يقترب نظام 30 يونيو من إتمام عامه العاشر في الحكم، ولا يزال البعض ينظر إلى النظام بنفس النظرة القاصرة التي اعتاد الجميع أن ينظر بها إليه في شهور الحكم الأولى، قصور المعلومات وغياب الرؤية وتراجع السياسة، كل ذلك أدى إلى غياب التحليلات السياسية السليمة وأنتج قراءة خاطئة للواقع واستشراف معكوس للمستقبل.
النظام الجديد قد يشبه أنظمة الحكم السابقة خلال السبعون عاما الماضية، ولكنه لا يطابق أي منها، بالطبع غياب المشروع السياسي الواضح، وعدم تقديم برنامج للحكم، قد ساهم بشكل كبير في ضبابية المشهد السياسي، لم يقدم النظام أي تصور واضح لمستقبل مصر، بخلاف جمل مثل “هتبقى أد الدنيا – بكرة تشوفوا مصر”، لم يفصح النظام عن شكل مصر التي يحلم بها، وما سوف ينفذه من تلك الأحلام.
ليس معنى ذلك أن النظام ليس لديه رؤية، ربما يكون لديه واحدة، ولكن ببساطة نحن لا نعرف، فلا يوجد نظام سياسي أو حزب حاكم، أو حتى طبقة سياسية حاكمة من كبار الموظفين، كل ما لدينا هو رئيس يمارس الحكم منفردا وعدد قليل من المستشارين المقربين ذوي السلطات الواسعة، وباقي الدولة موظفين تنفيذيين، بعضهم على درجة من الكفاءة والجهد مثل رئيس مجلس الوزراء، ولكنهم لا يتجاوزون كونهم موظفين، وبالتالي لا يمكن الوصول إلى ما في قلب النظام وعقله.
ربما للأسباب السابقة يتصور البعض أن النظام لديه أزمة حكم، وهو ما ثبت عدم صحته خلال السنوات الماضية، فالنظام استطاع صياغة معادلة حكم جديدة تختلف عن معادلة مبارك، تلك المعادلة تحقق توازنا بين عناصر الحكم داخل الدولة المصرية بأجهزتها المختلفة، كما تحقق توازنا دوليا بين الحلفاء الإقليميين والدوليين، ربما لا ترقى معادلة الحكم الجديدة إلى مرتبة النظام السياسي، ولكنها قادرة على توفير درجة من الاستقرار في طبقة الحكم لسنوات ماضية وقادمة.
عمل نظام 30 يونيو وفق استراتيجية واضحة عنوانها “الردع العام” وهدفها الرئيسي هو منع تكرار ثورة 25يناير، استخدم النظام كل درجات العنف المتاح لتنفيذ تلك الاستراتيجية، بداية من فض اعتصامي رابعة والنهضة وانتهاء بحملة الاعتقالات الموسعة في 2019، خلال تلك السنوات نجح النظام في السيطرة على مفاصل الدولة بالكامل، وتأميم المجال العام وتحجيم المجتمع المدني، وتعطيل السياسة بالكلية.
استخدم النظام لسنوات كل الأسلحة المتاحة في مواجهة كل من أظهر معارضته للحكم، تنوعت تلك الأسلحة في درجة العنف بين التشويه الإعلامي والمنع من السفر ثم الاعتقالات لتصل إلى المواجهة المسلحة، كما حصن النظام نفسه بترسانة من القوانين والقرارات التنفيذية وتعديل الدستور، التي تتيح له الالتفاف على الدستور. بعض تلك القوانين هو سيف مسلط على رقاب الجميع كقانون مكافحة الإرهاب.
كان الهدف الرئيسي للنظام خلال السنوات الماضية، هو إظهار القوة، وفي بعض الأحيان “القوة الغاشمة” بحسب تعبير الرئيس، تحمل النظام في سبيل ذلك مواجهة شاملة مع التيار الإسلامي تنوعت بين التظاهر والعمليات النوعية وحتى التفجيرات والاغتيالات، كما واجه النظام مقاومة شديدة من التيار المدني بلغت ذروتها في الاحتجاجات على اتفاقية “تيران وصنافير”، بالإضافة إلى خلاف شديد مع الحزب الديمقراطي الأمريكي، وعدد من التقلبات السياسية مع الحلفاء الإقليميين، وعداء واضح مع الدولة التركية.
الدرس الأهم لنا من السنوات الماضية أن النظام لديه سيطرة شديدة على أجهزة الدولة تمكنه من تجاوز خلافات الحكم حتى لا تصل إلى مرحلة الأزمة، كما أن لديه إصرار شديد على تنفيذ استراتيجيته والحفاظ على استقرار الحكم أيا كانت الاضطرابات المحيطة، سواء داخل المجتمع أو الدولة أو حتى الاضطرابات الإقليمية والدولية المحيطة.
مع نهاية عام 2021، بدى أن استراتيجية الردع قد آتت أكلها، فقد اختفت السياسة، وعاد التيار الإسلامي إلى مكانه تحت الأرض، وتشتت التيار المدني بين المنفى والسجن والصمت الإجباري، كما تم إحكام السيطرة على الإعلام، وتحولت مطالب بقايا المعارضة من تداول السلطة وتحقيق الديمقراطية، إلى مطالب حقوقية تتمحور حول الإفراج عن سجناء الرأي وإتاحة هامش بسيط للمعارضة، ربما يتمثل في عدد من مقاعد البرلمان، كما توقفت مناوشات الراغبين في الحكم بداخل الدولة، والتي انتهت بسجن الفريق “سامي عنان” والمستشار “هشام جنينة”.
ربما ليس لدى النظام رؤية للسياسة الخارجية، ولا يملك مشروع نهضة واضح المعالم، ولا حلول اقتصادية لتحقيق التنمية، ولكنه بالتأكيد يملك قدرة عجيبة على الاستمرار ومواجهة الأزمات، والأهم من ذلك كشف المؤامرات الداخلية والخارجية، عبر أجهزة معلومات استثمر النظام فيها ومنحها صلاحيات واسعة.
ربما يواجه نظام 30 يونيو في اللحظة الحالية عددا من المشكلات السياسية والاقتصادية، وربما يتسبب ذلك في خلافات داخل الطبقة الحاكمة، ولكن كل ذلك يمثل تحديات في مواجهة النظام لا ترقيي إلى مرتبة التهديد طالما لم تصل خلافات الطبقة الحاكمة الى مرحلة الصدام.
الحكم هو وسيلة لتحقيق غايات وطموحات الحاكم، ولكن متى كان الحكم هو الغاية في حد ذاته، فإن مواجهة الحاكم تكون صعبة ومحفوفة بالمخاطر.