ثورة يوليو ليست أول التاريخ، ولا هي آخره، وجمال عبد الناصر ليس حاكم مصر الأوحد، قبله مئات الحكام، فراعين وسلاطين وولاة ومماليك وباشوات وملوك، وبعده ما يشاء الله من حكام في قابل الأيام، لكن البعض يبدأ التاريخ عندهم من عبد الناصر، وينتهي عنده، هو عند هؤلاء أول الموبقات التاريخية، وهو آخرها، هو في نظرهم أول العسكر، وليس آخرهم، بل هو مؤسس حكمهم، وأبوهم الروحي، لم يسبقه إلى حكم مصر عسكري قبله، يتسامحون مع أخطاء كل الحكام وخطاياهم، ولكن عبد الناصر في عقيدتهم هو الخطيئة الكبرى التي بلا غفران.

ثورة يوليو وحدها من بين وقائع التاريخ التي يُراد لها أن تكون مسئولة عن كل أخطاء تاريخ مصر، وعبد الناصر مسئول عن كل خطايا من جاءوا بعده، ولو كان هذا الذي جاء خلفًا له انقلب عليه وسار عكس خطه وعادى كل توجهاته، يريدون إلباس الثورة تهمة لم ترتكبها، ويجهدون أنفسهم من أجل تضخيم أخطائها حتى تقطع رأسها، وتشطب صفحتها من كتاب التاريخ.

في التقييم الإجمالي لهذه النوعية من الكتابات يُخرجها المختصون -كما سنرى- من دائرة الكتابات التاريخية الموضوعية، ويضعون كُتَّابها على قائمة “مؤرخي الدرجة الثانية”.

**

مدينٌ بالاعتراف بأن عنوان المقال مأخوذٌ من عنوان أحد فصول كتاب (المؤرخون والدولة والسياسة في مصر في القرن العشرين)، من تأليف المحاضر المتخصص في التاريخ الحديث للشرق الأوسط في جامعة إدنبرة بإسكتلندا السيد “أنتوني جورمان”، والكتاب يقدم تقييمًا للتأريخ في مصر في القرن العشرين، تناول مدارس المؤرخين، كما فحص مواقفهم السياسية، ومدى تأثير هذه المواقف على كتاباتهم، وإلى أي مدى تأثرت تلك الكتابات بطبيعة نشاطهم السياسي العام.

وقد جاء فصله الثالث تحت عنوان: (التاريخ في الشارع – المؤرخ غير الأكاديمي) خصصه للحديث عن فصيل من المؤرخين أكثرهم من الصحفيين، وكلهم لا ينتمون إلى أي مؤسسة أكاديمية، واعتبرهم “جورمان” (مؤرخين هواة، وعلميين من الدرجة الثانية)، تحرروا من القيود الأكاديمية، واتسمت كتاباتهم بالمرونة، وجاءت نابضة بالحياة، وعالجت قضايا أكثر حساسية في الموضوعات التاريخية.

بعبارة أخرى، كانوا أقل التزامًا بالضوابط والقيود الأكاديمية والعلمية، وأكثر شطارة في أسلوب الكتابة، وأكثر حنكة في اختيار القضايا التي يثيرونها، لأن أغلبهم كانوا صحفيين وكتاب سياسة لهم خبرة ودربة الكتابة في الموضوعات الأكثر إثارة أو الأكثر جماهيرية.

**

أسماء كبيرة انتمت إلى هذه المدرسة، لهم إسهامات مقدرة، وهم من الصحفيين والمفكرين السياسيين ورجال الأحزاب، قديمًا كان عبد الرحمن الرافعي على رأس قائمة المؤرخين غير الأكاديميين، وحديثًا يتصدر اسم الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل قائمة المحسوبين على الكتابة في التاريخ، وفيها أسماء كثيرة منهم محسن محمد وجمال بدوي ومحمد عودة وآخرين كثيرين.

عبد الرحمن الرافعي على قيمة ما كتبه في التاريخ المصري، وهي القيمة المقدرة من قِبل المؤرخين الأكاديميين، إلا أن المتخصصين أخذوا حذرهم من تأثير الولاء تثير تأثير تتتالولاء السياسي الذي انتمى إليه الرافعي، واعتبروه سببًا من أسباب عدم تحليه بالموضوعية، خاصة في روايته عن ثورة 1919، ومواقفه من حزب الوفد، ولا شك أن انتماءه المعروف وانحيازه المسبق خفضا درجة الموضوعية في بعض كتابات الرافعي التاريخية.

