قبل ست سنوات، بينما كنت معتصما في نقابة الصحفيين، وقبل اقتحام مبنى النقابة والقبض عليّ من داخلها بيوم واحد جاءني اتصال تليفوني، كان المتصل “أستاذ كبير” أعرفه جيدا ويعرفه أبناء جيلي كأحد “صنايعية” المهنة وكتابها الكبار، كلمات مختصرة ونبيلة وصادقة من أستاذ لم أكن قد تشرفت بلقائه من قبل رغم شهرته التي تملأ الآفاق: “كل دعمي وتضامني معاك يا عمرو.. ربنا معاك يا حبيبي”.

اقرأ أيضا.. هشام جنينة.. في انتظار الحرية

رسالة على بساطتها كانت كافية لأكتشف معنى كلمة “الأستاذ”، وقيمة أن تكون حريصا على أن تثبت ما تكتبه من كلمات بالأفعال والمواقف، وهنا كانت البداية لعلاقة مهنية وإنسانية رائعة لم تنقطع حتى لحظة كتابة هذه السطور.

أنور الهواري هو الكاتب الصحفي الكبير الذي أردا أن يضرب مثلا رائعا ونبيلا لجيل جديد من شباب مهنة الصحافة، قال رسالته بطرق مختلفة ومختصرها: الأساتذة يمكن ألا يخذلوا تلاميذهم، ورسالة المهنة و”الضمير” هي الأبقى والأنقى وهي الخالدة على مر الزمان، هذه الرسالة التي أجمل ما فيها أنها حمت أجيال من الوقوع في فخ الإحباط بينما هم يرون الجميع يقعون أسرى للمصلحة أو للاستبداد أيهما أقرب.

حينما أراد الهواري أن يوثق شهادته على هذا العصر ورسالته لزملائه ولكل المصريين قرر أن يجمع كل ما كتبه في كتاب جديد صادر عن دار روافد بعنوان “ترويض الاستبداد”.

عنوان الكتاب يوحي بكل صدق بالدور الذي لعبه “الأستاذ” وهو يحاول هدم الجدار الذي يفصل بين البلد والمستقبل، فقد سعى بكتاباته الشجاعة الواضحة للفت أنظار الجميع إلى أن الحرية هي الأساس الذي لا يمكن القفز إلى المستقبل في غيابها، لا سيما إذا حل مكانها استبداد غليظ غاشم لا يفهم ولا يعي ولا يسمح للناس بالفهم أو التفكير أو التنفس.

“ترويض الاستبداد” وما فيه من مقالات هو مشروع “الهواري” خلال السنوات الماضية، وهو المستمر حتى الآن ببراعة كاتب ومفكر كبير يكشف الحقائق ويروي ما حدث وما يمكن أن يحدث.

يستطيع كل متابع “للأستاذ” أن يعي ويدرك جيدا، لا سيما إذا كان من الصحفيين والكتاب والمهتمين بالشأن العام، أنه أصبح صاحب مشروع مهني رائع تميز به وتطور فيه بدرجة مدهشة، هذا المشروع الذي استعد له جيدا واختصره في الدفاع عن الحريات العامة والديمقراطية، ومقاومة الاستبداد، ومراجعة التاريخ انتصارا للحاضر والمستقبل، وتأكيدا على أنه رغم كل ما مرت به البلد خلال السنوات العشر الفائتة لا يزال القديم مستمرا، فما زال-حسب الهواري- طريق المستقبل ليس ممهدا بما فيه الكفاية، خاصة أن بناء هذا المستقبل لا يمكن أن يكون بنفس القواعد القديمة، وعلى نفس نصوص العقد الاجتماعي الذي أسقطه الشعب ذاته في 2011 وما زالت قوى الماضي تسعى لترسيخه رغم موته الإكلينيكي.

“قبل عشر سنوات ظنت بعض الشعوب العربية أنها على موعد مع الديمقراطية، ولكنها اكتشفت أنها كانت على مواعيد كثيرة ليس منها الوعد الديمقراطي. بعض الشعوب انتقلت من الديكتاتورية إلى الفوضى، ثم إلى الحرب الأهلية، ثم إلى شبح التقسيم، وما زالت لم تعرف نفسها مخرجا قريبا مما هي فيه.

كتاب ترويض الاستبداد

ثم بعض الشعوب انتقلت من ديكتاتوريات صلبة وفعالة إلى ديمقراطيات هشة وغير مثمرة، وبعضها كان محظوظا بحيث انتقل من ديكتاتورية مستقرة إلى ديكتاتورية طارئة وعابرة ومؤقتة، ولم تستمر أكثر من عام واحد بعده عادت إلى طبعة جديدة من الديكتاتورية المستقرة بدعوى الحفاظ على الدولة وتثبيتها في لحظة عاصفة وإقليم مضطرب وعالم متغير. الحلم الديمقراطي كان أكبر من الواقع، وأكبر من الإمكانات حتى لو كان قد بدا في لحظة معينة أنه حلم قريب المنال وأن أحقاب الديكتاتورية استنفدت أغراضها وباتت عاجزة عن الاستمرار، الآن أتبين ويتبين غيري أن البنية التحتية الديكتاتورية أكثر قوة مما كنا نظن ونتحسب”.

