اختتمت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اجتماعاتها مع الكنائس “الشقيقة” في الإيمان حيث استضافت على مدار أيام بدير الأنبا بيشوي بوادي النطرون اللقاء الثالث عشر للكنائس الأرثوذكسية بالشرق الأوسط وهو اللقاء الذي لم يكن بعيدا عما يدور في العالم المعاصر من أزمات. إذ جدد رؤساء الكنائس تأكيدهم ضرورة دعم الوجود المسيحي في الشرق.. هذا الوجود الذي تأثر بالهجرات نتيجة لعدم الاستقرار السياسي والأزمات غير أن التقارب القبطي مع الكنيسة الروسية ألقى بظلاله على تلك الاجتماعات.

وفي دير الأنبا بيشوي التقى البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، والبطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، والكاثوليكوس آرام الأول كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس لبيت كيليكيا الكبير، بأنطلياس بلبنان.

اقرأ أيضا.. هل سقطت الكنيسة المصرية في «بئر التطبيع»؟

خريطة كنائس العالم

البابا تواضروس والبطريرك مار إغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية

خريطة علاقات معقدة بين الكنائس الشرقية، أولا بسبب خلافات عقائدية وسياسية منذ مئات السنين، آخر هذه الخلافات تسببت فيها أزمة الحرب على أوكرانيا، حيث اتخذت كل كنيسة موقفا مختلفا في دعم أو رفض هذه الحرب.

يوضح مراد يواقيم الباحث في اللاهوت طبيعة العلاقة بين الكنائس التي اجتمعت في مصر. فيقول: “ينقسم العالم المسيحي إلى كنائس خلقدونية وغير خلقدونية بعد انشقاق تاريخي في مجمع خلقدونية (451م) حول طبيعة المسيح (الإله والإنسان). وأشار إلى إن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تنتمي إلى الكنائس غير الخلقدونية وهم ثلاث في الشرق الأوسط “الذين اجتمعوا في وادي النطرون” بينما الفرع الثاني من الكنائس الأرثوذكسية هي كنائس خلقدونية وتنقسم لمعسكرين: كنيسة الروم الأرثوذكس اليونانية وكنيسة روسيا السلافية.

والكنائس غير الخلقدونية هي التي رفضت قرارات المجمع حينها والتي حاولت التشكيك في الطبيعة الواحدة للمسيح.

“يواقيم” يوضح أن المعسكر الأرثوذكسي الثاني يرأسه بطريرك القسطنطينية في تركيا وهو يوناني ويعرف باسم البطريرك المسكوني. ووفقًا للمتعارف عليه فيسمى هذا البطريرك الأول بين المتساويين في العائلة الخلقدونية. كما أكد أن الحوار بين الكنيستين الروسية والقبطية المصرية قد بدأ في الخمسينيات من القرن الماضي بثلاث دورات غير رسمية عبر وفود يرسلها البطريرك المسكوني بالقسطنطينية.

وفي التسعينيات وقعت الكنيسة القبطية اتفاقا مع بطريرك القسطنطينية يقضي بالوحدة بين الكنائس ولكن كان على كل كنيسة أن توقع منفردة على هذا الاتفاق.

أوكرانيا بطلة الصراع

البابا تواضروس وثيودروس الثاني بطريرك طائفة الروم الأرثوذكس

يواقيم يشرح: “بمعنى إن الأمر تطلب توقيع الكنيسة الروسية والكنيسة اليونانية باعتبارهما تابعتين لبطريرك القسطنطينية، وفي المقابل فإن كل الكنائس غير الخلقدونية وقعت على هذا الاتفاق وقالت الكنيسة القبطية المصرية آنذاك إن أي كنيسة من المعسكر الثاني مثل اليونانية أو الروسية ستوقع سوف نرفع الحرومات (عقوبة كنسية) تلقائيًا ونصبح في شركة معهم ولكن لم توقع أي كنيسة على هذا الاتفاق الذي كان من المككن أن يقضي على خلافات تاريخية”.

