى في انتخابات الرئاسة 2018، أن أحلام يناير تلاشت تماما، فبعد أن قُطع الطريق أمام أي مرشح قد يمثل تهديدا للرئيس المرشح وضحت الرؤية وتأكد دخول مصر في نفق استبداد جديد لا يعلم أحد له نهاية.

خاض السيسي المعركة الرئاسية للمرة الثانية دون برنامج انتخابي معلن، أمام أحد مؤيديه، وكما حسم الأولى حسم الثانية تقريبا بنفس النسبة.

ورغم تعهده بعدم المساس بالدستور وتأكيده أنه ملتزم بفترتين رئاسيتين مدة الواحدة منهما 4 أعوام ومع عدم تغيير هذا النظام، وفق ما صرح به لشبكة «CNBC» الأمريكية نهاية عام 2017، «لدينا دستور جديد الآن، وأنا لست مع إجراء أى تعديل فى الدستور خلال هذه الفترة.. وسوف أحترم نص الدستور الذى يسمح للرؤساء بشغل مناصبهم لفترتين متتاليتين فقط، مدة الواحدة 4 سنوات»، مع ذلك تم تعديل الدستور في 2019 بما يسمح للرئيس بأن تستمر فترة ولايته الثانية حتى 2024، ويمكنه من خوض الانتخابات لفترة ثالثة تنتهي في 2030.

وإذا كان ما جرى في انتخابات 2018 قد كشف تلاشي أحلام ثورة يناير، فإن تعديل دستور 2014 المنجز الحقيقي الوحيد لثورة المصريين في 2011 و2013، دفن تلك الأحلام في مدافن الصدقة، ليعود المصريون مجددا إلى المربع صفر.

وكما تدهورت أمور السياسية إلى حد الموت، أصيبت أمور الاقتصاد بأزمة حادة أدت إلى ارتفاع معدلات التضخم وتضاعف أرقام الدين الخارجي والداخلي بشكل غير مسبوق، وساءت أحوال المواطنين نتيجة لزيادة أسعار معظم السلع والخدمات وصار سؤال «متى ستنتهي تلك المتوالية من سوء الإدارة التي دفعتنا إلى تلك الحافة؟» يتكرر بين مختلف الشرائح المجتمعية.

غياب برنامج انتخابي ممسوك للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الماضية والتي سبقتها وغياب المساءلة والرقابة على إداء السلطة التنفيذية سواء من البرلمان أو الإعلام أوصل البلاد إلى تلك الأزمة الطاحنة التي يصر أركان النظام على إنكارها.

استنادا إلى قاعدة «الضرورة» التي فرضتها الظروف الاستثنائية التي مرت بها البلاد بعد الإطاحة بحكم الإخوان ترشح السيسي بلا برنامج انتخابي، لكن وفق اعتراف السيسي نفسه فإن تلك الظروف زالت «الله نجا مصر من المسار الذي دخلت فيه دول أخرى بالمنطقة وتمكن الشعب المصري بفضل الله من تجاوز هذه الأوضاع التي سادتها الفوضى»، قال السيسي خلال حفل افطار الأسرة المصرية في شهر رمضان الماضي.

استنادا إلى هذا الاعتراف على الرئيس إذا قرر خوض المعركة الرئاسية المقبلة أن يعمل من الآن على صياغة برنامج انتخابي واضح يرصد فيه أزمات البلاد ومشاكلها، ويحدد من المسئول عن تفاقمها؟ ويطرح تصوراته لحلها وكيفية تدبير الميزانيات لتفعيل تلك الحلول.

لقد اقتربنا من نهاية الولاية الرئاسية الثانية التي جرى تمديدها لعامين وفقا للتعديلات الدستورية، ومن حق المصريين أن يقفوا على حقائق ما جرى، أين كنا وإلى ما وصلنا؟، وما هي عوائد المشروعات الكبرى التي تم الإنفاق عليها ببذخ خلال السنوات التسع الماضية، وكيف تضاعفت معدلات التضخم وانخفضت قيمة العملة وارتفعت أرقام الدين الخارجي بشكل غير مسبوق، وما هو حال حقوق الإنسان والحريات الإعلامية، وأخيرا ما هو السبيل للنجاة.

من حق المصريين أيضا قبل دوران معركة الرئاسة المقبلة بوقت كاف أن يتعرفوا على بدائل أخرى تقدم تصورات مختلفة وحلول من خارج الصندوق حتى يتمكنوا من المفاضلة واختيار الأصلح.