في هذه المقدمة البسيطة والعميقة ليس تعريفا جيدا بالكتاب ومقالاته فقط، بل إدانة شاملة للمشهد كله، بأطرافه وتعقيداته وتفاصيله، إدانة تشمل القديم الذي حاولت الناس إسقاطه والجديد الذي فرض نفسه على الصورة فزادها صعوبة وتعقيدا، هذه الفقرة التي تحاول أن تخلق المفارقة بين الأحلام المشروعة وبين الواقع الصعب، ومع ذلك فإن الهواري في كتابه لا يترك القارئ فريسة للإحباط بل فقط ينير الطريق ليصبح القادم أكثر جمالا، فهو يحاول أن يقدم للناس طريقا جديدا من حقهم أن يسعوا إليه لوضع الديمقراطية في موقع متقدم من سلم الأولويات” والديمقراطية التي أعنيها وأقصدها ليست الصخب ولا الضجيج ولا الصوت العالي، إنما هي باختصار شديد تمكين عموم المواطنين من اختيار الحكام بحرية، ونقدهم ومحاسبتهم ومعارضتهم بأمان، وعزلهم بالقانون والدستور عندما تقتضي المصلحة عزلهم، وذلك في مجال عام مفتوح ومنضبط في الوقت ذاته، يمكن المواطنين من امتلاك الوطن وممارسة السيادة، بما يعود عليهم بالارتقاء الأدبي والتقدم المادي والرضا النفسي والإحساس بجودة الحياة وجدارتها واستحقاقها”.

في كتاب “الأستاذ” تشريح شامل للمشهد السياسي المصري، وغوص كامل في مسارات التاريخ منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، وكشف واثق وغير متردد لكل الأخطاء التي ارتكبها جميع الأطراف، ولكنه وهو يفعل هذا تشعر دائما وأنت تقرأ المقالات بأن خلفيتها يحمل الأمل، مهما كانت السطور تعبر عن واقع مؤلم فإن ما بين سطور مقالات “الأستاذ” تبدو الأحلام متوهجة ومتألقة، ولكنه يحاول أن يحيط تلك الأحلام المشروعة بسياج من الواقع يحميها من الانحراف عن المسار، ويحصنها من الوقوع في فخ الأمنيات التي تخالف الواقع المعاش.

إلا أن أجمل ما في الكتاب وفي مشروع الأستاذ أنور الهواري هو هذا التقدير الكبير لثورة يناير الخالدة، وهذا الفهم العميق لطبيعة الثورة وتأثيرها على المستقبل، مهما خفت صوتها وزادت حدة التشوية والإساءة ضدها من المحسوبين على السلطة الحالية.. “وسوف تظل ثورة 25 يناير 2011 ترافق المصريين جيلا وراء جيل على مدى العقود القادمة، وهم يعيدون تأسيس الدولة الحديثة، لتكون السيادة فيها للشعب وليست للحكام، بدءا من محمد علي ومن تبعه من خلفائه ومن أنجاله وأحفاده أو من عبد الناصر ومن ورثه من ضباط الجيش المصري… بهذا المعنى فإن ثورة 25 يناير 2011 هي فاتحة تاريخ جديد، وهي أول المائة الثالثة من تاريخ الدولة الحديثة، وهي أول مشوار طويل في التاريخ يستهدف نقل ملكية مصر وحيازتها وحكمها إلى الشعب ذاته، فيتولى أمره بنفسه، ويقرر أمره بنفسه، ويحكم نفسه بنفسه دون وصاية من سلالة ودون وصاية من مؤسسة”.

هناك الكثير جدا الذي يمكن كتابته عن “ترويض الاستبداد”، وهي فرصة أن يطلع عليه القارئ، لكنه وهو يفعل هذا مطالب بأن يدرك أن هذا الطريق الذي اختاره الكاتب يؤكد أن “الحرية اختيار”، مهما أغلق الاستبداد كل الطرق فإن هناك فرصة دائمة لأن يختار الكاتب الحرية، وأن يرسخ بكتاباته لواقع جديد تستحقه مصر بكل جداره، هكذا فعل الأستاذ أنور الهواري حينما اختار أن يكون حرا، فلم يُخفه سيف المعز ولا أغراه ذهبه، فوصلت كتاباته النبيلة إلى الجميع بصدقها ونقائها، وأكاد أرى كل قارئ لها وهو يحلم معه ومعها بمستقبل أكثر جمالا يستحقه المصريون بكل تأكيد.