رغم بساطة وجبة إفطار المصريين، المكونة تقريبا من نفس المواد الغذائية (فول، خبز، زيت، وخضرة سلطة فجل وبصل) إلا أن أغلبها مستورد من الخارج. إذ لا يكفي الإنتاج المحلي منها الاستهلاك اليومي للملايين. ما يجعل غذاء الملايين تحت قسوة تقلب الأسعار العالمية وموجات التضخم الموسمية في الدول المصدرة.

الأمر يتكرر مع باقي وجبات الطعام، فاللحوم الحمراء والألبان سواء المستخدمة بشكل سائل أو المستخدمة في إنتاج الأجبان، وفول الصويا المكون الرئيسي للحوم نصف المصنعة، تأتي غالبيتها عن طريق الاستيراد. إذ لا تتجاوز نسبة المكون المحلي فيها 10%.

يثير حجم استيراد السلع الغذائية الأساسية في مصر تساؤلات حول الخريطة الزراعية، والبدائل الواجب توافرها لمواجهة إمكانية حدوث أزمة في الاستيراد مثلما حدث وقت جائحة كورونا وكسر سلاسل التوريد. أو ما يشهده العالم حاليا من موجة تضخمية بسبب الحرب “الروسية – الأوكرانية”.

اقرأ أيضا.. بعد ارتفاع التضخم في يوليو.. كيف يحدد “المركزي” أسعار الفائدة في اجتماعه المقبل؟

الفول.. استيراد ضخم

الفول

بحسب بيانات الغرف التجارية، تستهلك مصر من الفول سنويا حوالي 700 ألف طن، 580 ألف طن منها يتم استيراده من الخارج. بينما يبلغ المنتج المحلي منها نحو 135 ألف طن في المتوسط سنويا.

كميات الفول المستهلكة محليا، يتم معالجة الغالبية العظمى منها (400 ألف طن) بالجرش لصالح محال الفلافل، والباقي (300 ألف طن) يتم استهلاكه كما هو. سواء أخضر أو مدمس.

تزايدت عمليات استيراد الفول مع تغير أنماط الزراعة في مصر وسلوك المزارع. بجانب تفضيل المزارعين بيع المحصول أخضر بوزن أعلى عن انتظار جفافه وتحمل تكاليف الحصاد.

رغم انخفاض الإنتاج المحلي من الفول يذهب 75% منه للتصدير والباقي يتم طرحه في الأسواق للاستفادة من ارتفاع أسعار المنتج المحلي عن المستورد. فالفول الإنجليزي على سبيل المثال يباع بثلث سعر المحلي.

يقول عبد الهادي السيد، مزارع ستيني من الغربية، إن الجيل القديم من الفلاحين كان يعمل على تقسيم الأراضي حتى يلبي احتياجاته. بينما يضيف أن الأجيال الجديدة تفضل زراعة محصول واحد في ظل انخفاض عوائد الزراعة.

يضيف أن الفول والشعير والفلفل والخضروات الورقية والجزرية “اللفت والجزر” كان يتم زراعتها داخل محاصيل أساسية مثل البرسيم والذرة، وهو ما لم يعد يحدث حاليا.

الزيت

زيت طعام نباتي

رغم أهمية زيت الطعام، إلا أنه منتج مستورد بشكل كامل في مصر. إذ تستورد السوق المصرية 1.7 مليون طن من الزيوت النباتية، وفقا لبيانات رسمية صادرة عن وزارة الزراعة الأمريكية.

وعندما اندلعت الحرب “الروسية/الأوكرانية”، شهدت أسعار الزيوت في مصر، قفزة كبيرة ليبلغ طن زيت الصويا حاليًا، مستوى 35.5 ألف جنيه. بينما يبلغ زيت الذرة 45 ألف جنيه، وزيت النخيل 38 ألف جنيه.

كذلك يبلغ حجم الواردات المصرية من الزيوت المكررة نحو 1.4 مليار دولار بنهاية عام 2021، مقابل 851 مليون و150 ألف دولار عام 2020، بزيادة بلغت 512 مليون و286 ألف دولار. خاصة في ظل تنامي الاستهلاك وزيادة عدد سكان مصر.