أما هيكل فقد اختلف المؤرخون حول اعتباره مؤرخًا من عدمه، لكن أحدًا لم يُقلل من القيمة الكبيرة لما تركه وراءه من كتابات وكتب، خاصة تلك التي روت قصة الصراع الذي دارت رحاه على ساحات السياسة والحرب في الشرق الأوسط.

**

قدم هيكل للمكتبة التاريخية عددًا من الكتب في مقدمتها المجلدات الأربعة التي تناولت قصة “حرب الثلاثين سنة” (ملفات السويس، سنوات الغليان، الانفجار، وأخيرًا حرب أكتوبر 73 – السلاح والسياسة)، ويضاف إلى ذلك ثلاثية “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”(ثلاثة مجلدات)، وأكثر ما ميز تلك الكتابات أنها تضمنت كميات وفيرة من الوثائق التي لم تنشر من قبل، ولم تتح لدارسي التاريخ والمؤرخين.

رغم كل هذا الإنتاج غير المسبوق في الكتابة التاريخية، إلا أن المؤرخين يتعاملون مع إنتاج هيكل بحذر شديد، فالرجل كما هو معروف كان منخرطًا في الحياة الصحفية والسياسية من نهاية الأربعينيات من القرن العشرين حتى مضى من القرن الواحد والعشرين أكثر من خمسة عشر عامًا ليرحل في فبراير 2016.

وكانت له علاقات تقارب بدرجات مختلفة من صناع التاريخ في زمانه، ولا شك أن هذه العلاقات تركت أثرها بشكل أو بآخر على رؤيته للأحداث وتحليله لها، وكان طرفًا في الكثير من تلك الأحداث، وحسب تعبير المؤرخ الكبير رؤوف عباس (يلقي أضواء باهرة على بعضها، ويترك البعض الآخر محاطًا بالظلال).

**

تجربة هيكل أغرت كثيرين لم يحظوا بملكاته، ولا إمكانياته، ولم تتوفر لهم علاقاته بصناع التاريخ في مصر والوطن العربي والعالم، ومع ذلك راحوا يجربون حظهم مع الكتابة في التاريخ، يرفعون كتابتهم إلى مقام الكتابة التاريخية، رغم أن هيكل نفسه لم يقدم كتاباته على أنها تاريخ، بل ظل ينفي عن نفسه هذا الادعاء، كان ذلك واضحًا في مقدمة المجلد الأول من حرب الثلاثين سنة “ملفات السويس” كتب يقول: “الصحفي ليس بمقدوره أن يكتب التاريخ، فتلك مهمة أكبر من طاقته، وأوسع من أي تحقيق يقوم به في حدث بذاته”.

هيكل الذي كان شاهدًا ومشاركًا وكاتبًا توفرت لديه كمية من الوثائق لم تتوفر لأحدٍ غيره، واطلع على الكثير الكثير من الوثائق الأجنبية المتعلقة بالأحداث التي كتب عنها، بالإضافة إلى هذا الكم من الوثائق الرسمية المصرية التي كانت في حوزته، ومع ذلك وبرغم كل ذلك، نفي الأستاذ عن نفسه بكثير من التواضع المحمود صفة المؤرخ، والأهم أنه لم يجلس على كرسي المؤرخ ليصدر أحكامًا غير قابلة للنقض على صناع التاريخ.

**

نماذج المدرسة التي تنتمي إلى ما سماه جورمان “التاريخ في الشارع”، هؤلاء الذين اعتبرهم (مؤرخين درجة ثانية) هي للأسف نماذج منتشرة في الأوساط الصحفية والثقافية والتليفزيونية، وبعضهم لهم كتب ودراسات وكتابات ومقالات تتناول المثير والمختلف عليه والجاذب للقراءة واللايكات وكثرة الشير، وتصدر التريند.

انظر في مقالات ومقولات وبرامج هذه النماذج لتستطيع بنفسك أن تحكم على هذه النوعية من كتابة التاريخ على طريقة الخبطة الصحفية، وحسب مقياس الموقف الذي يتبناه هذا الفريق أو ذاك، سواء على صعيد السياسة أم على صعيد العقائد والفكر الديني.

**

ليس هكذا نكتب تاريخنا

يقدم البعض قراءته لتاريخنا المعاصر مستهدفًا التصويب ضد ثورة يوليو، وضباطها الأحرار، وعلى الأخص قائدها جمال عبد الناصر، يضرب بعضهم ببعض، يستخدمون خلافات “ضباط يوليو” في معركتهم ضد الثورة نفسها، عبد الناصر عندهم هو مؤسس الطغيان في بلدٍ يذخر تاريخُه بالطغاة والفراعين والمستبدين، وثورة يوليو عندهم هي التأسيس الأول لما يسمونه “حكم العسكر”، في بلد حُكم طوال تاريخه إما بمحتل أجنبي أو بمماليك وعسكر من شتى بقاع الأرض.

