“قبطي من مواليد 1889. نال الشهادة الابتدائية وعمره 11 سنة. وهي سن مبكرة للغاية، التحق بعدها بالكلية الأمريكية بأسيوط ثم استكمل تعليمه في أكسفورد بين عامي 1905 و1908 حيث نال إجازته في القانون ثم حصل عام 1912 على درجة الدكتوراه الفرنسية في القانون وعاد إلى مصر”.

كانت تلك الكلمات هي مُفتَتَح الملف رقم 27 الذي خُصِصَ من قِبَل السفارة البريطانية في القاهرة لسكرتير حزب الوفد “مكرم عبيد” باشا، ضمن مجموعة من الملفات السرية للزعماء المصريين كما جاء بالصفحة رقم 34 بكتاب “الوفد والكتاب الأسود” للمؤرخ العبقري المرحوم الدكتور “يونان لبيب رزق”، الصادر عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام، طبعة 1978 والذي كان أستاذنا الكبير البروفيسور “حلمي شعراوي” -أطال الله في عمره ومتعه بموفور الصحة- قد نَفَحني إياه هديةً من مكتبته النادرة مُزَيَّنًا بتوقيعه الكريم. كان الدكتور “يونان” قد اعتمد في جزء كبير من دراسته بهذا الكتاب/الوثيقة -ضمن مصادر أخرى لا تقل أهمية- على ما نُشر بوثائق السفارة البريطانية لتحليل ما حدث بين الصديقين منذ نحو ثمانين عامًا حين أصدر “مكرم عبيد” باشا كتابه الأشهَر: “الكتاب الأسود”.

وكان الدكتور “يونان” قد أشار في ملاحظة شديدة الذكاء إلى أن تاريخ مصر المعاصر لم يشهد أزمات سياسية بسبب صدور كتابٍ سوى مرتين فقط، حيث قارَبَ الدكتور “يونان” بين كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للمرحوم الشيخ علي عبد الرازق و”الكتاب الأسود” للمرحوم مكرم عبيد باشا من زاوية تأثير كل من هذين الكتابين في الساحة السياسية وإن اختلفا في أهدافهما، فقد صدر الأول لتأكيد أن نظام الخلافة ليس واحدًا من الأصول الإسلامية وهو أمر كان ضد توجهات الملك فؤاد، بينما صدر الثاني لفضح وإسقاط الوزارة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس باشا وهو أمر صادف هوى لدى الملك فاروق فاستخدمه في واحدةٍ من ممارساته التاريخية البائسة ضد الحياة السياسية عمومًا وضد حزب الوفد على وجه الخصوص.

(خروج محدود عن النص: كتب المرحوم الأستاذ “أحمد بهاء الدين” في كتابه “فاروق ملكًا” الذي نُشر في أغسطس 1952 بتقديم المرحوم الأستاذ “إحسان عبد القدوس” ناصحًا المؤرخين -عند عرض موجبات عزل الملك فاروق- بتجاوز دردشاتِ العَامَة حول مغامرات الملك ونزواته ومقامراته، والتركيز بالأساس على أن السبب الرئيسي لعزله كان هو الفساد السياسي من زاوية إهداره لاستقلال الوطن، وعبثه بحقوق الشعب وإرادته وحريته، وتلاعبه بالحكومات التي كان يأتِ بها ثم يقيلها وقتما يشاء و/أو حين يطلب البريطانيون منه ذلك).

نعود للمرحوم الدكتور “يونان” الذي يروى في الصفحة 85 من كتابه، أن “الكتاب الأسود” الذي يقع في 320 صفحة، كان يضم سبعة أبواب، أولها عن “استغلال النفوذ للحصول على الثراء عن طريق التنظر على الأوقاف”، وثانيها عن “الانتفاع الشخصي من أملاك الدولة ضد المصلحة العامة والقانون”، وثالثها عن “التستر على بعض التهم المنسوبة لبعض الأصهار والأنصار”، ورابعها عن “رخص التصديق وصفقات التموين”، وخامسها عن “تفشي الوساطة وتفشي الرشوة معها في الصفقات التجارية ووظائف الحكومة وغيرها وإلغاء الأحكام العسكرية وتعيين العُمَد وفصلهم وقبول الطلبة في المدارس…إلخ”، وسادسها بعنوان “الاستغلال الصغير”، أما الباب السابع والأخير فقد كان عن “فضائح المحسوبيات والاستثناءات”.

