كتب- محمود السقا:
يعاني عدد كبير من المخلى سبيلهم من السياسيين والمتهمين في قضايا الرأي والاشتغال بالعمل العام، مما يمكن تسميته بـ”معاناة ما بعد السجن” إذ إنه رغم خروجهم من الحبس الاحتياطي، إلا أن عددا قليلا منهم فقط استطاع العودة إلى عمله مجددا أو حياته الطبيعية قبل الحبس. بينما تعاني الغالبية العظمى وضعا ماديا صعبا، خاصة بعد سنوات الحبس الطويلة، التي استنزفتهم وأسرهم بشكل كبير. بالإضافة إلى أن خروجهم الآن في ظل الأزمة الاقتصادية والغلاء غير المسبوق، يشكل عبئا إضافيا عليهم.
ألقي القبض على الدكتور محمد محيي الدين، في 22 فبراير/ شباط 2019 من داخل منزله في الإسكندرية، ولم يستدل على مكان احتجازه. بعدها بيومين ظهر مجددا في نيابة أمن الدولة، وتم التحقيق معه على ذمة القضية 277 لسنة 2019 حصر أمن دولة عليا، القضية المعروفة إعلاميا بـ”اللهم ثورة”.
اقرأ أيضا.. تقرير حقوقي يطالب بإلغاء أحكام الطوارئ ضد أبو الفتوح والقصاص والشرقاوي
وضمن حملات إخلاء السبيل عن المحبوسين احتياطيا التي بدأت مع انطلاق دعوة رئيس الجمهورية للحوار الوطني، أخلت نيابة أمن الدولة سبيل “محيي الدين” الذي كان يعمل مساعدا بقسم الهندسة المدنية بجامعة بني سويف، في 2 يونيو/ حزيران 2022.
وبعد قضاء 1197 ليلة في السجن، خرج “محيي الدين” وسط أجواء الحديث عما يشبه حالة “مصالحة” بين الدولة والمحبوسين على ذمة قضايا رأي وعمل عام، من الذين لم يتورطوا في أعمال عنف. اعتقد وقتها أنه سيتمكن من العودة لعمله السابق كأستاذ مساعد في الجامعة بعد حبسه ما يقارب 3 سنوات، إلا أنه فوجئ برفض الجامعة طلبه العودة للتدريس مجددا.
يقول “محيي الدين” لـ”مصر 360″: “تعبيرا عن رغبتهم الصادقة في دمجي مجتمعيا، أنهت جامعة بني سويف وبعد حصولي على حريتي، خدمتي في التدريس”. يضيف الضابط المتقاعد قبل عمله في التدريس: “فصلي من الجامعة مثال صارخ على مشروع الدمج. أتمنى أن يكون هذا التصرف محل مراجعة قبل لجوئي للقضاء الإداري”.
يعبر “محيي الدين” عما يجول في صدره: “الدمج المجتمعي الحقيقي الذي أحتاجه اليوم هو تركي وشأني وعودتي لعملي. وتفنيد أسباب فقداني أدنى مشاعر الأمان على نفسي وأسرتي. أنا لم أقترف من الإثم إلا أنني أحببت بلادي”.
يُنهي الأستاذ الجامعي حديثه: “أنا لم أعد أشعر بالأمان، وفقدت ثقتي في الكثير مما كنت أعتبره أولويات وبديهيات. كل ما أتمناه الآن أن يخرج كل مظلوم وبريء وحسن النية من السجن اليوم قبل الغد”.
ما معنى الحبس الاحتياطي؟
لم يعرف القانون المصري ماهية الحبس الاحتياطي ولكنه أشار إليه كونه إجراءً احترازيا كضمانة من ضمانات التحقيق، ووصفته محكمة النقض المصرية بإنه إجراء بغيض كونه يتعارض مع قرينة البراءة التي تعد حقا أصيلا للإنسان، وبمقتضى هذا الإجراء يُودع المتهم في السجن خلال فترة التحقيق كلها أو بعضها، والتي قد تصل إلى عامين وهي أقصى مدة للحبس الاحتياطي طبقا لنصوص قانون الإجراءات الجنائية، أو فوق العامين بالمخالفة لتلك النصوص.
وإجرائيا، لم تعرف التشريعات المصرية الحبس الاحتياطي وإنما وضعت القواعد المنظِّمة له، حيث أوردت أسبابه، ومبرراته، المحل الواقع عليه، والجهة التي تصدره، ومدته، والرقابة عليه والتظلم منه. ذلك باعتباره إجراء قضائيًّا من إجراءات التحقيق، سواء كان التحقيق ابتدائيًّا، أو كان التحقيق نهائيًّا تباشره المحكمة المختصة.
