على مدار 22 عامًا قضاها يوسف والي في وزارة الزراعة، تبنى سياسة تستبدل بالمنتجات الاستراتيجية الرخيصة أخرى ذات جدوى تصديرية، فتقلصت مساحات زراعة الحبوب لصالح البرتقال والفراولة والمانجو. وهي سياسة أخذت مصر بشكل حاد في طريق التحول لأعلى دول العالم استيرادًا للقمح.

“والي” الذي غادر الوزارة في 2004 ليس بسبب سياساته، ولكن لامتصاص أزمة استخدام مبيدات مُسرطنة، حافظ من خلفوه على سياسته الزراعية، ولطالما أشادوا باحتلال مصر صدارة دول العالم في تصدير البرتقال، وأنها باتت رقمًا ضمن المراكز الأوائل في البصل والفراولة والعنب والبطاطس والثوم والرمان.

لم تغير جائحة كورونا، وما شهدته من إجراءات حمائية من قبل الدول الكبرى في إنتاج الغذاء، من قناعات وزارة الزراعة التي اعتبر مسئولوها معيار النجاح يكمن في ارتفاع التصدير، الذي يبلغ حاليًا نحو 5.1 مليون طن حتى الآن. دون النظر إلى حجم الاستيراد من القمح في المقابل الذي تدير ملفه التموين والتجارة الداخلية.

اقرأ أيضًا: “مذبحة المليون كتكوت”.. أزمة صناعة الأعلاف تبلغ الذروة.. وحلول مرصودة تشكو بطء التنفيذ

واقع الإنتاج الزراعي في مصر يثير تساؤلات حول “السياسة الزراعية المتبعة”، ومدى ملاءمتها ومرونتها للتغيرات العالمية في أسواق التصدير والاستيراد أو في مواجهة التغيرات المناخية، التي تفرض أعباءً ثقيلة على مصر. خاصة فيما يتعلق بنسبة الملوحة في التربة ودرجات الحرارة.

وتمثل السياسة الزراعية الضوابط والقوانين الخاصة بالزراعة المحلية أو المنتجات المستوردة من الخارج، التي تضمن مستوى ثابتا من الإمدادات أو استقرار الأسعار أو جودة المنتجات أو انتقاء المنتجات الجيدة أو الانتفاع بالأرض أو تشغيلها.

لكن بعض التعريفات، تؤكد أن السياسات الزراعية هي إجراءات وتشريعات تفرضها الدولة لتحقيق أهداف الخطط التنموية الزراعية، وتحسين الأمن الغذائي، وصولًا لدرجات أعلى من الاكتفاء الذاتي.

واقع الإنتاج الزراعي في مصر يثير تساؤلات حول "السياسة الزراعية المتبعة"، ومدى ملاءمتها ومرونتها للتغيرات العالمية في أسواق التصدير والاستيراد
واقع الإنتاج الزراعي في مصر يثير تساؤلات حول “السياسة الزراعية المتبعة”، ومدى ملاءمتها ومرونتها للتغيرات العالمية في أسواق التصدير والاستيراد أو في مواجهة التغيرات المناخية.

السياسات المتغيرة

المشكلة في مصر أنها شهدت تغيرات عدة ومتواصلة في السياسات الزراعية، لم تراع التحولات العالمية في مجال الإنتاج والتجارة. وقد أحدثت تشوهات داخلية بسبب بنية السوق ونظامه، خاصة الاحتكار، أو تشوهات خارجية تتعلق بالسياسات الاقتصادية المطبقة في الدولة بشكل عام.

تبنت مصر في الستينيات سياسة زراعية ذات توجه لنمط اقتصاد الدولة، بتحديد سقف الملكية، ووضع يد الدولة على الفائض، ووضع نظام تعاوني للفلاحين. لكنها لم تحقق أهدافها بسبب سوء إدارة المزارع التي تديرها الدولة -حينها- والسياسات السعرية التي كانت تأتي على حساب المنتجين، ما ساهم في زيادة الفجوة.

تفتت الملكيات الزراعية وتحولت لوحدات إنتاجية صغيرة لا تناسب الزراعة، فالمزارع الذي كانت لديه 5 أفدنة في الستينيات تحولت ملكية أحفاده إلى خمسة أو ستة قراريط في التسعينيات، لا تصلح معها لزراعةـ

السياسة الاقتصادية التي تم إتباعها سببت مشكلة في الإنتاج الزراعي. فقرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تحويل الخبز من الذرة للقمح، وضع اللبنة الأولى في تحول مصر لدولة مستوردة للقمح، بحسب تصريحات لعبد السلام جمعة، المشرف على برنامج بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية سابقًا.

إصلاح أم تعقيد اقتصادي

تغيرت السياسات الزراعية في السبعينيات والثمانينيات. لكن النقلة الأكبر كانت في سياسة الإصلاح الاقتصادي التي انتهجتها الدولة في عهد يوسف والي بداية من موسم 1993/1994، وأعطت الفلاحين الحرية في زراعة أراضيهم واتخاذ قراراتهم الإنتاجية، وفقًا لحساباتهم في ضوء آليات العرض والطلب وتغير الأسعار بالأسواق.

في دراسة لمصفوفة تحليل السياسات الزراعية لمحاصيل الحبوب في مصر، تبين أن سياسة التحرر الاقتصادي للأسواق وعناصر الإنتاج تسببت في ارتفاع تكاليف الانتاج وإتاحتها بأسعار مناسبة. وكانت السياسات التي تم انتهاجها خلال تلك الفترة 1998 وحتى 2015 ليست في صالح منتجي محاصيل الحبوب من القمح والذرة الشامية.