بالإضافة إلى ذلك لا تتعدى نسبة الاكتفاء الذاتي من الزيوت النباتية من 10 إلى 13%، بسبب محدودية مساحة المحاصيل المنزرعة من المحاصيل الزيتية، والتي لا تتعدى 3% من إجمالي مساحة المحاصيل بمصر، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

يساهم زيت النخيل في كمية العجز الكلي للزيوت بنسبة كبيرة تتراوح بين 48% إلى 84% فرخص سعره جعله أساس المخبوزات والحلويات المغلفة، قبل أن يرتفع هو الآخر بسبب مشكلات لكبار منتجيه وفي مقدمتهم إندونيسيا.

الخبز والقمح

خبز بلدي

وصل اهتمام المصريين بالخبز والاعتماد عليه في الطعام، واعتباره أحيانا وجبة قائمة بذاتها إلى حد تسميته “عيش” أو المعادل اللغوي لـ”الحياة”. لكنه على مدار عقود مثل محصول القمح المصدر الرئيسي للعيش، السلعة الغذائية الأكثر استيرادا على الإطلاق.

تحتل مصر، المرتبة الأولى، بقائمة مستوردي القمح بالعالم، وقامت باستيراد نحو 12.9 مليون طن في 2020 للحكومة والقطاع الخاص بقيمة 3.2 مليار دولار، وفقاً لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وضعت وزارة الزراعة خطة لتحقيق هدف الاكتفاء الذاتي، من المستهدف رفع نسـب الاكتفاء من القمح من 45% عام 2020 إلى 65% بحلول عام 2025. بحسب بيانات وزارة الزراعة فإن المساحة المزروعة بالقمح الموسم الماضي شهدت زيادة أكثر بنحو نصف مليون فدان، مع خطة حكومية لزيادة الكمية المزروعة بنحو 1.5 مليون فدان خلال الثلاثة أعوام المقبلة.

بحسب باحثين فإن محصول القمح يتأثر كغيره من المحاصيل أو أي نشاط اقتصادي بمدى نجاح وسلامة السياسات الزراعية التي تنتهجها الدولة. فالمزارعين في ظل سياسة الإصلاح الاقتصادي التي انتهجتها الدولة بداية من موسم  1993/1994 أحرار في زراعة أرضهم واتخاذ قراراتهم الإنتاجية وفقا لحساباتهم في ضوء آليات العرض والطلب وتغير الأسعار بالأسواق.

خضوع محصول القمح لظروف التجارة الحرة باعتباره محصول استيرادي بالنسبة للدولة وعدم تحقيق ميزة نسبية في الإنتاج بدرجة تضمن تحقيق معدلات عالية من الاكتفاء الذاتي مرتبط أيضا بالتكاليف الإنتاجية للفدان بمصر. التي بلغت خلال الفترة من 2012 ـ 2016 نحو 5437 جنيها وهو أعلى من المعدل العالمي البلغ 5178 جنيها.

تناقص الرقعة الزراعية أحد العوامل التي تعرقل تنامي زراعة القمح في مصر فصافي العائد المالي من الفدان الواحد لا تتجاوز 3838 جنيها. وفي ظل تآكل الحيازات الزراعية، قد لا يصبح العائد على مزارع يملك نصف فدان من الجهد طوال موسم الزراعة والحصاد سوى 1650 جنيهًا كربح صافٍ.

الأرز من التصدير للاكتفاء إلى النقص

خلال الفترة من 2005 إلى 2016، شهدت المساحة المزروعة من الأرز اتجاها متناقصا بمعدل سنوي بلغ 27.82 ألف فدان. ذلك الانخفاض واكبه تناقص في الإنتاجية بنحو 124 ألف طن سنويا. لكن كمية الإنتاج المتاح للاستهلاك في تلك الفترة التي ناهزت 5 ملايين طن، سمحت بتحقيق الاكتفاء الذاتي ووجود كمية قابلة للتصدير تناهز نصف المليون طن.

تبلغ المسـاحة المزروعة من محصول الأرز في مصر نحو مليون و75 ألف فدان بإنتاجية تراوحت بين 7 و8 ملايين طن شعير “بقشرته الخارجية”. بينما تتراجع تلك الكميات إلى ما بين 4 و4.5 مليون طن أبيض “بدون قشر”، بحسب بيانات التعبئة العامة والإحصاء.

