نعم كان خطاب الرئيس عبد الفتاح السيسي في افتتاح المؤتمر الاقتصادي يوم الأحد الماضي دفاعيا، وربما وصفه البعض كما حدث على الشبكات الاجتماعية بأنه تبريري، ولكن الخطاب إجمالا لم يتجاوز الحقيقة -وإن كانت مرة -حين اعتبر أن أزمتنا الاقتصادية الحادة الراهنة هي امتداد للاختلال الهيكلي المزمن في بنية الاقتصاد المصري، ذلك الاختلال الذي عمقته انفجارات يناير 2011 ويونيو 2013، بحسب رؤية الرئيس، لكنه يرى أن هذا الخلل بدأ منذ خمسين عاما تقريبا، وأن أساسه هو إحجام الحكومات السابقة عن تعاطي الدواء المر، أي عن اتخاذ وتطبيق الإصلاحات الجوهرية الصارمة، وذلك لنقص الشجاعة، أو لنقص الشعبية.

ومع أن هذا التشخيص صحيح في مجمله، إلا أن أخطاء الحكومات السابقة لا تقتصر على الإحجام عن الإصلاح في وقته، كذلك فليس عمر الخلل في بنيتنا الاقتصادية هو فقط نصف القرن السابق على تولي الرئيس السيسي منصب الرئاسة، إذ من الواضح من ناحية أن الرئيس يركز رؤيته علي جمهورية يوليو 1952، بصفته امتدادا لها، ومن الناحية الأخرى فإنه يركز على الأعراض المالية لذلك الخلل، حيث تعجز موارد الدولة من النقد الأجنبي عن تلبية احتياجات المجتمع ككل، كما يظهر في قلة المعروض من السلع بأنواعها الاستهلاكية والوسيطة، ومن ثم في غلاء الأسعار، وكما يظهر في العجز الفادح في خدمات التعليم والصحة. إلخ.

من منظور آخر هو التطبيق المصري لنظرية المؤرخ البريطاني المتضلع في تاريخ الشرق الأوسط بيتر مانسفيلد، وهو رجل مشهور بنزاهته الفكرية وبعدم الاستعلاء على الشرقيين، فإن الخطيئة الأصلية هي توالي الانقطاعات في تطور مصر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بما يؤدي إليه من إهدار وتبديد كل تراكم سبق أن أنجزته الدولة أو المجتمع أو كلاهما، في الثروة والمعرفة والمؤسسية. وذلك بفعل عوامل داخلية، أو خارجية، أو بالجمع بين هذين النوعين من العوامل.

إذا شئنا نستطيع البدء من تبديد عباس الأول لمعظم إيجابيات تجربة جده محمد علي باشا، أو من فترة النهب الاستعماري منذ انفتاح خلفه سعيد باشا “السداح مداح” على الرأسمالية العالمية حتى مجيء الاحتلال البريطاني، كما وثقها الكتاب العمدة في تشريح تلك الحقبة، أي كتاب بنوك وباشوات للمؤرخ الأمريكي ديفيدس لاندز، والذي ترجمه للعربية المفكر الاشتراكي الكبير الراحل (وأستاذ الرياضيات ) دكتور عبد العظيم أنيس، كذلك يمكن البدء من حقبة لورد كرومر، الذي برغم ضبطه لمالية البلاد، وابعاد الأسرة الخديوية عن العبث بهذه المالية، وتحسيناته الجوهرية لشبكة الري للتوسع في زراعة القطن والقمح، فإنه كان شديد العداء لأي تطور صناعي في الاقتصاد المصري، بحيث تأخر ظهور بواكير الرأسمالية الصناعية عندنا إلى ما بعد قيام ثورة 1919، وذلك في إطار اكتشاف وترسيخ الهوية الوطنية المصرية، وكانت قيادة النمو الصناعي معقودة -كما هو معروف – لبنك مصر، وعدد لا يستهان به من الرواد، من عينة أحمد عبود باشا، وغيره من مؤسسي اتحاد الصناعات، الذي لعب دورا مهما في دعم وحماية الصناعات الناشئة.

