“أعلن أني سأستشهد عاجلا أم آجلا، وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية. ولكن نفذتها وأنا أضع هدفاً أمامي، أن تحرك العملية مئات الشبان ليحملوا البنادق من بعدي”.

بهذه العبارات، كثف الشهيد عدي التميمي، منفذ عملية “حاجز شعفاط”، والذي استشهد برصاص الجيش الإسرائيلي، مساء الأربعاء. حضور القضية الفلسطينية  على ساحات المناقشات وشاشات التلفاز، بعد أن هيمنت أحاديث التفاوض على الساحة، في السنوات الأخيرة، وما ظنه البعض تراجعا لنضال الفلسطينيين كأفراد، في مقابل تسليط الضوء على الفصائل المسلحة ومناوراتها السياسية.

عرين الأسود” اعتمدت رموزًا جديدة بعيدا عن تيمة المقاومة التي حفظها الإسرائيليون جيدا

التميمي، “الشهيد المنفرد”، وابن “عرين الأسود”، رحل مقاتلا كسابقيه، لتذكير إسرائيل بأنها لن تكون قادرة على “احتواء الأراضي الفلسطينية إلى الأبد”. كما أن وجود هؤلاء المقاومين البعيدين عن أية أجنحة عسكرية هو “تعبير آخر عن ضعف السلطة الفلسطينية”، وفق الجنرال أودي ديكل، رئيس برنامج الأبحاث على الساحة الفلسطينية، والمدير السابق لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS).

ديكل الذي كان آخر مناصبه في الجيش الإسرائيلي هو رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي في هيئة الأركان العامة. يرى في تحليله الأخير، أن العمليات المنفردة للشباب الفلسطيني، بعيدا عن قيادة سياسية يمكن لتل أبيب التفاهم معها. قد ينتج عنها عدة سيناريوهات. مثل مبادرة شعبية شاملة تدفع الشعب الفلسطيني نحو المقاومة، وهو أمر من شأنه تغيير القيادة والقواعد الحالية “للمواجهة”بين الطرفين المتصارعين الفلسطيني والإسرائيلي.

اقرأ أيضا: “عرين الأسود”.. قصة تنظيم أحيا روح المقاومة في نابلس

أيضا، يخشى جنرال الاحتياط السابق، الذي شغل منصب رئيس المفاوضين في حكومة إيهود أولمرت خلال عملية أنابوليس 2007-2008، من “استيلاء حماس على ديناميكيات الوضع في الضفة الغربية. أو ضغوط دولية على إسرائيل للسماح بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني ورئاسة السلطة الفلسطينية.

وحذّر كذلك صانع القرار الإسرائيلي من القيام بعملية عسكرية جديدة، من شأنها التسريع من إضعاف السلطة الفلسطينية، و”إلحاق الضرر بالفاعلية الضئيلة التي لا تزال قائمة في نشاط الأجهزة الأمنية الفلسطينية، ويشجع ظهور مجموعات من الشبان الفلسطينيين المستعدين لمحاربة إسرائيل”.

عرين الأسود

ترتبط نشاطات المقاومة الأخيرة في منطقة نابلس بتجمع شباب لا ينتمون إلى الأجنحة العسكرية التابعة لحماس أو فتح أو   الجهاد الإسلامي، بعضهم أعضاء سابقون في تنظيمات، وآخرين أبناء لآباء يخدمون في أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية. وتُنسب معظم العمليات في الضفة الغربية في الأسابيع الأخيرة إلى هذه المجموعة.

مجموعة المقاومة التي أطلقت على نفسها “عرين الأسود”، اعتمدت رموزًا جديدة بعيدا عن “تيمة” المقاومة التي حفظها الإسرائيليون جيدا. يرتدون زيا أسود، ويضعون شعارا يمثل بندقيتين متقاطعتين من طراز M-16 فوق قبة الصخرة، وشرائط طية صدر حمراء. في إشارة إلى أنهم على عكس الأجهزة الأمنية، أسلحتهم ليست موجهة نحو الشعب الفلسطيني. بينما هدفهم المعلن هو “السير على خطى الشهداء”.