ويبلغ متوسط استهلاك الفرد سنويا من الأرز في مصر 43.14 كيلو جرام. ورغم تأكيد وزارة الزراعية تحقيق الاكتفاء الذاتي من المحصول لكنها تضطر للاستيراد قبل موسم الحصاد لضبط الأسواق مثلما حدث قبل موسم الحصاد في أغسطس/آب الماضي. حينما استوردت 25 ألف طن من الهند بينما استورد القطاع الخاص في الفترة ذاتها  10 آلاف طن.

الألبان واللحوم.. فجوة مزمنة

صناعة الألبان في مصر

يبلغ إنتاج مصر من الألبان نحو 7 ملايين طن سنويا، لكن يصل الاستهلاك لـ9.9 مليون طن، ويتم تعويض الفارق بينهما عن طريق الاستيراد من الخارج عبر اللبن البودرة الذي تحوله بعض المصانع إلى ألبان مجددا.

بلغت فاتورة استيراد مصر من الألبان ومنتجاتها 161.421 مليون دولار في شهري يناير وفبراير 2022 مقابل 110.68 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من 2021، بنسبة نمو 45.8%. وهو رقم ينذر بتنامي أرقام 2022 فالمتوسط السنوي يتراوح بين نصف ومليار دولار سنويا.

رغم الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك، يأتي نصيب المواطن المصري من استهلاك الألبان في مرتبة متدنية عالميا. إذ يقدر بحوالي 23 كيلو سنويا مقابل 100 كيلو جرام نصيب الفرد عالميا. ويرجع ذلك إلى أن الاستخدام المحلي للألبان موجه في المقام الأول لصناعة الجبن والزبادي.

أما بالنسبة للحوم الحمراء، توجد فجوة كبيرة بين الإنتاج المحلي والمستورد، فقيمة واردات مصر منها خلال الـ5 أشهر الأولى من العام الجاري بلغت نحو 863.951 مليون مقابل 541.517 مليون دولار في الفترة المقابلة من عام 2021. بزيادة قدرها 322.434 مليون دولار، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

وبحسب شعبة القصابين “الجزارين” بالغرفة التجارية في القاهرة، فإن مصر تستورد 50% من استهلاكها من اللحوم. كما تعتمد على شبكة واسعة من الموردين مثل أوكرانيا والبرازيل والسودان.

لكن وزارة الزراعة تؤكد وجود تحركات في ملف الألبان عن طريق إنشاء مراكز لتجميع الألبان، وإحلال السلالات المتميزة، والتلقيح الصناعي لتطوير أجيال من الماشية عالية الإنتاجية تدر من 15 إلى 40 لتر لبن حسب النوع مقابل 7 لترات في اليوم للماشية المحلية.

كما تشير  الوزارة إلى مجمع الإنتاج الحيواني والألبان بمدينة السادات في المنوفية الذي تم افتتاحه أخيرا  ‏على ‏مساحة ألف فدان، بإجمالي 5000 رأس حلوبة بطاقة ‏‏150 طن ‏لبن في اليوم. و3000 رأس تسمين بطاقة 1.5 طن لحم ‏حي بالدورة ‏الواحدة.

كيف نسد الفجوة؟

حصاد القمح في مصر

تؤكد الباحثتان منال الخشن ونيفين تودري، في دراسة عن الفجوة الزراعية في مصر، ضرورة تشجيع الدولة على  التوسع في زراعة المحاصيل الاستراتيجية. واستنباط أصناف عالية الإنتاجية. فخلال الفترة من عامي 2000 و2014 شهدت إنتاجية الفدان لمحاصيل الحبوب والبقول والزيوت والسكر قدرا من الثبات.

وتراهن الحكومة على الزراعة التعاقدية لكنها لن تؤتي ثمارها إلا بعد وضع سعر عادل للتوريد. فالمزارعون اشتكوا في توريد الأرز من وجود فجوة كبيرة بين السعر الذي تعرضه الحكومة للتوريد والسعر في القطاع الخاص تناهز 2000 جنيه.

تطالب الدراسة بوضع ضوابط على الاستيراد، وتحديد سعر مسبق ومحدد من قبل الحكومة لتشجيع المزراع علي زراعة محاصيل تعاني من فجوة. حيث إن الأسعار تعتبر أحد أهم العوامل التي تحدد مستقبل زراعة كل محصول. فكلما كان العائد الذي يحصل عليه المزارع يغطي تكلفته الإنتاجية من زراعته فإنـه يقبـل على زراعته وإذا لم يتحقق ذلك فأنه يحجم عنه.

