“دعم خفض التصعيد والتكامل في الشرق الأوسط”.. بهذا العنوان تحدثت استراتيجية بايدن للأمن القومي الصادرة الأربعاء 12 أكتوبر/تشرين أول الجاري عن المنطقة، في حين خصصت الجزء الخاص بإفريقيا تحت عنوان: “بناء شراكات بين الولايات المتحدة وإفريقيا في القرن الحادي والعشرين”. العنوانان يعكسان المفارقة في النظر إلى المنطقتين. الشرق الأوسط مصدر الشرور التي تستدعي خفض التصعيد، ودعم التكامل بين الدول فيه لتقليل هذه الشرور قدر الإمكان، أما إفريقيا فهي الأمل والمستقبل والشراكة الممتدة علة مدار القرن كله.

التعهدات تجاه المنطقة غامضة، والمصالح الاستراتيجية التي يجب ضمانها والحفاظ عليها محدودة، والالتزامات قليلة. الاستراتيجية تعرف ما لا تريد، ولكنها فضفاضة وغامضة تجاه ما تريد وما تلتزم به لشركائها.

اقرأ أيضا.. من أبواب الخروج للدولة المصرية.. كيف يجري استعادة السياسة في مصر بعد انتزاعها؟

تعهدات غامضة

بالنسبة لإيران، تشدد الاستراتيجية على العمل مع الحلفاء “لردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار والتصدي لها” وتذكر أن الدبلوماسية هي الوسيلة المفضلة لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية، مع التأكيد على أن الولايات المتحدة “مستعدة لاستخدام وسائل أخرى [غير محددة] حال فشل الدبلوماسية”، كما أن وعود الاستراتيجية بـ”الوقوف إلى جانب الشعب الإيراني الذي يناضل من أجل الحقوق الأساسية والكرامة” غامضة بالمثل.

والالتزام تجاه حل الدولتين للقضية الفلسطينية غير واضح المعالم، فمع السعي لـ”توسيع وتعميق علاقات إسرائيل المتنامية مع جيرانها والدول العربية الأخرى، من خلال اتفاقيات إبراهيم”، “سنستمر أيضًا في الترويج لحل الدولتين”.. مجرد ترويج بلا أية التزامات محددة ولا حتى التعامل مع قضية المستوطنات التي تقضي على هذا الحل تماما، والأهم أنها صدقت على كل إجراءات إدارة ترامب من نقل السفارة للقدس وضم للجولان والسكوت على انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي المستمرة والمتصاعدة.

أظهر الجزء الإسرائيلي من الاستراتيجية أن الولايات المتحدة لن تراجع إرث الإدارة السابقة، التي أعلنت رسميا أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية لا تتعارض مع القانون الدولي، واعترفت بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل.

تمتد التعهدات الغامضة لتوفير مظلة أمنية لشركائها في المنطقة، فالاستراتيجية تدرك الميزة النسبية للولايات المتحدة التي لا مثيل لها وهي “في بناء الشراكات والائتلافات والتحالفات لتعزيز الردع، مع استخدام الدبلوماسية لتهدئة التوترات وتقليل مخاطر نشوب صراعات جديدة”، وهذا يستند بشكل أساسي للدبلوماسية وليس القوة العسكرية “حتى عندما تعمل الولايات المتحدة على ردع التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الإقليمي، فإننا سنعمل على تقليل التوترات، وخفض التصعيد، وإنهاء النزاعات حيثما أمكن ذلك من خلال الدبلوماسية.”

وبرغم تخصيص الاستراتيجية أحد أطرها الخمسة لحقوق الإنسان “ستعمل الولايات المتحدة دائمًا على تعزيز حقوق الإنسان والقيم المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة”، إلا أنها لا توضح كيف سيجري تعزيزها بخلاف النص على مواصلة “دعم شركائنا الديمقراطيين والمطالبة بالمساءلة عن انتهاكات حقوق الإنسان”.
تأطير العلاقة مع المنطقة بعيدا عن المسألة الديموقراطية برغم استمرار سياسة المواجهة مع روسيا والصين، التي تم تأطيرها أيديولوجيًا من قبل بايدن على أنها سياسة ديمقراطية مقابل أوتوقراطية. على ما يبدو أن هذا الغياب أخذ في الاعتبار جميع التجارب المؤلمة للولايات المتحدة في المنطقة، خاصة بعد الفشل الذريع في العراق وأفغانستان.

المصالح المعتبرة

رئيس الوزراء الإسرائيلي لابيد، والرئيس الأمريكي بايدن

المصالح الواضحة للولايات المتحدة في المنطقة لم تعد ضمان تدفق النفط، وإنما الاستقرار في أسواق الطاقة بما لا يؤثر على المستهلكين داخلها “سنشجع منتجي الطاقة على استخدام مواردهم لتحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية” ولـ”حماية المستهلكين الأمريكيين”.