أدرك الإسرائيليون سريعا أن هؤلاء الأسود نشطون للغاية على وسائل التواصل الاجتماعي. حيث يقوم بعض أفرادها ببث مواد خاصة على موقع Tik-Tok، بالإضافة إلى توثيق الاشتباكات، ونشر مقاطع الفيديو على الشبكات في الوقت الفعلي لحدوثها.

وشهد شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، أكثر من 34 عملية في الضفة الغربية، وهو أعلى رقم منذ أكثر من عقد. وشملت هذه العمليات إطلاق النار من بعيد على المستوطنات، وإطلاق النار على المركبات على الطرق، وإطلاق النار على مواقع الجيش الإسرائيلي وقواعده. وبالطبع -قبل كل شيء- اشتباكات بالذخيرة الحية مع قوات الجيش الإسرائيلي.

من وجهة نظره، يُعيد ديكل الدوافع الرئيسية للديناميكية التنظيمية الجديدة إلى التطورات على الأرض. بداية من أنشطة الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن العام في شمال الضفة الغربية، وضعف السلطة الفلسطينية، وتزايد الصراع الداخلي بين الفلسطينيين. يضاف إلى ذلك عجز الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وانعدام الحافز لديها لمنع الهجمات.

أيضا، يلفت إلى “الوضع الاقتصادي الصعب للشباب الفلسطينيين الذين لا يعملون في إسرائيل. وسهولة توافر الأسلحة والذخيرة وتوزيعها على نطاق واسع”.

تنمية الانشقاقات

يشير المحلل الإسرائيلي إلى أن “عرين الأسود” هم “نوع من التيار الثوري الشبابي المناضل، الذي يعارض الخط السياسي للرئيس عباس، لا سيما التنسيق الأمني ​​مع إسرائيل، وحكومة السلطة الفلسطينية الفاسدة”، حسب تعبيره.

يقول: تركز المجموعة في الوقت الحالي على الاشتباكات مع الجيش الإسرائيلي وسكان المستوطنات. لكنها قد تقدم -لاحقًا- معارضة واضحة لقيادة السلطة الفلسطينية، كما تحظى بدعم في صفوف فتح -لا سيما مع المعارضين للرئيس عباس وحلفائه -حسين الشيخ وماجد فرج- لذلك، من الصعب القول بشكل لا لبس فيه أنهم منظمة معزولة ستتفكك قريبًا.

وأكد ديكل أنه “بالنسبة لإسرائيل، من الملائم العمل مع السلطة الفلسطينية بصيغتها الحالية -ويساعد التمايز السياسي الفلسطيني الداخلي على إدامة هذا النهج- لأن المسئولية الرئيسية عن إدارة حياة السكان الفلسطينيين لا تقع على عاتق الإسرائيليين. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يمنح إسرائيل حرية العمليات العسكرية/ الأمنية في مناطق السلطة الفلسطينية”.

ولفت إلى أنه في الواقع، يؤيد معظم الجمهور الإسرائيلي وجهة النظر القائلة بأنه لا يوجد شريك فلسطيني لبرنامج سياسي يعمل من أجل تسوية، وأن الدولة العبرية “ستعيش دائمًا بحد السيف”. بينما يعيش الشعب الفلسطيني أيضًا شعورًا سائدًا بأنه “لا يوجد مخرج، ولا سبيل لضمان مستقبل أفضل، ولا قيادة ذات مصداقية”.

أضاف ديكل: هذا يخلق فراغا يولد مجموعات من الشباب الفلسطينيين المقاتلين، القادرين على جذب شباب آخرين للانضمام إليهم. هدفهم محاربة الاحتلال، في محاولة لإشعال احتجاج شعبي. لا تقتصر هذه المجموعات الشابة على دفع الثمن بمهاجمة الجنود والمواطنين الإسرائيليين فحسب، بل إنها تزيد من إضعاف السلطة الفلسطينية، وتقويض قدرتها على فرض القانون والنظام والاستقرار في أراضيها.

