النظم السياسية المختلفة لا تستبعد السياسة ولا تلغيها. إنما تضع لها قواعد تنظمها. صحيح أن هذه القواعد تختلف من نظام لآخر ومن سياق سياسي إلى ثانٍ، لكنها تظل موجودة وحاضرة.

ويمكن القول إن العالم في الوقت الحالي يعرف ثلاثة أنماط من النظم السياسية:

الأولى هي النظم الديمقراطية التي تكتفي بوضع قواعد تنظم العملية السياسية. ويكون سقفها القانون والدستور. وتستبعد القوى التي تحرّض على العنف والكراهية. أما القوى المتطرفة في الفكر والسياسة -سواء كانت من أقصى اليمين أو اليسار- فإن القواعد والمؤسسات الديمقراطية “تهذّب” تطرفها وتعتبر اعتدالها النسبي شرطا لقبولها داخل منظومة الحكم والإدارة. وتضمن تغييرها عبر الانتخابات الحرة كما جرى مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

أما النظم الثانية فهي النظم الشمولية أو نظم الحزب الواحد. وأبرز نماذج النجاح فيها هي الصين وكوبا. وهنا لا تلغى أيضا السياسة إنما تلغى المعارضة. فالصين يحكمها الحزب الشيوعي الذي تأسس منذ أكثر من قرن ويعقد حاليا مؤتمره العشرين. ونجح عبر رحلة نضال وعمل سياسي طويلة في جذب الغالبية العظمى من الراغبين في العمل السياسي داخل مؤسساته. وهناك كوبا التي قدمت نموذجا نجح في التعليم والصحة ومحاربة الفقر وتعثر في تحقيق الرخاء لغالبية الناس.

إن مَن يتابع مشاهد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني والنقاشات التي يشارك فيها 2296 مندوبا حول مختلف القضايا الداخلية مثل استراتيجيات الرئيس في محاربة الفساد وما سماه “إسقاط النمور والذباب” -يقصد كبار القادة وصغار الموظفين الفاسدين- والقضايا الخارجية مثل الموقف من الحرب في أوكرانيا والعلاقة مع أمريكا وقضية تايوان، سيكتشف أننا أمام مصنع حقيقي للسياسة والرؤى والأفكار داخل الحزب. مصنع مقيد بقواعد مسبقة وبخطوط حمراء لا يسمح بتجاوزها.

أما النظم الثالثة فهي نظم التعددية المقيدة مثل تركيا والمغرب وإيران وتونس “ومصر في عهد مبارك”. وهي كلها نظم مختلفة جذريا في قواعدها الدستورية والقانونية. ومع ذلك فهناك “مساحات آمنة” للعمل السياسي. سواء كانت في المحليات أو في حركة الأحزاب والقوى السياسية وفي النقاش العام حول قضايا مختلفة. وخاصة في مجالات السياسات العامة من صحة وتعليم وخدمات.

وفي تركيا وارد تداول السلطة رغم القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير. وفي إيران وارد التداول أيضا ولكن على أرضية النظام الديني ونظام ولاية الفقيه من خلال ثنائية الإصلاحيين والمحافظين. وفي المغرب يحدث تداول حكومي بين الأحزاب داخل إطار النظام الملكي الذي يعتبر خطا أحمر.

أما في مصر فلم يكن مطروحا تداول السلطة طوال عهد مبارك. إنما السماح بمساحات آمنة للعمل السياسي والحزبي أسفرت عن وجود تمثيل معتبر للقوى السياسية في المجال العام والبرلمان. وحين اختفت هذه المساحة في انتخابات 2010 المزوّرة حدثت ثورة يناير.

والحقيقة أن تاريخ استقرار النظم السياسية منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن كان متوقفا على المساحات الآمنة التي تعطيها للناس.

ولم يحدث في تاريخ النظم السياسية أنْ غاب الوسيط السياسي أيا كان شكله. أو الوسيط الأهلي من نقابات وروابط شعبية ومجتمع مدني. وفي حال إضعاف هذه الوسائط يصبح هناك خطر كبير أن تقفز في وجوه الجميع نتائج “تفاعلات غير مرئية” تجري في بطن المجتمع وقد تأخذ شكل احتجاجات اجتماعية أو سياسية خارج كل التوقعات والحسابات.

“المساحات الآمنة” في العمل السياسي تخرج “عبر المرئي” إلى “المرئي” وتصبح همسات البعض -أو غضب البعض الآخر- لها مسار علني وآمن للتعبير عنه.

والحقيقة إن جانبا من أزمة مصر الحالية هي أنها اعتبرت معظم القضايا أمن قومي. ولم تميز بين السرية المطلوبة مثلا للعمليات العسكرية لمحاربة الإرهاب في سيناء وغيرها وبين اعتبار المشاريع القومية سرا حربيا خوفا من “أهل الشر”. أو اعتبار نقد إهدار المال العام في إنشاءات ومبانٍ ضخمة غير منتجة خيانة للمصالح الوطنية. واعتبار العلم ودراسات الجدوى إهدارا للوقت وللإنجاز.

الأزمة الحالية ترجع في جانب منها إلى المسطرة التي حكمت حركة البلاد عقب التهديدات الوجودية التي تعرض لها الشعب المصري في 2013. ودفعت الكثيرين إلى تبرير إغلاق المجال العام والمساحات الآمنة للتعبير عن الرأي، واستمرت حتى اللحظة فغابت المحليات، وغيبت المشاركة الشعبية في أي خطة لتطوير الأحياء. وحوصرت الأحزاب في مقراتها واكتفت بإصدار بعض البيانات. كما غاب أي دور يذكر للنقابات المهنية أو العمالية.

ويكفي مقارنة أداء الاتحاد العام لنقابات عمال مصر وبين الاتحاد التونسي للشغل لنكتشف الفارق الكبير في الأداء والدور النقابي. رغم أن الأخير يعيش في ظل تجربة ديمقراطية مقيدة.

لا يمكن أن تختصر المساحات الآمنة للنقاش في بلد مليء بالمشكلات مثل مصر في خناقات رئيس نادي الزمالك أو في رأيهم في رضاعة الأم بمقابل. أو الكلام “الأهبل” لبعض الممثلات عن الرجل والمرأة والحياة الزوجية. أو في التعليق على كلام من يدّعون أن في يدهم مفاتيح الجنة فيدخلون “س” ويُخرجون “ص”.

إن تجارب الشعوب تقول إن إلغاء السياسة وغياب كل الوسائط “الآمنة” من أحزاب ونقابات ومجتمع أهلي يهدد الاستقرار ويجعل كثيرا من التفاعلات الكامنة في قلب المجتمع مرشحة إلى أن تقفز فجأة في وجوهنا من حيث لا ندري. عندها لن تفيد “اشتغالات” الرأي العام في إبعاد الناس عن قضاياهم ومشكلاتهم الحقيقية في التعليم والصحة والتصنيع وتطوير الزراعة والعدالة الاجتماعية وأولويات التنمية وخطط تطوير الأحياء وغيرها.

المساحات الآمنة للعمل السياسي والنقابي خطوة كبرى على طريق الإصلاح. و”العتمة” التي تجعل كثيرين لا يعرفون حدود المساحات الآمنة والشرعية لتحركاتهم السياسية والنقابية، دفعتهم إلى الصمت والانسحاب خوفا من العواقب الأمنية، وللأسف فإن هذا الوضع الذي اعتبره البعض انتصارا لأنه جلب استقرارا زائفا سيقوّي حضور مَن يتحركون في الخفاء أو الذين لا يفرق معهم دستور ولا قانون وهذا خطر كبير.