غير أننا نستحسن البدء في استقصاء خطيئة تبديد التراكم في الجانب الاقتصادي من قيام جمهورية يوليو، بما أنها الأقرب زمنيا، وبما أن الرئيس السيسي يركز عليها، وبما أننا نجني الآن حصادها المر، ففي الحقبة الناصرية شهدت عملية التنمية الاقتصادية مزيجا عجيبا من احداث التراكم الجديد في الثروة، ومن تبديد هذا التراكم ومسابقه في الوقت نفسه، وتمثل التراكم في نمو الانتاج الصناعي تنفيذا للخطة الخمسية الأولي من خلال القطاع العام المتنامي بسرعة، كما تمثل في حل مشكلة الري الصيفي وري الحياض والطفرة في إنتاج الكهرباء بمشروع السد العالي، لكن التبديد تمثل في تأميم الرأسمالية الوطنية، التي كانت واعدة، والتي طورت كنزا من الخبرات الإدارية والفنية والتكنولوجية. وشيئا من تراكم رأس المال، بمعايير ذلك الوقت، هذا التأميم لم يكن ضروريا، ولا مستحسنا من الناحية الاقتصادية، ولا من الناحية الوطنية، حيث لم يكن هناك ما يمنع من عمل القطاعين العام والخاص جنبا إلى جنب وفق قواعد المنافسة العادلة، ووفقا لقانون عمل عادل موحد، ولكن التأميم كان اختيارا سياسيا أمنيًا لا غير، لتمكين السلطوية من الانفراد بالحكم، دون منازع أو مشارك من قوي المجتمع، وبالطبع فلا يسري هذا الرأي على تأميم أو تمصير المصالح الاقتصادية الأجنبية، خاصة الاحتكارية منها، كما تمثل التبديد في التكاليف الباهظة لتدخلنا العسكري في اليمن، وتكاليف الهزيمة في 1967، وإعادة بناء الجيش، وحرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر، التي لا يمكن قياسها على ما سبقها من حروب، فقد كانت ضرورة للخلاص الوطني والنفسي للوطن ومواطنيه من عار الهزيمة.

ومع أن الانفتاح على التطورات التكنولوجية والاقتصادية وكذلك علي الثورة الالكترونية والمالية في العالم بعد حرب أكتوبر، وكذلك التوقف عن الاعتماد علي التعاون الاقتصادي مع الكتلة السوفيتي بصفة أساسية كانا ضرورة، من حيث المبدأ، فإن ماجري كان في محصلته النهائية تبديدا كاملا، وكما قلنا إنه لم تكن هناك ضرورة اقتصادية لتصفية الرأسمالية الوطنية من أجل انشاء القطاع العام في الحقبة الناصرية، فإنه لم تكن هناك أيضا ضرورة اقتصادية لمحاصرة القطاع العام وتشويهه تمهيدا لتدميره في الحقبة الساداتية.

ومرة أخرى: ما الذي كان يمنع من نمو القطاع الخاص مع إبقاء القطاع العام، وإصلاح ما يحتاج إلى إصلاح من شركاته؟ وهنا فليس صحيحا على الاطلاق بأنه كان كله خاسرا، ولا رجاء منه، ففضلا عن أن هذا القطاع العام هو الذي تحمل بنجاح عبء اقتصاد الحرب حتى 1973، فإن كثيرا من شركاته كانت قادرة علي التصدير بكفاءة، ومنها شركات المحلة وكفر الدوار علي سبيل المثال، لكن إهمال التطوير والإحلال والتبديل، ومنافسة الواردات ذات الجودة المنخفضة لمصلحة الفاسدين.. كل ذلك كان تبديدا إجراميا، وكذلك قطاع الصناعات الدوائية، والصناعات الهندسية، ولدينا مثالان صارخان (تجسدا فيما بعد) في شركة المراجل البخارية، وحلوان للحديد الصلب، ثم إن الرجل الذي تدفقت عليه المعونات الخليجية بعد حرب أكتوبر، والأمريكية والأوروبية قبل وبعد اتفاقية السلام مع اسرائيل، هو نفسه الذي انفجرت في وجهه مظاهرات الخبز في يناير 1977، عندما لم يجد حلا لعجز الميزانية (رغم تلك التدفقات المالية) إلا رفع الأسعار على غذاء الفقراء، بعد أن ضاعت تلك التدفقات في تمويل كل شيء إلا التنمية الجادة والصناعة المحلية.