ومع مطلع الألفية الثانية، حاولت الدولة إعطاء القطاع الخاص الأجنبي دورًا في التنمية الزراعية في مصر. لكنها تجربة لم تؤت ثمارها أيضًا، فالمستثمرون سواء المحليين أو الأجانب حاولوا بكل السُبل التهرب من التنمية الزراعية عبر ثغرات العقود، وتحويل الأراضي الزراعية إلى مشروعات عقارية بعائد أعلى. خاصة وأن الاستثمارات الزراعية عالية المخاطر.

تحاول السياسة الزراعية الحالية بمصر، تدارك مشكلة الإصلاح السابق، عبر تولي الدولة دور أكبر في التنمية، مع التأثير في قرارات الفلاح بشكل غير مباشر، وتشجيعه على زراعة المحاصيل الأساسية عبر الزراعات التعاقدية، ووضع سعر للمحصول قبل زراعة الموسم.

عيوب السياسات المصرية

يجمع بين السياسات الزراعية في مصر العيوب ذاتها، بوجود فوارق كبيرة بين الأسعار الفعلية والأسعار المحددة من طرف الدولة، وعدم مراعاة التكلفة أساسًا لتحديد أسعار السلع الزراعية، وتحيز السياسات الزراعية لحساب المستهلكين على حساب المزارعين.

وقد أهملت السياسات الزراعية في مصر الجانب البحثي رغم أهميته. كما أن الحكومات خصصت حتى عام 2016 مبلغًا لا يتجاوز 0.02% من الناتج المحلي الزراعي “25 مليون جنيه مصري فقط” لصالح الإنفاق على البحوث الزراعية.

زراعة الأرز في مصر (وكالات)
زراعة الأرز في مصر (وكالات)

ولم تراع السياسات الزراعية أيضًا مشكلة الفقد النوعي لخصوبة التربة بالإسراف في استخدام الأسمدة الكيماوية والمبيدات ما أدى لتدهور الأراضي وزيادة القلوية والملوحة وانخفاض مساحة الأراضي الفئة الإنتاجية الأولى من 3 ملايين فدان خلال الفترة من 19996 وحتى 2000، إلى 1.3 مليون فدان في الفترة من 2011 ـ 2015.

تشير الدراسات أن مواجهة تدهور التربة يتطلب صيانتها عن طريق إضافة الجبس الزراعي لمعالجة قلوية التربة والحرث تحت التربة الذي يسهل سريان جذور النباتات، واتباع نظام الإنذار المبكر الخاص بتدهور الأراضي الزراعية والتخطيط المستقبلي لمواجهتها بمصل التصحر والجفاف.

اقرأ أيضًا: أمن مصر الغذائي الغائب.. الاستيراد يتحكم بأمعائنا من العيش والفول حتى الألبان واللحوم

يواجه الإنتاج الزراعي في مصر والدول العربية بشكل عام حاليًا مشكلات تتعلق بالعمالة التي تتراجع باستمرار حتى باتت لا تزيد على 25% من حجم العمالة الكلية بسبب الهجرة من الريف للمدن واختلال التوازن التنموي بين المناطق الحضرية والريفية.

وتحاول الدولة مواجهة المشكلة عبر مشروع حياة كريمة “تطوير الريف المصري” الذي يهدف إلى وقف الهجرة من الريف للمدن، وتحويل أكثر من 4670 قرية مصرية إلى مجتمعات ريفية مستدامة. إذ تستهدف أكثر من 58 مليون مواطن من سكان مصر بتكلفة تتجاوز 800 مليار جنيه خلال 3 سنوات.

إحلال الواردات

وتنصح الدراسات بإعادة النظر بالسياسات الزراعية الحالية بشكل جذري، بإعطاء الأولوية لـ”سياسة إحلال الواردات” بأن يكون القمح والحبوب بديلًا للزراعات الموجهة للتصدير، والتي حظيت باهتمام بالغ خلال العقدين الماضيين. ذلك بما يخدم إنتاج المواد الغذائية محليًا بأسعار أنسب، بدلًا من الارتهان للأسواق الخارجية شديدة التقلب. خاصة وأن المرونة النسبية للفاكهة والخضروات أقل من الحبوب، نظرًا لإمكانات التخزين.

كذلك، يجب أن تركز السياسة الزراعية على توسيع رقعة الأراضي الزراعية وشراء المحصول بأسعار مجزية مع تحسين نوعية التقاوي والبذور ودعم المزارعين عبر توفير مستلزمات الإنتاج الأخرى بوسائل مختلفة كالقروض الميسرة، إلى جانب عودة نشاط الإرشاد الزراعي الذي يلعب دورًا في مواجهة الهدر في الإنتاج وتقديم الاستشارات الخاصة بالآفات والأمراض النباتية.

كما يجب أن تركز السياسة الزراعية على دعم الفلاح المحلي الذي يحتل أحد المراكز الخمسة الأولى على مستوى العالم في كفاءة إنتاج العديد من المحاصيل الأساسية مثل الفول والعدس،  ويقوم حاليا باستغلال الأرض في ثلاث عروات إنتاجية تتخللها محاصيل ورقية للاستهلاك المباشر مثل الفجل والجرجير علاوة على تحميل محاصيل على أخرى من أجل الوصول لإنتاجين في الوقت ذاته.