فنان موهوب يأكل نفسه، هو أيضا فنان. فالأصل هو أن يغذيه صراع ومأساة، وأن تتغذى تلك المأساة عليه، لكن نعلم أيضا إلى أين يمكن أن يذهب ذلك الفنان إذا ما تمكن من تحويل صراعه إلى طاقة لفنه، إخفاء صدعه المسحور الذي يستلهم منه ذلك الفن عن الجمهور والسيطرة على ذلك التنين الجائع الذي يلتهمه من الداخل. يتمكن حتى الأقل موهبة إذا ما نجح في هذا إلى مراكمة الإنجاز والخلود.
اقرأ أيضا.. الفاجومي المنتظر
لكن في حالة شيرين ثمة استثناء، كأن المأساة العلنية هي ما تنقصها فعلا لتمنح صورتها عمقا لم نعرفه عن أغلب الفنانين المصريين، عمقا إنسانيا بجعل ذلك الشق المجنون مرئيا، أن نجد في عذابها الشخصي حكاية تشبهنا، ويبدو أن ما يدفعها إلى تلك الحافة التي تذهب إليها كل مرة كأنها لا تنوي العودة، هو البحث عن الحب، وفي كل مرة نأمل أن تكون ثمة عودة، ألا تكون تلك هي قفزتها الأخيرة إلى الهاوية.
ربما كنا نطمح أكثر أن تكون هوتها التي تُحفر داخلها بعمق، وسواسها في البحث عن الحب، قد تحول إلى فنها، واكتفت بأن تجد الحب عند جمهورها. ففي النهاية لن ينقذ تلك الموهبة العريضة سوى ذلك الحب بالقدر نفسه الذي لن ينقذ ذلك الحب سوى موهبتها العريضة، النادرة، التي تجعلها أكبر من مطربة، بل الصوت الأهم منذ عقود، الأكثر حساسية، الذي يحمل شقاء وبهجة الشوارع والحارات، قوة المرأة وضعفها، قدرتها على المواجهة وخشيتها منه، استقلالها كامرأة ورغبتها أن تترك عبئها آمنة في معية رجل تحبه، تفعل ذلك بسلاسة استثنائية، كأنها تحمل في حنجرتها مسرحا متنقلا للمشاعر.
لكن من نحن لنحكم على حياة شخص آخر، كلنا نعلم أن البقاء في اتزان، دون أن تجتذبنا الهاوية هو أمر غير حتمي، حتى أن النجاة في نهاية مشوارنا يبدو من قبيل المصادفة، مهما اتخذنا من احتياطات أو مهما توفرت لنا شروط حياة أسهل.
لكن يبدو أننا نجد في حياة الفنان شيئا سهل النهش، روحا عاريا مستباحة، ينسينا نجاحه فشلنا وحدود حياتنا التي لم تدفع إلى أقصاها، ندفن داخل ذلك النجاح خطايانا وإرادتنا الرخوة، كسلنا، لكن عند أول تعثر له، لا نجد ما نخبئ فيه فشلنا، فننهشه بقسوة، نلومه بعنف، لكن تلك المرة ليس لأن في سقوطه سقوطاً لنا، بل لأنه لم يعد يهبنا ما نخبئ أنفسنا تحته، وفي كل مرة ننسى أنه قبل أن يكون فنانا، نجما، هو أيضا إنسان، أن قوته قناع، خلفه الهشاشة، ما لا نرغب في الاعتراف به أنه يشبهنا أكثر من أنفسنا حقا، لذا تمكن ذات يوم من التعبير عنا.
كل ما نتذكره حين يتعثر الفنان، هو حرمانية الفن، احتقارنا الدفين له وللفنانين، أن المهرج لم يقدم فقرته كما يجب، لم يسلينا إلى النهاية، لم يفرض علينا احترامه عبر خط نجاح لا ينقطع، وبدلا من أن نجد متعتنا في تأمل فنه، يختزل عندنا إلى أسرار غرفة النوم.
في مجتمع ألهمته كتب التنمية البشرية المخلوطة بالتدين الزائف آمال الطموح دون القدرة، لا دين سوى الإنجاز، إنجاز الروبوت والآلة، في مجتمع تروسه متعثرة لا غفران للتعثر.
ولأنها أيضا امرأة لن يغفر لها تعاطيها للمخدرات إن ثبت، رغم أن فنانين رجال معروفين على مدار تاريخ الأغنية العربية وبعضهم معاصرين عرفوا بتعاطي الخمور والمخدرات، بل وقد يحيون حفلاتهم تحت تأثيرها. لكن مجتمعاً منافقاً يكيل بمكيالين لن يتغاضى عن أن تفعلها امرأة هذا إن صح ما قاله شقيقها.
لا يهم الآن إذا كان طليقها أو عائلتها هما المسؤولين، كل ما يهم هو أن تجبر شيرين كسرها، أن تنتصر قوة موهبتها على ضعفها الشخصي وعلى قطيع المنتفعين بها من أجلها أولا، وأن ينتصر حب الجمهور على أحقاده الصغيرة التافهة وكيله بمكيالين من أجله أولا.
وإن كنا نأمل في غفران التعثر للجميع وفي مجتمع أكثر تسامحا مع المرأة والرجل، إلى أننا دائما علينا أن نتذكر أن الفنان الحقيقي هو شخص استثنائي تكراره ليس سهلا، وخسارته ليست بسيطة.
شيرين عبد الوهاب.. كوني بخير.