في نفس السياق فإن بيان الكنائس الأرثوذكسية الشرقية التي اجتمعت في مصر تشير إلى نفس الأمر فيذكر: توقف الحوار منذ نوفمبر/تشرين ثاني 1993م، ثم لقاء مجموعة عمل من ممثلين رسميين للكنائس من العائلتين في أثينا – اليونان 24-25 نوفمبر/تشرين ثاني 2014م، الذي وضعوا فيه خارطة طريق للعمل المستقبلي للجنة الحوار المشترك اللاهوتي الرسمي بين العائلتين. إضافة إلى الاجتماع الذي عقد بين الرئيسين المشاركين نيافة المطران عمانوئيل والراحل الأنبا بيشوي في 12 إبریل/نيسان 2018م بضيافة وحضور قداسة الكاثوليكوس آرام الأول في انطلياس – لبنان، حيث تم فيه مناقشة التطورات الخاصة بالحوار اللاهوتي الثنائي والإعداد للقاء لكامل أعضاء اللجنة المشتركة لتنشيط الحوار.

بينما أشار كيرلس بشرى الباحث في اللاهوت بجامعة فيينا إلى إن الكنائس التي اجتمعت في مصر هذا الأسبوع تجمعها وحدة الإيمان والعقيدة. وتتخذ موقفًا موحدًا في كافة الحوارات مع الكنائس الخلقدونية. لافتًا إلى إن الصراع الروسي الأوكراني قد ألقى بظلاله على العلاقات بين الكنائس الخلقدونية حيث انشقت كنيسة أوكرانيا عن روسيا بدعم بطريرك القسطنطينية.

الاقتراب من كنيسة روسيا

البابا تواضروس وبابا الكنيسة الروسية

يؤكد مراد يواقيم إن عصر البابا تواضروس بدأ بالمحاولة في  التقارب الروسي حتى إنه زار الكنيسة الروسية وذلك حين شعر إن الروس يمارسون عداء غير مبرر في الحوار المسكوني مشيرا إلى إن العلاقات التي بدأها البابا تواضروس تسير في محورين علاقات ودية وحوار لاهوتي.

الباحث في اللاهوت قال إن العلاقة القبطية مع روسيا بدأت من خلال تأسيس مجلس للعلاقات القبطية الروسية قبل أن تحدث أزمة اوكرانيا حيث تم تأسيس المجلس بواسطة كنيسة شقيقة هي كنيسة أرمينيا وهو ما يعني إن “علاقتنا ككنيسة قبطية كانت مقطوعة مع الروس تمامًا بالشكل الذي جعلنا نلجأ لكنيسة شقيقة وبالفعل دخلنا في عصر تقارب مع الروس وطلبوا من كنيستنا جزء من رفات”جسد” الأنبا مكاريوس وهو أب رهباني كبير ولم يستطع البابا تواضروس تمرير هذه الهدية”.

الكنيسة المصرية “رقما” في الصراع الروسي الأوكراني

الحرب الروسية الأوكرانية

يرى “يواقيم” أن الصراع الروسي الأوكراني سياسيا دخل إلى أبواب الكنائس وكان للكنيسة القبطية نصيب فيه فقد قرر الروس تأسيس مفوضية لكنيستهم في مصر وهي منطقة كنيسة الروم الأرثوذكس منذ قديم الأزل وذلك بعدما أن تصارعت الكنيستان بشأن استقلال كنيسة أوكرانيا فقرر الروس اختراق مناطق كنيسة اليونان الجغرافية.

وأضاف: “في الغردقة لديهم تجمع مهول هناك من رعايا الكنيسة الروسية كذلك فإن الكنيسة الروسية اشتبكت ضد الكنيسة اليونانية في إفريقيا وضمت كهنة كثيرين وكان لابد أن تؤسس لها كنيسة في مقر الكرسي بمصر وهو ما يعني إن الكنيسة القبطية دخلت في عداء مع كنيسة الروم اليونانية بعدما سمحت للكنيسة الروسية بتأسيس مقر لها في مصر حيث منطقة جغرافية تابعة للكنيسة اليونانية”.

بيان اجتماع البطاركة الأرثوذكس الأخير بمصر يشير إلى العلاقات الروسية القبطية فيقول: “أخذنا علما باللقاءات التي تمت في لجنة التعاون بين الكنيسة الروسية الأرثوذكسية والكنيسة القبطية الأرثوذكسية، في مجال الخدمة الاجتماعية وخدمة الدياكونية (خدمة كنسية)وتبادل الزيارات الرهبانية والخدمة الرعوية للروس بمصر والاقباط الأرثوذكس في روسيا”.