قلنا سابقا إنه لم يكن هناك سبب اقتصادي لتدمير القطاع العام بدءا من عصر السادات، ونضيف أن السبب كان أيضا سياسيا وهو قلق السادات من القواعد العمالية الضخمة في تلك القلاع الصناعية، في سياق عدائه المستحكم للفكر اليساري، ولا أستبعد أن يكون هذا التصور نصيحة أمريكية مغرضة للرجل. لكن المحصلة أنه لا أقام قطاعا خاصا صناعيا، ولا أبقى القطاع العام، فكانت هذه دورة أخرى من دورات تبديد التراكم.

أما حسني مبارك وبعد محاولات قصيرة النفس للإصلاح كالمؤتمر الاقتصادي في بداية حكمه، وكبرنامج تطوير الصناعة بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، فقد رضي من الغنيمة بالإياب، خصوصا بعد أن أجبر عام 1988 على الذهاب إلى نادي باريس للدائنين والمدينين المعسرين، بسبب رفض الكويت تزويده بمعونة جديدة (كاش) لشراء القمح، وذلك احتجاجا على سوء استخدام الحكومة المصرية للأموال، وعندما جاءته هدية السماء بغزو صدام للكويت ليشارك في تحريرها ليكافئه الأمريكيون بتخفيض هائل في ديون مصر، فإذا برأسمالية المحاسيب، وغيرها من تطبيقات الفساد، تلتهم كل ذلك وتضطره إلى إطلاق برنامج خصخصة الشركات بلا قيد ولا شرط فتتحول هذه الشركات من القطاع الصناعي إلى القطاع العقاري، ثم لا يستخدم عائدها في تنمية حقيقية، في نموذج بالغ الشذوذ للخصخصة في كل العالم، ناهينا عن النهب المنظم للقطاع المصرفي، حتي كادت بنوك بعينها تفلس، لولا ضخ أموال دافعي الضرائب في الخزانة العامة، إلخ، ومن ثم توالت عمليات تعويم سعر صرف الجنيه، وانحصر النمو في قطاع العقارات، مع فتح باب التملك والاستثمار العقاري لرؤوس الأموال الخليجية، والتي بدورها دارت في عجلة التبديد، ليضطر وزيران سابقان للصناعة في حكومات مبارك للقول إن الدولة تكره الصناعة، هذان الوزيران هما المهندس محمد عبد الوهاب، والدكتور إبراهيم فوزي، وقد صدر هذ القول منهما في مؤتمر بجامعة القاهرة نظمه بنك مصر وائتلاف المصريين الأمريكيين وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في بداية حكم الرئيس السيسي، بعنوان: “استلهام تجربة طلعت حرب في تصنيع مصر”، وكانت الدكتورة هالة السعيد وزيرة التخطيط الحالية رئيسا مناوبا لذلك المؤتمر.

ليس إلا تبديدا أيضا. تلك المشروعات باهظة التكلفة، التي شرع فيها دون دراسة أو مراجعة، ولنتذكر توشكي، وحديد أسوان، وفوسفات أبو طرطور، ومدينة الإنتاج الإعلامي، إلخ.