ينزعون الحوادث من سياقها الزمني، ويقرأون الأحداث معزولة عن حقائق عصرها، ويعيدون صياغة التاريخ على أفكار فقيرة في الفكر، يدورون حولها كأنها أصنامهم التي إليها يحجون، أو كأنها تعويذات آلهتهم التي يعبدون.

يمسكون في تلابيب اللحظة التاريخية التي أنتجب “نظام يوليو” ويصورونها على أنها لحظة لا تنتهي، لحظة عصية على أن تتجدد، لا تأتيها لحظات تاريخية مُضافة تُكرس للسلبي الذي جاءت به، وتضيف إليه ركامًا من السلبيات لتشكل بالمحصلة تطورًا تاريخيًا جذريًا لا يمكن إغفال أثره، أو التعامي عن تأثيره المباشر في اللحظة الراهنة، ربما بمقدار يفوق عشرات المرات تأثير ما تركته اللحظة الأولى من أثر.

لكن الغرض مرض، وإدانة “ثورة يوليو، وضباط يوليو، ودولة يوليو” حكمٌ كان قد صدر بدون نقض ولا إبرام، ولا دفاع ولا دفوع، هكذا يحكمون بالجملة على دولة متعددة العهود، ويدينون تاريخًا طويلًا من الإنجازات والاخفاقات، والانتصارات الكبيرة، والهزائم المريرة، والحقائق على الأرض تشهد لعهد عبد الناصر وما تزال تُحييه وتُحيي سيرته بين الناس الذين يشاهدون ويشهدون أكبر وأخس عملية بيع جرت على مدار خمسين سنة لما تركه عبد الناصر، وآخرها شركة الكوك وقبلها الحديد والصلب وقطاعًا صناعيًا ضخمًا بناه الشعب المصري في عشر سنوات فقط.

**

هذا البعض من هواة العودة إلى التاريخ، تحكمهم ثلاثة أفكار رئيسية وتتحكم في قراءتهم لصفحات التاريخ:

أولها: فكرة قسمة التاريخ الحديث بين مرحلتين، الأولى تبدأ مع تولية محمد علي حكم مصر، وتنتهي بقيام ثورة يوليو وعزل آخر حكام العائلة العلوية في مصر، والثانية زمن ما بعد يوليو 1952.

الفكرة الثانية التي تحكم بعض هؤلاء تتلخص في اختصار “دولة يوليو: في مقولة “حكم العسكر”، وفي هذا متسعٌ لهم لكي يُهيلوا الكثير من الأتربة على قبر جمال عبد الناصر في محاولة لطمس أثره، يحيونه في الحاضر ليتمكنوا من إصدار قرار جديد بموته على أيديهم.

أما ثالثة الأفكار فهي تقوم على دمج الفترة ما بعد يوليو في سياق واحد، لا يفرق بين عهود دولة يوليو، وهو دمج يتيح لهم فرصة الانقضاض على عهد عبد الناصر أكثر مما يسمح لهم بمعارضة الحاضر، إلا معارضة خفيفة تحسب حسابات التكلفة، فتذهب إلى إدانة عهد عبد الناصر برمته، ويلبسون ثوب المعارضة للقائم الذي يعتبرونه امتدادًا طبيعيًا لعبد الناصر.

يجعلون من قدحهم الماضي القريب، طريقًا لذم الحاضر المقيم.

**

ليس هكذا نكتب تاريخنا.

التاريخ لا يبنى على الأقاويل، ولا يُكتب بتوجهات الكاتب، ولا يمكن أن تستند الكتابة في التاريخ وحوله على مذكرات شخصية لبعض المشاركين في الأحداث، وإهمال مذكرات آخرين ليسوا مع رؤية الكاتب التي استخدم فيها بعض المذكرات ليُثبت رؤيته لا ليصل إلى حقيقة ما جرى.

حين ينجرف الكاتب إلى اعتماد وجهة نظر منحازة ضد الحقبة التاريخية التي يكتب عنها يذهب إلى المادة الخام المتوفرة في بعض المذكرات الشخصية لأشخاص عايشوا الفترة وكانوا من صناع أحداثها، لكل منهم رؤيته، وهو بالطبيعة ليس محايدًا، وقد تأخذ مذكراته منحى انتقاميًا ضد خصومه والنيل من سمعة منافسيه، ولذلك يتخوف المؤرخون الأكاديميون (مؤرخو الدرجة الأولى) من الاعتماد على المذكرات كمصدر لكتابة التاريخ.