التدفق الحر للتجارة الدولية -وهو مصلحة معتبرة أخرى- يقتضي حماية والدفاع عن المضايق في المنطقة “لن تسمح الولايات المتحدة للقوى الأجنبية أو الإقليمية بتعريض حرية الملاحة عبر الممرات المائية في الشرق الأوسط للخطر، بما في ذلك مضيق هرمز وباب المندب”.

ملمح آخر في المصالح المعتبرة يتعلق بالاستقرار حيث “ردع التهديدات التي يتعرض لها الاستقرار الإقليمي”، ويأتي في مقدمته “ردع ومواجهة أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار”، ولكنه لا يتحقق بالتدخل العسكري، وإنما ببناء نظم للأمن الإقليمي تضطلع بالدور الرائد فيه شركاؤها من دول المنطقة.

منطلق السياسة الأمريكية الأول هو “تعزيز الشراكات مع الدول التي تشترك في النظام الدولي القائم على القواعد”، ومن ثم فلن “تتسامح مع جهود أي دولة للسيطرة على أخرى -أو المنطقة- من خلال التعزيزات العسكرية”، وستستخدم الدبلوماسية لـ”تقليل التوترات، وخفض التصعيد، وإنهاء النزاعات”. مع التأكيد على عدم استخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة وفرض الديموقراطية -كما جرى في أفغانستان 2001 والعراق 2003.

أما ضمان أمن إسرائيل فهو سياسة ثابتة للولايات المتحدة لم تتطلب الاستفاضة في التأكيد عليها، إذ اكتفت بالنص عليها في فقرة سريعة مع التأكيد على يهودية الدولة.
بناء نظم للأمن الإقليمي.

الاستراتيجية التي اتبعتها الولايات المتحدة لتقليل التزاماتها وتعهداتها تجاه المنطقة هو دفع شركائها في المنطقة للقيام بالدور الأساسي في الأمن الإقليمي من خلال:

1- تعزيز التكامل الإقليمي، ويجري ذلك ببناء روابط سياسية واقتصادية وأمنية بين شركاء الولايات المتحدة وفيما بينهم، بما في ذلك من خلال هياكل دفاع جوي وبحري متكاملة، مع احترام سيادة كل دولة وخياراتها المستقلة”.

2-وبناء الشراكات والائتلافات والتحالفات لتعزيز الردع تجاه مزعزعي الاستقرار وفي مقدمتهم إيران بحلفائها والإرهاب.

3- واستخدام الدبلوماسية لتهدئة التوترات وتقليل مخاطر نشوب صراعات جديدة.

هذا الإطار الجديد يعتمد على التقدم الأخير الذي حققته دول المنطقة في معالجة الانقسامات المستمرة، لذا فقد رحبت الاستراتيجية بالتقارب المصري مع كل من تركيا وقطر، كما رحبت بالتقارب السعودي التركي.

بناء نظم للأمن الإقليمي لا يقتصر على الدول فقط، وإنما يمتد للشركاء المحليين دون الدول أيضا. شددت الاستراتيجية في سوريا على العمل مع الشركاء المحليين ومن خلالهم، مما حصر مشاركة الولايات المتحدة في سوريا في مناطق الشمال الشرقي الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، دون الإشارة إلى الالتزام بحل الصراع. إنه تذكير بتضاؤل أهمية سوريا في أولويات الأمن القومي للولايات المتحدة التي تقتصر فقط على محاربة “داعش”.

تبدو استراتيجية بايدن في الشرق الأوسط لما بعد بوش وما بعد أوباما وما بعد ترامب وكأنها رغبة في إيجاد حل وسط بين طرفين: الانخراط المفرط في مشاكل المنطقة مقترنًا بالتدخل العسكري وبين الانعطاف الكامل نحو المحيطين الهندي والهادئ. تخلق الاستراتيجية تفاهمًا على أن الولايات المتحدة لا تستطيع تغيير الشرق الأوسط، ولا يمكنها الانسحاب منه. في الوقت نفسه، يظل التركيز على مواجهة روسيا والصين، اللتين تحاولان أن تستغلا الفراغ في المنطقة.

والمرتكز الأساسي في هذه الاستراتيجية هو تعبئة الشركاء العرب التقليديين لتحقيق أهداف الولايات المتحدة، ولكن هل هؤلاء الشركاء على استعداد لفعل ذلك بلا مقابل أم يجب أن يتصرفوا لتحقيق مصالحهم المباشرة أولا كما فعلت السعودية في اجتماع أوبك بلس الأخير؟ أم يكون الحد الأدنى الذي يجب أن تكون الولايات المتحدة قادرة على توقعه من شركائها هو أنهم لن يتصرفوا بطرق معادية لمصالحها الأساسية في مواجهة روسيا والصين؟ كما يرى دانيال شاييرو، وهو سفير أمريكي سابق بإسرائيل.