“يواقيم” يشير إلى أن الأنبا سرابيون مطران الكنيسة القبطية بلوس آنجلوس هو المسئول عن لجنة العلاقات مع الكنيسة الروسية، حيث كان يعلق على الحوارات المسكونية للكنيسة القبطية وكان ينتقد النتائج وقال من قبل: “ما دمنا وصلنا لنتائج غير مرضية فكان علينا تغيير الاستراتيجية ومن ثم بدأ يتحرك في هذه العلاقات”.

الكنيسة القبطية والعالم الأرثوذكسي

تشير المعطيات إلى إن الكنيسة القبطية المصرية تقترب حثيثًا من الكنيسة الروسية مع الأخذ في الاعتبار الدور الذي تلعبه الكنيسة القبطية كقائدة ومؤثرة في بقية الكنائس الأرثوذكسية الشرقية ما يعني أن السنوات القادمة قد تعني تقارب للكنائس الشرقية بزعامة “القبطية المصرية” أكثر مع الكنيسة الروسية ربما أكثر من أي وقت مضى في مقابل قطيعة بدأت تزداد مع كنيسة الروم الأرثوذكس اليونانية، وهو الأمر الذي يغير خريطة كنائس العالم مستقبلًا في ضوء تغيرات سياسية كبرى لم تكن كنيسة مصر بمنأى عنها.

ففي يوليو/تموز الماضي، استقبل البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية المطران ليونيد مطران إيبارشية إفريقيا للكنيسة الروسية، والسفير جيورجي بوريسينكو سفير روسيا في القاهرة. ووفق ما أعلنته الكنيسة القبطية رسميا على لسان متحدثها الإعلامي، سلّم المطران ليونيد للبابا تواضروس خطابا من البطريرك كيريل بطريرك موسكو للكنيسة الروسية يفيد بتعيين المطران ليونيد كمطران لإيبراشية روسية في إفريقيا. وهو الأمر الذي أغضب كنيسة الإسكندرية للروم الأرثوذكس (الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية) التي قطعت علاقتها مع كنيسة روسيا. كما ترى أن روسيا تتوسع وتؤسس كنائس في مناطق تابعة للكنيسة اليونانية وفقًا للقوانين الكنسية القديمة وتقسيمات العالم المسيحي حتى إن بطريرك الروم الأرثوذكس اليوناني ثيؤدوروس يسمى بطريرك الإسكندرية وسائر إفريقيا ومن ثم لا يحق لكنيسة روسيا أن تدخل تلك المنطقة المخصصة للكنيسة اليونانية قديمًا.

تسببت الحرب الأوكرانية في اشتداد الصراع بين الكنيستين الروسية واليونانية، إذ اعترفت كنيسة الروم الأرثوذكس اليونانية بكنيسة أوكرانيا والتي ترى كنيسة روسيا إنها كانت جزءا منها. بينما ساهمت الكنيسة القبطية من ناحيتها إذ بدت وكأنها منحازة لكنيسة روسيا ضد كنيسة اليونان وحليفتها كنيسة أوكرانيا حتى إن الكنيسة المصرية منحت كنيسة روسيا مقرًا لها في القاهرة.

إذا كانت الكنيسة القبطية المصرية تبدو كقائدة للكنائس الأرثوذكسية الشرقية فإن هذه القيادة تنحو نحو علاقات أكثر قوة مع كنيسة روسيا والتي دخلت في خصومة مع كنيسة الروم الأرثوذكس اليونانية وحليفتها كنيسة أوكرانيا ومن ثم فإن البابا تواضروس كقائد لكنيسة مصر إن واصل جهوده في العلاقات مع كنيسة روسيا نحو حوار لاهوتي ورفع الحرومات فإن موقعه هذا سوف يسهم في تحالف بين كنائس العائلة الأرثوذكسية الشرقية وبين كنيسة روسيا ومن ثم تتغير خريطة العالم كنسيا فيصبح الشرقيون والروس معًا في مقابل معسكر جديد يتضمن اليونانيين والأوكران.