آلت معركة “الكتاب الأسود” بعد شَدٍ وجَذبٍ من كل الأطراف، إلى مجلس النواب حين تمت مناقشة ما جاء به للتصويت على طرح الثقة بالوزارة، وكانت النتيجة هي تجديد الثقة بأغلبية 175 صوتًا وامتناع 10 هم الوزراء النواب، أما المعارضة فلم تحضر الجلسة بالأساس. “يستنكر المجلس استنكارًا شديدًا المسلك الشائن الذي سلكه مكرم عبيد باشا، سواء أكان ذلك في طريقة تسويده كتابه وتلفيق ما فيه، أم في طريقة نشره بدل تقديم استجواب مهذب إلى البرلمان الذي هو الجهة المختصة ما دام الأمر بين نائب والوزارة، وما دام النظام البرلماني قائمًا في البلاد، وما دامت المسئولية الوزارية الصحيحة قائمة على أساس من الدستور.

ويعتبر المجلس أن مكرم عبيد باشا أسوأ مثل للنائب منذ أن قامت في البلاد الحياة النيابية سنة 1924، ذلك لأن الواجب الأول على كل نائب ألا يتحرك في الشئون العامة إلا والصدق المطلق رائده، وخدمة المصلحة العامة وحدها قائده، فلا يستسلم للأحقاد تضله، ولا لشهوة الانتقام تسيره، فيعتدى طائشًا على الأبرياء، ويلوث عابثًا الأمناء، شِفاءً للغل والحزازات الشخصية على حساب سمعة البلاد ومصلحتها العليا”. كانت تلك هي الفقرة الأولى من نص قرار تجديد الثقة حسبما يروى الدكتور يونان في الصفحة 128 من كتابه. لم تقف المعركة عند هذا الحد، إذ امتدت لاستصدار قرار من مجلس النواب بفصل مكرم عبيد باشا بأغلبية 208 صوتًا ضد 17 صوتًا ولتنتهي باعتقال المجاهد الكبير بأمرٍ من رفيقِ كِفاحِهِ خَليفةِ سَعد في مايو 1944.

عَمَدتُ إلى الاطلاع على “الكتاب الأسود” إلى جوار قراءةٍ أخرى بغرض محاولة الوقوف على الحقيقة لكتابات متميزة للمرحوم الدكتور “عبد العظيم رمضان” (تطور الحركة الوطنية في مصر 1937-1948)، وكتابات أخرى للمرحوم الدكتور “محمد حسين هيكل” (مذكرات في السياسة المصرية)، لأجد نفسي مُتفقًا مع تقييم الدكتور “يونان” الذي ذكره في الصفحة 29 من كتابه: “ويصور البعض أزمة الكتاب الأسود على اعتبار أنها قصة هذه الخصومة فحسب، ورغم التسليم بأهمية ما جرى بين الصديقين القديمين وتأثيره على مجريات الأزمة، فإن المنهج الموضوعي يأبى التسليم بمثل هذا التصوير.

فالتاريخ لا تصنعه مجرد النوازع أو العلاقات الشخصية وإن كانت مثل هذه النوازع أو تلك العلاقات قد تؤثر فيه أشد التأثير”، ليعود فيؤكد في الصفحة 45 أن ما أفسد العلاقة بين الصديقين لم يكن فقط راجعًا لما ألقاه مكرم عبيد باشا من مسئولية الفساد على أصهار مصطفى النحاس باشا، ولكنه حدث أيضًا بدفعٍ من القوى الاجتماعية الجديدة التي دخلت حزب الوفد آنذاك وكانت معنية كل العناية بالتخلص من مكرم عبيد باشا، بالإضافة إلى تحريض من القصر لإشعال الخصومة بينهما لأسبابٍ يطول الحديث بتفاصيلها وإن لم تخرج في عنوانها العريض عن تلاعب الملك فاروق بالحياة السياسية بصفة عامة وحقده على حزب الوفد بصفة خاصة. تمر الأيام ليلتقي الصديقان في جنازة المرحوم صبري أبو علم باشا في العام 1947 فيتعانقان ويبكي كل منهما تاريخًا عريقًا من الود والنضال.

يصادف يوم غدٍ تاريخ الميلاد الثالث والثلاثين بعد المائة لصاحب “الكتاب الأسود”، وواحد من أهم وزراء المالية في تاريخ مصر الحديث من وجهة نظري المتواضعة، القانوني الوطني المُقتَدر والخطيب المفوه صاحب الفضل في إنشاء النقابات العمالية بمصر والذي وضع نظام الحد الأدنى للأجور والتأمين الاجتماعي وكان أول من طَبَقَ الضريبة التصاعدية على الدخل، فعلى روحه السلام وجزيل الدعوات بالرحمة والخلود.