تحت حكم الرئيس السيسي وخصوصا في السنوات الأولى انهمرت التدفقات المالية، إما معونات وإما قروض، حتى بلغت المديونية حدا مخيفا باعتراف رئيس الوزراء، لكن تكررت الدورة، فباستثناء الاستثمارات في الطاقة الكهربائية، وشبكة الطرق الرئيسية لم تكن أغلب المشروعات باهظة التكلفة ضرورية أو عاجلة، فتأتي أزمات وباء الإنفلونزا التاجية (الكورونا) والحرب الروسية الأوكرانية لتجد اقتصادنا مثل عليل تصيبه أمراض جديدة، لا يمكن علاجها إلا في الخارج، وذلك في ظل تركيز على الأرض بمعناها العقاري لخلق الثروة، وفي ظل منافسة غير عادلة مع القطاع الخاص الصناعي قليل الحيلة.

لكن تبديد التراكم لا يقتصر -كما سبق القول- على الاقتصاد والثروة الوطنية، إذ إنه شمل كل جنبات حياة وتطور مصر مجتمعا ودولة، فمن العصف بالمجتمع المدني، والحياة والنخب والكوادر السياسية -رغم عيوبها- في الفترة الناصرية، إلى العصف بالمؤسسية والحياة الثقافية، والبحث العلمي والعلوم النظرية الأساسية في الجامعة، وظهور العائلية السياسية في عهد السادات، إلى تجميد السياسة والثقافة في عهد مبارك، مضافا إليهما إهمال وإهدار خبرات عريقة في الديبلوماسية المصرية، وإسناد مهامها الحساسة لآخرين، بل وإهمال وإهدار خبرات وكوادر مدرسة الري والزراعة المصرية ذات السمعة الفريدة بحكم أنها تروي وتزرع من مصدر مائي واحد لا شريك له هو نهر النيل، إلى حد شكا فيه وزير سابق للري من عدم القدرة على تطبيق نظام المناوبات، بسبب سرقة بوابات القناطر الفرعية دون قدرة على تعويضها، ودون قدرة على حراستها، لتجف نهايات الترع، وتبور أحواض زراعية بأكملها في المناطق الطرفية، وبصفة عامة فقد تدنت كفاءة الجهاز الإداري للدولة في كل المجالات.

وأما النظام القضائي الحديث الذي كانت مصر سباقة به في كل العالم خارج أوروبا وأمريكا تقريبا فقد لحقه هو الآخر ما لحقه منذ ظهور المحاكم الاستثنائية إلى آخر ما نعرفه جميعا، ونتورع عن تفصيله، احتراما للقانون، وصونا لهيبة القضاء.

مثال آخر وليس أخيرًا على هدر الإمكانية بلغة تقرير مشهور للأمم المتحدة حول منطقتنا، هو تفريطنا المزاجي الشخصي الصرف حسب الرئيس أو الوزير في الرصيد المصري الضخم لدى دول قارتنا الإفريقية، وسائر دول العالم الثالث اعتقادا من الفاعلين أنه لا يهم في هذا العالم سوى أمريكا وأوروبا والخليج ثم الصين، أي الذين يستطيعون منحنا أو إقراضنا الدولارات، وهو ما نلعق الآن جراحنا منه في أزمة السد الإثيوبي، الذي لا تتعاطف مع حق مصر فيه دولة إفريقية واحدة!

***

ما هو إذن القاسم المشترك الأعظم في كل تلك الدورات من تبديد التراكم في مجمل تطورنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي منذ عباس الأول -كما كان يمكن أن نبدأ الإثبات- أو طوال جمهورية يوليو كما اخترنا أن نبدأ؟

إنه بكل صراحة وكل أحقية الاستبداد السياسي، واحتكار القرار دون مشاركة أو مراجعة أو تصحيح أو استدراك في أطر مؤسسية شرعية وذات صلاحية مقننة ومعتبرة.