تركز المجموعة على الاشتباكات مع الجيش الإسرائيلي وسكان المستوطنات لكنها قد تقدم -لاحقًا- معارضة واضحة لقيادة السلطة الفلسطينية

اقرأ أيضا: مخيم شعفاط.. غُصَّةٌ مقدسيةٌ في خاصرةِ الاحتلال الإسرائيلي

“آمال” وسأم

في مقابلة إعلامية في 13 أكتوبر / تشرين الأول، ورغم الضربات الموجعة التي تلقاها من هذه الأنماط المستجدة من المقاومة، أصر وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني جانتس، أن الدولة العبرية “لم تفقد السيطرة”. قال: نحن نستخدم كل الوسائل المتاحة لنا للحصول على اليد العليا حيثما أمكن ذلك. نحن نقوم بأعمال هجومية في نابلس وجنين وحيثما كان ذلك ضروريا.

وأضاف: في النهاية سوف نسيطر على هؤلاء الإرهابيين. نحن نتحدث عن مجموعة من حوالي 30 ناشطا. علينا أن نعرف كيف نؤذيهم، وسنضربهم. ستنتهي هذه العصابة بطريقة أو بأخرى وآمل أن تنتهي في أقرب وقت ممكن”.

بالتزامن مع تصريحات جانتس، تم سحب تصاريح دخول إسرائيل من 164 فردًا من عائلات نشطاء “عرين الأسود”. وفقًا لتقرير صادر عن منسق الأنشطة الحكومية الإسرائيلية.

ينتقد ديكل الأصوات الآخذة في الارتفاع في إسرائيل بأن هذا هو الوقت المناسب لعملية أخرى مثل “حارس الجدران” وهو الاسم الكودي الذي أطلقته اسرائيل على عدوانها على غزة في مايو من العام الماضي. يتساءل: ما هو الغرض من مثل هذه العملية، إذا لم يكن لإسرائيل هدف سياسي تسعى إلى تحقيقه؟ ما معنى دعم فكرة الدولتين كما أعلنها رئيس الوزراء يائير لابيد من منصة الأمم المتحدة، دون أفعال بنفس الروح؟

وأضاف: لا يمكن الحد من التطلعات العرقية والدينية والقومية بالقوة وحدها. حتى الآن، فإن الإنجاز الوحيد لإسرائيل هو عدم وجود دافع لدى الجمهور الفلسطيني للانخراط في صراع شعبي عنيف ومتصاعد وواسع. لقد سئم الجمهور الفلسطيني من قيادة السلطة الفلسطينية وخاب أمله منها، وحتى لو رأى أن وجود مؤسسات السلطة الفلسطينية بحد ذاته إنجاز وطني مهم، فإنهم يتوقون إلى تغيير حقيقي في القيادة وسلوكها.

إضعاف السلطة

يلفت ديكل إلى أن عرين الأسود هو إشارة أخرى لإسرائيل بأنها لن تكون قادرة على “احتواء” الأراضي الفلسطينية إلى الأبد. ومرحلة أخرى في إضعاف السلطة الفلسطينية، مع اقتراب نهاية سيطرة الرئيس محمود عباس على الوضع.

وفي ختام تحليله، أشار ديكل إلى أن الوضع الحالي يمكن أن ينتج عنه عددا من السيناريوهات. هي “مبادرة شعبية شاملة تجذب دعم الجمهور الفلسطيني لعمل من شأنه تغيير القيادة والقواعد الحالية للصرع. أو استيلاء حركة حماس على ديناميكيات الوضع، ما قد يؤدى إلى زيادة الفوضى في الضفة الغربية.  أو الضغط الدولي على إسرائيل للسماح بانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني ورئاسة السلطة الفلسطينية باعتبارها السبيل الوحيد للحفاظ على السلطة”.

وأكد رئيس قسم التخطيط الاستراتيجي السابق في هيئة الأركان العامة الإسرائيلية أن عملية “حارس الجدران” الثانية “إذغ تم الإقدام عليها”ستؤدي إلى تسريع إضعاف السلطة الفلسطينية، وجعلها غير ذات صلة بأي تسويات سياسية. وكذلك إلحاق الضرر القدرات الضئيلة التي لا تزال قائمة في عمل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتشجيع ظهور مجموعات أخرى من الشباب الفلسطينيين المستعدين لأن يضحوا بأنفسهم في القتال ضد إسرائيل.