كانت الدهشة، ربما بعض السخرية أيضا، هي أول ما شعرت به حين سمعت اقتراح زيارة أحد المتاحف التابع لطائفة الأميش الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية، سر اندهاشي هو معرفتي بأن طائفة الأميش، وهي طائفة مسيحية نشأت بانشقاق ديني حدث في سويسرا في العصور الوسطى (لكن معظم أتباعها الآن يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية، وأقلية منهم في كندا) هي طائفة لا يختلف كثيرا حاضرها عن ماضيها، فما الداعي لزيارة أحد متاحفها إذا كانت الطائفة نفسها تعيش اليوم كما كانت تعيش بالأمس، ويكفي لزيارة إحدى قراها اليوم أن تغنينا عن ما يعرضه أحد متاحفها، على كل حال، كانت زيارة المتحف، الكائن في قرية كالونا الأميشية بولاية آيوا، إحدى جولات المشاركين في البرنامج الدولي للكتابة الذي أشارك فيه باستضافة من جامعة آيوا الأمريكية، كان هناك تصويتا بين المشاركين بين عدة زيارات واختارت الغالبية زيارة قرية الطائفة الأميشية، أرادوا رؤية هذه الطائفة التي تعيش خارج الزمن ولا تؤمن بالتطور أو التكنولوجيا الحديثة (وهنا بدأت أشعر بأولى أحاسيس الديجا فو “ظاهرة الإحساس بأنك رأيت هذا الشيء من قبل رغم تأكدك من أنها زيارتك الأولى” وشعرت بأن هذا الحديث عن العيش خارج الزمن ورفض التطور ليس غريبا عني، وإنه إن كان غامضا أو مثيرا بالنسبة لزملائي في البرنامج فإنه معهود للغاية بالنسبة لي).

أسرة من الأميش

اقرأ أيضا.. ولكن هل يريدون أن يعرفوا عن السينما المصرية؟ (رسالة آيوا)

كان المتحف “الأميشي” مميزا رغم ذلك، مع تاريخ قصير بمعاييرنا المصرية، يعود في أقدم الأحوال إلى 150 عاما، كان يمكن أن تدخل إلى بيوت – بعضها سكنه السكان الأصليون- فتجدها بنفس حالتها كما عاش فيها سكانها، بأدواتها البدائية – بمعايير اليوم- بالأسرّة والأثاث، بالأكواب والستائر ولعب الأطفال، هناك دائما زر مسجل عليه رسالة صوتية، تحل محل مرشد المتحف، تنقل لك أصواتا من الماضي، أحد الأزرار ينقل تسجيلا لصوت قطار كان يمر هناك منذ أكثر من مئة عام.

خارج المتحف كان الهدوء والأشجار، متاجر متعددة يعمل فيها “أميشيون” بثيابهم التقليدية، بأثوابهم الطويلة السوداء أو البيضاء وقبعاتهم المميزة، يعرضون منتجاتهم من المخبوزات والصابون المصنوع بالطرق التقليدية، خارج المتاجر البيوت غير ملونة، يغلب عليها اللونان الأبيض والرمادي، الكهرباء غير مسموح بها، الخطوط الهاتفية – محمولة أو أرضية – غير متاحة، وفّرت الحكومة كبائن هاتف في الخارج للاستخدامات الطارئة، التصوير ممنوع، السيارات نادرة وإن وجدت يمكن للبعض –المتحررين منهم– أن يركبها لكن لا يقودها، عربات الخيول على النمط القديم لا تزال مستخدمة.

معروضات الأميش في المتحف المخصص لهم

بينما زاد عدد سكان الولايات المتحدة بنسبة حوالي 20% خلال آخر ثلاثين عاما، فقد زاد الأميشيون –وتعدادهم حاليا ربع مليون– بنسبة تزيد عن 100% لأنهم ينجبون الكثير من الأطفال، بمتوسط ستة أو سبعة أطفال في الأسرة الواحدة، بسبب تطور الرعاية الصحية العامة لم يعودوا يفقدون –كما في الماضي– الكثير من أطفالهم، اللغات الشائعة في المناطق الأميشية هي الألمانية البنسلفانية، لغة/ لهجة أمريكية مشتقة من الألمانية حيث جاؤوا قبل مئتي عام. لكنهم –أو البالغين منهم– يتحدثون الإنجليزية مع “الغرباء”، ويطلقون على هؤلاء الغرباء اسم “الإنجليز”! يحافظون بصفة عامة على انعزالهم عن الآخرين، يتوقف الأطفال عن الدراسة في المدارس العامة بعد الصف الثامن، ويتابعون دراستهم في المدارس الخاصة للطائفة. لا ينضمون للجيش، لا يستخدمون أنظمة التأمين لإيمانهم بالقضاء والقدر. يعتقدون أن عيشهم كما تقضي كلمة الله يقتضي الابتعاد قدر الإمكان عن كل ما ينتمي إلى الحداثة، يمارسون الحرمان الكنسي ويفرضون العزلة الاجتماعي على كل من يخالف هذه الحياة من أبنائهم حتى “يتوب”.

داخل متحف الأميش

ربما إذا أخذنا النسبة الغالبة من المواطينين العرب في الاعتبار، فسوف يبدون – في العموم- أقل تشددا من الأميش الأمريكيين، خصوصا من ناحية استخدام التكنولوجيا والانخراط في الحياة الحديثة، إذا كانت كلمة “الحديثة” هنا تعني “استخدام” أدوات العصر، كالحاسوب والكهرباء والهواتف النقالة.. إلخ. لكن ماذا لو نظرنا إلى ما وراء الاستخدام، إلى العقلية التي تتقبل التطور – ولا أقول حتى تشارك فيه؟ العقلية التي ترى بقية العالم – بل كل من يفكرون باختلاف- كغرباء ينبغي إما الانعزال عنهم أو عزلهم، وعقابهم حتى “يتوبوا”. إن الأميش لا ينتجون التكنولوجيا لأنهم لا يؤمنون بها، لكن ماذا عن من يستخدمون التكنولوجيا من غير القدرة على إنتاجها، بل وبرفض تام لكل الأفكار التي أدت – في النهاية – لإنتاج التكنولوجيا وتطور العلوم وتشكيل الحياة الحديثة؟ بعد زيارة القرية الأميشية بأيام قرأت عن التحقيق مع الشاعرة أمينة عبد الله بتهمة ازدراء الأديان بسبب من واحدة من قصائدها.

ولا يزال ذلك يعني أننا ننتمي إلى العصور الوسطى –حيث كانت تجري مثل تلك المحاكمات- حتى لو كنا نعيش زمنيا في القرن الواحد والعشرين، ولا شك أن التحقيق مع أمينة – ومن قبلها ومن سيكونون -للأسف– بعدها، مجرد علامة واحدة على عيشنا القروسطي (من القرون الوسطى)، من بين علامات لا يحصى، حتى بمجرد مشاركتي هنا في البرنامج الدولي للكتابة، ومعايشتي للزملاء من دول أخرى يستخدمون أدواتهم الحديثة –أو العادية- من منتجات بلدانهم الآسيوية والأوروبية والأمريكية، يجلب المشارك معه هاتفه أو حاسوبه كما تجلب أنت معك بعض الفول المدمس أو شاي العروسة، فتشعر –بدون كثير كلام- أنك تنتمي لا تزال إلى العصر الزراعي بينما يعيش من حولك في العصر الصناعي وما بعده. وهذا ما يساوي بالضبط أن تكون “أميشيا” في القرن الحادي والعشرين.