الدكتور أحمد فتحي سرور، أستاذ القانون الدستوري ورئيس مجلس الشعب السابق عرف الحبس الاحتياطي، قائلا: “لا يخرج عن كونه إجراء من إجراءات التحقيق في جميع الأحوال، وأنه بهذه الصفة ليس عقوبة كما أنه ينبغي ألا يتحول إلى تدبير احترازي يجعله في مصافِّ العقوبات”.
شريف الروبي
فجر يوم 16 سبتمبر/آيلول الماضي ألقي القبض على الناشط السياسي شريف الروبي، من أمام أحد الفنادق في ميدان أحمد حلمي بوسط القاهرة، وبعد اختفائه، ظهر في نيابة أمن الدولة للتحقيق معه على ذمة القضية رقم 1634 لسنة 2022 بتهمة نشر أخبار كاذبة والانضمام لجماعة إرهابية.
“الروبي” الذي يدخل الحبس الاحتياطي للمرة الرابعة، نشر قبل عدة أيام من القبض عليه عدة منشورات في صفحته الخاصة بموقع التواصل “فيسبوك”، تتحدث عن سوء أحوال المفرج عنهم ماديا. “الروبي” شرح الصعوبات التي يواجهها كل من خاض تجربة السجن بداية من البحث عن فرصة عمل إلى الحالة المادية الصعبة التي يعيشها السجين وأسرته على السواء.
بعد القبض على “الروبي” نددت بعض القوى المدنية بحبسه مرة أخرى وطالبت بمعالجة مشكلاته بدلا من سجنه مجددا. الأمر فتح الحديث عن مبادرة لدمج المفرج عنهم وتذليل العقبات أمامهم لينخرطوا مجددا في المجتمع.
أزمة ديون
لا يمكن تجاهل العبء المادي الذي يطول أسرة السجين بدءا من غيابه هو في الأساس كفرد عامل يعول أو يساهم في إعالة الأسرة، وصولا إلى تكلفة الزيارات التي تتكبدها الأسرة طوال فترة حبسه. آلاف الجنيهات يتم صرفها على توفير الطعام عند كل زيارة بالإضافة إلى المبالغ التي يتم إيداعها للمسجون في حسابه داخل السجن حتى يتمكن من شراء بعض المتطلبات. بالتالي يصبح الحديث عن إعادته لعمله أو إيجاد عمل مناسب له، أولوية قصوى في ظل تدهور اقتصادي تعاني منه البلاد.
تشرح “ع. م.” شقيقة أحد المخلى سبيلهم مؤخرا، أهمية أن يخرج المحبوس سياسيا من السجن ليجد العمل المناسب الذي يمكنه من سداد الديون التي تراكمت عليه بسبب فترة السحن.
تقول في تصريحات لـ”مصر 360″ إن الزيارة الواحدة للمسجون كانت تكلفها ما يقارب من 1500 جنيه على الأقل، إضافة إلى الإكراميات التي تدفع داخل السجن لتسهيل أمور شقيقها. تضيف أن السجن في حالة أخيها كان أمرا مرهقا للغاية من الناحية المادية. إذ إن شقيقها كان أحد أركان المنزل اقتصاديا. لكن بعد غيابه اضطرت الأسرة لتقليل النفقات إلى مستوى لا يمكن تصوره في محاولة لتوفير مصروفات الزيارات والمبلغ الذي يتم إيداعه في “كانتين” السجن.
كذلك تشير إلى أن غياب السقف الزمني للمحبوس سياسيا أو على ذمة قضايا رأي وحرية تعبير، يعد سببا رئيسيا في تدهور الحالة المادية للأسرة: “لا سقف للمصروفات إطلاقا ولا معرفة بزمن انتهاء المحنة، دائرة من الانتهاك المادي”.
دور لجنة العفو
يقول كريم السقا عضو لجنة العفو الرئاسي، إن كل من يخرج من السجن سيتم بحث دمجه مجددا في المجتمع، كل حالة على حدة. كما أكد أنه سيتم التعامل مع هذا الملف بشكل جذري منعا لاستهداف المخلى سبيلهم بأفكار متطرفة، أو تعريضهم لضغوط اقتصادية.
يوضح “السقا،” أن الرئيس السيسي في أول لقاء مع لجنة العفو بعد تشكيلها في المرة الأولى، أكد ضرورة عودة المفرج عنهم لحياتهم الطبيعية، ووظائفهم مرة أخرى. كما أشار إلى أن هذا الأمر ربما يحتاج إلى تشريعات من أجل عودة من تم فصلهم من أعمالهم أو وظائفهم الحكومية؛ حسب وضع كل حالة أيضا. يؤكد السقا: “اللجنة ستتواصل مع المفرج عنهم من أجل بحث متطلباتهم”.