يؤكد باحثون ضرورة تطوير الجراشات المصرية البلدية العتيقة التي تؤدي لتكسير الحبوب وزيادة نسبة الفاقد أثناء الجرش ما لا يشجع المـزارعين علـى تحمـل هـذه الخسائر. خاصة في ظل زيادة المساحة المزروعة من الفول والعدس إلى 200 ألف فدان.

يمثل الحد من الفاقد في الاستهلاك وأثناء عمليات الجمع والحصاد والنقل والتخزين أحد الوسائل الأساسية التي يجب الالتفات إليها في ملف السلع الأساسية في مصر. وهو أمر يتطلب عودة الإرشاد الزراعي مرة أخرى. بالإضافة إلى استخدام الميكنة الزراعية الحديثة في الحصاد، حيث تساهم بشكل كبير في تقليل الفاقد من الحصاد.

وبحسب الإحصائيات الرسمية، وصل متوسط الفاقد من القمح في مراحل إنتاجه وتسويقه وتصنيعه واستهلاكه خلال الفترة من 2001 وحتى 2011 إلى 4.02 مليون طن تمثل 52.4% من متوسط الإنتاج المحلي. وحوالي 43.8% من متوسط الاستهلاك الفعلي للفترة ذاتها وفق بيانات منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو).

كما تتسبب الممارسات الخاطئة للمزارعين في زيادة الفاقد من القمح. فالحصاد يجب أن يتم بعد غروب الشمس أو قبل الشروق لعدم تساقط وفقد الحبوب أثناء الضم، والتأخير في عملية الحصاد عن الموعد المناسب، لكي لا تزيد نسبة جفاف النباتات وتصبح هشة أو سهلة الكسر ما يؤدي لفقدان الحبوب من السنابل أكثر.

تحتل مصر المرتبة الأولى عالميا في تصدير الموالح والفراولة المجمدة، والثالثة عالميا في تصدير البصل المجفف. كما أنها الأولى على مستوى العالم في إنتاج زيتون المائدة وهي الأولى عالميا في إنتاج التمور. كما لديها اكتفاء ذاتي من الخضر والفاكهة بنسبة 100%. لكن الأمر يتطلب بحسب باحثين التخلي عن الاكتفاء الذاتي منها بهدف تحقيق اكتفاء ذاتي في محاصيل أهم.

محدودية التحرك

حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، يؤكد أن سد الفجوة الغذائية من جميع المحاصيل الرئيسية أمر مستحيل في مصر في ظل محدودية الرقعة الزراعية والمياه. فمساحات التحرك ليست واسعة مثل القمح الذي يتم زراعة 3.5 مليون فدان منه يمكن زيادتها إلى 4 ملايين فدان. وترك 6 ملايين فدان الأخرى للفاكهة والخضروات والمحاصيل العلفية وفي مقدمتها البرسيم.

يضيف “أبو صدام” أن استغلال الأراضي في مصر يتم بشكل مثالي إذ يتم زراعتها بثلاثة عروات أساسية “صيفية وشتوية ونيلية”. بجانب الزراعات المزدوجة بزراعة محصولين معا في مكان واحد، وبالتالي الحل في الزراعة الرأسية بزيادة استنباط السلالات الإنتاجية المرتفعة. فعلى سبيل المثال توجد بعض سلالات القمح التي تصل بالإنتاجية إلى 32 إردب بينما كانت في الماضي لا تتجاوز 18 إردبا.

يشير نقيب الفلاحين إلى أن مصر تحتاج خريطة زراعية كاملة لتحديد المحاصيل وتحديد بعض المساحات التي يمكن التخلي عنها من أجل زيادة المحاصيل الأساسية إذ يتم استيراد 40% من اللحوم و50% من القمح و80% من الزيوت وهي محاصيل مهمة ظهرت تداعيات الاعتماد في استيرادها من الخارج خلال الحرب الروسية الأوكرانية، بجانب استبدال محاصيل بأخرى  وفقا لنوعية المياه كالاستعاضة عن المحاصيل العلفية التي تعتمد على المياه العذبة بأخرى تتحمل الملوحة.