وأسمح لنفسي بالحديث عن الكتابات التاريخية للكاتب الصحفي والضابط السابق الذي انتمى لحركة الضباط الأحرار الأستاذ أحمد حمروش، ولم يكن من ضباط الصف الأول، إلا أن كتبه ومذكراته عن “ثورة 23 يوليو”، جعلت الساخرين يسمونها “ثورة 23 حمروش”، وفيها الكثير من تضخيم دوره، والكثير من النيل من منافسيه وخصومه.

**

لا يمكنك -إذا كنت جادًا في البحث عن الحقيقة- أن تجد سيرة الوطن في السير الذاتية، بعيدًا عن التاريخ الموثق، والحقائق المؤكدة، والوقائع الثابتة، فالكتابات الانطباعية لا تصنع حقائق، وكل هذا الركام من المذكرات ليس إلا تشويشًا على الحقائق، وتشويهًا للتاريخ الحقيقي.

وقد قيل عن حق إن التاريخ لا تكتبه الأهواء ولا تسطره المواقف الشخصية ولا تسجله الملاحظات الفردية، والأمم الواعية لخطورة تناول التاريخ بغير ما يستحق من جهد واهتمام وموضوعية وحيادية، تضع –أولًا- وثائقه في أيدي المؤرخين المؤهلين لكتابة تاريخها، ثم تسند –ثانيًا- هذه المهمة الجليلة إلى مؤسسات أكاديمية قومية ليس لها غرض أو هدف إلا إجلاء الحقائق ووضع القيادات والزعامات في مكانها الطبيعي دون تأثر بالمناخ العام الذي يسود أو البيئة السياسية المستجدة.

**

إن أخطر ما يواجه أي جماعة وطنية هو التعارك حول تاريخها، تنتصر كل مجموعة منها إلى سرديتها الخاصة للتاريخ العام للوطن، لكلٍ منهم روايتها لما تراه هي أنه صحيح التاريخ، فيتقطع بين تلك الفرق تاريخ الجماعة الوطنية، وتتفرق دماء الحقيقية بين القبائل المتناحرة.

النقطة التي ننطلق منها لقراءة التاريخ هي المشكلة.

كلٌ يقرأ التاريخ من حيث يقف في الحاضر، من موقعه الأيديولوجي، ومن موقفه السياسي، ومن انحيازاته الآنية يصبغ كل ما جرى في الماضي بصبغة تلك الانحيازات، ويتخير منها ما يثبت صوابية موقعه، وسلامة موقفه.

الأمم المتقدمة تقرأ “تاريخها” انطلاقا منه إلى المستقبل، يقرأون التاريخ كفاعل مستقبلي وليس معول هدم، لا يتعاركون على الماضي، ولا يصفون حسابات الحاضر في لوي عنق الوقائع التاريخية، لهم سردية موحدة، الحاضر عندهم هو نقطة على مسارٍ تاريخيٍ طويل يتحرك إلى الأمام، حيث التاريخ هو مرآة السيارة التي يُلقون عبرها نظرة إلى الخلف لكي يحسنوا القيادة إلى الأمام.

**

ينصرف البعض منا إلى التاريخ، يذهب إليه ولا يعود منه إلا ليُحمل الحاضر ما لا يطيق من الماضي، يستغرقه الخلاف حول التاريخ حتى يستنزف قدرتنا على بناء المستقبل، والأسوأ أن هذا البعض -بموقفه من التاريخ- يقف حجر عثرة أمام كل تقدم حقيقي.

وفد كان من أسوأ ما تعرضنا له طوال قرنين -على الأقل- أننا ظللنا ندور في حلقة مفرغة، مربوطين إلى نفس الساقية، لا نتقدم إلى الأمام خطوات حتى نرجع إلى الخلف أميالاً، والأسوأ أننا لا نتعلم الدرس كل مرة.

نغرق في معاركنا حول التاريخ هروبًا من مواجهة معارك الحاضر، بين كل فترة وأخرى نثير نقاشات مستعادة، وحوارات سقيمة حول أي مسألة في التاريخ الحديث تطرح على النقاش العام، فيتبارى المتناقشون في عداوة فترة تاريخية أمام دفاع آخرين عن نفس الفترة، ينتقي كل منا فترته التي ينافح عنها، يرى فيها كل الميزات، ولا يرى فيها عيبًا كعين المحب عن كل عيب كليلة، ويصب بعضنا لعناته كلها على فترة بعينها، يراها أساس كل الأخطاء ومنبع كل الخطايا، يرى فيها كل العيوب، كعين السخط تٌبدي المساويا.

التاريخ يُقرأ خدمة لصناعة المستقبل، لا نذهب إليه لتصفية حسابات مع الماضي، ولا نستدعيه لنستخدمه في عراكنا مع الحاضر.

**

نواصل في المقال المقبل.