ندرة الفرص
الباحثة شيماء سامي تقول إن لديها مشكلة مع مصطلح مبادرة “الدمج” التي دعت إليها السلطة مؤخرا: “منذ البداية لم أقتنع بمصطلح العفو أو مصطلح الدمج، فهما يمثلان خطأ قانونيا ولفظيا”. تضيف: “الحبس الاحتياطي لا يمكن أن يطلق عليه مصطلح عفو. من الناحية الحقوقية والاجتماعية يجب أن نطلق على ما تحاول الدولة فعله بـ(إعادة تصحيح الأوضاع) لشخص تعرض لظلم، ثم بعد ذلك نعمل على محاولة إعادته مرة أخرى إلى حياته الطبيعية”.
تقول “سامي”: “حتى نستطيع جميعا تجاوز فترة الحبس الاحتياطي وما حدث لنا لا بد من عودتنا إلى أعمالنا مرة أخرى، في إطار تصحيح مسار أخطاء ارتكبها النظام الحالي ويقوم بإصلاحها الآن. لذلك أنا مع الصلح وتصحيح الأخطاء”.
“شيماء” نفسها كانت ضمن المحبوسين احتياطيا، قبل إخلاء سبيلها: “قضيت سنة و3 أشهر، وكنت أكثر حظا من أصدقائي الذين قضوا أربع وخمس سنوات داخل السجن”.
وفيما يخص عودتها للعمل كباحثة تؤكد أنها تواجه صعوبة كبيرة في العمل داخل هذا المجال كونه –من وجهة نظرها- مجالا مٌغلقا نهائيا اليوم في مصر والكتابة الصحفية كذلك، الأماكن المتاحة فيها محدودة للغاية، على حد وصفها.
معوقات إيجاد فرصة عمل
المحاسب هيثم البنا عضو الهيئة العليا لحزب الدستور والذي قضى عدة أشهر في الحبس الاحتياطي، يعاني من غياب فرصة عمل. يقول البنا: “عملت محاسبا في عدة شركات خاصة، وبعد القبض عليا وحبسي احتياطيا ثم الحصول على الإفراج، حاولت الحصول على عمل مناسب لكني لا أجد”.
“تقدمت للعمل في العديد من الشركات منها شركات يمتلكها بعض أقاربي، ولكنهم جميعا يخشون وجود معتقل سياسي سابق، فربما يغضب عملي لديهم بعض الأجهزة أو المؤسسات الأمنية وتعاقب هذه الشركات”.
وحتى الآن لم يحصل البنا على فرصة عمل، والكل يعده بالرد عليه ولكن دون جدوى، أيضا يخشى “هيثم” المشاركة في أي عمل سياسي. فبعد خروجه بأسبوعين فقط اختاره خالد داوود الرئيس الأسبق لحزب الدستور في قائمته المرشحة على رئاسة حزب الدستور. لكن ورغم ترشح “هيثم” إلا أنه كان يخشى إلقاء القبض عليه مرة أخرى وزاد هذا الإحساس بعد إلقاء القبض على شريف الروبي مجددا.
يقول البنا:” إحساسي بالأمان أصبح منعدما”.
معاناة ما بعد السجن
الكاتب الصحفي خالد داوود الرئيس الأسبق لحزب الدستور والمقرر المساعد للجنة الأحزاب السياسية بالمحور السياسي في الحوار الوطني، والمخلى سبيله بعد قضاء مدة في الحبس الاحتياطي يقول: “منذ خروجي من السجن وأنا أحاول طرق كافة الأبواب حتى ألفت الأنظار إلى معاناة ما بعد الحرية التي فجرها فيما بعد الناشط شريف الروبي قبل إلقاء القبض عليه”.
كذلك يضيف داود: “تواصلت كثيرا مع مشيرة خطاب رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان ومع محمد أنور السادات من أجل بحث سبل حل هذه الأزمة. كما اقترحت عمل لجنة لبحث هذه الأزمات ومحاولة حلها لتكون همزة وصل ما بين المخلى سبيلهم وبين المعنيين بالأمر. ثم جاء القبض علي شريف الروبي ليفجر القصة. وأعلنت بعدها لجنة العفو تشكيل لجنة لحل الأمر وتلقي هذا النوع من الشكاوى. بالإضافة إلى العمل على حلها. وأعتقد أن هناك عددا محدودا تم حل مشكلاتهم، وأيضا نفس الشيء ينطبق على الصحفيين لأن هناك مجموعة منهم لم يستطيعوا العودة إلى عملهم”.