إذا كان الواجب يفرض على الرئيس السيسي تقديم كشف حساب مفصل عما قدمه خلال فترتي رئاسته وطرح برنامج انتخابي يتضمن حلولا لأزمات البلاد وعلاجا لأمراضها التي باتت مستعصية لو قرر الترشح لفترة رئاسية ثالثة عام 2024 فمن الأوجب على المعارضة المدنية أن تتوافق ومن الآن على تسمية مرشح رئاسي ينافس السيسي في تلك المعركة. وأن تبدأ في إعداد برنامج انتخابي يتضمن سياسات بديلة للسياسات القائمة.
في مطلع عام 2016 ناقشت أحزاب التيار المدني الديمقراطي إطلاق مبادرة “لنصنع البديل”. والتي تهدف إلى “تقديم سياسات وحلول بديلة لمشكلات الاستثمار والبطالة والزارعة والخدمات علاوة على مكافحة الفساد وتطبيق العدالة الاجتماعية”.
تشكلت لجان شارك فيها خبراء من مختلف المجالات لصياغة بنود المبادرة التي أراد أصحابها إعادة الاعتبار إلى ثورة 25 يناير وأهدافها. و”تقديم بدائل وحلول قابلة للتطبيق لإنقاذ الدولة المصرية من أي مخاطر تحيط بها”. على ما صرح به حينها حمدين صباحي مرشح الرئاسة السابق والقيادي بالتيار المدني.
“صباحي” أشار إلى أن التفكير في مبادرة “لنصنع البديل” انطلق من محاولة البحث عن “تأدية فريضة التنظيم الغائبة عن قوى الثورة”. ولفت في تصريحاته التي أدلى بها على هامش أحد اجتماعات أحزاب التيار الديمقراطي في ذلك التوقيت إلى أن قضية تياره هي “كيف تُحكم مصر وليس من يحكمها”. خاصة أن السلطة الحالية ما هي -من وجهة نظره- سوى امتداد للسلطة السابقة في جميع المجالات والسياسات التي قامت ضدها ثورتا 25 يناير و30 يونيو.
ما إن بدأ الحديث عن المبادرة حتى فُتح على أصحابها النار من الأطراف التي تستهدف تشويه أي بديل يطرح نفسه كخِيار آخر أمام الناخبين. عملت تلك الأطراف المدفوعة من أجنحة بالسلطة على تسفيه المحاولة التي كانت تستهدف “ترسيخ قيم التعددية والمشاركة وتداول السلطة”.
ونتيجة لما نالها من قصف وتحت ضغوط تعرض لها أعضاء أحزاب التيار المدني الديمقراطي والخلافات التي دبت بينهم وُئدت المبادرة قبل أن يتم إطلاقها رسميا.
خلال العامين اللذين سبقا انتخابات الرئاسة 2018 تشتتت جهود المعارضة المدنية وتحولت أحزابها إلى رد فعل على قرارات وتوجهات السلطة. لم تخطط أو تستعد للمعركة بالتوافق على مرشح يمكن تسويقه جماهيريا ولم تضع برنامجا تستعرض فيه رؤيتها وتصوراتها لإدارة الدولة وحل أزماتها بطريقة تخالف سياسات وتوجهات النظام الذي تعارضه.
لا ينبغي أن يكون التضييق الذي تمارسه السلطة على أحزاب التيار المدني حجة لانكفاء تلك الأحزاب على نفسها داخل مقراتها وابتعادها عن الشارع وأزماته. يعلم الجميع أن ثمن التفاعل مع الناس ومشكلاتهم وهمومهم باهظ. وأن معظم الأحزاب الحقيقية دفعت الثمن من حرية قادتها وكوادرها. لكنها ضرورات العمل السياسي في دول العالم الثالث والشعب هو المرجع وسيأتي يوم يُصدر فيه حكمه.
حلت انتخابات 2018 دون أن تكون المعارضة متوافقة على قرار بالمشاركة أو الانسحاب ودون وجود خطة وبرنامج. كشفت بعض القيادات السياسية عن نيتها خوض المعركة لكن بشكل فردي. وعندما أصرت السلطة على هندسة الانتخابات وإخلاء الملعب على النحو الذي جرى أعلن هؤلاء انسحابهم دون أن يكون لهذا الإعلان أثر.
وصلت جماعة الإخوان إلى السلطة في 2012 كنتيجة طبيعية لحالة الفراغ التي تسببت فيها سياسات وممارسات الرئيس الراحل حسني مبارك وأجهزته. “الإخوان كان التيار المرجح فوزه في أي انتخابات بعد ثورة يناير”. يقول الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما. مرجعا ذلك لعدم وجود أرضية في الشارع المصري لباقي شركاء الثورة من أكاديميين وشباب ونشطاء المنظمات والأحزاب العلمانية.
وأضاف أوباما في كتابه “أرض موعودة” الذي صدر قبل عام تقريبا متحدثا عما جرى في مصر من أحداث عام 2011 وما أعقبها أثناء وجوده في “البيت الأبيض”: “بقدر ما كان هؤلاء الشباب مقنعين ومثيرين للإعجاب كان عليّ أن أذكّر نفسى بأنهم مع الأكاديميين ونشطاء حقوق الإنسان وأحزاب المعارضة العلمانية والنقابيين وغيرهم في الخطوط الأمامية للاحتجاجات يمثلون جزءًا بسيطًا من المصريين. فإذا تنحى مبارك وخلّف فراغا مفاجئا في السلطة فلن يكون هؤلاء الأقرب لملء هذا الفراغ”.
وحمل أوباما الرئيس المصري الراحل مبارك مسئولية وصول الإخوان إلى السلطة. في ظل غياب قوى مدنية فاعلة ومؤسسات قوية مستقلة تدعم أي عملية انتقال ديمقراطي للسلطة. “كانت إحدى مآسي عهد مبارك الديكتاتوري أنه أعاق تطور المؤسسات والتقاليد التي قد تساعد مصر على الانتقال إلى الديمقراطية بشكل فعال. مثل الأحزاب السياسية القوية والقضاء المستقل والإعلام الحر. وتوفير رقابة محايدة للانتخابات. وجمعيات مدنية ذات قاعدة عريضة وخدمة مدنية فعالة واحترام حقوق الأقليات”.
لخص الرئيس الأمريكي الأسبق الأزمة التي واجهت الثورة المصرية في عبارته السابقة. فجريمة مبارك الكبرى والتي لم يحاكم عليها كما لم يحاكم عليها أسلافه هي تجريف المجال العام وشل الحياة السياسية وتخريب مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب لنقابات لمنظمات وجمعيات أهلية. إما بملاحقة كوادرها أو تدجينها وإدخالها حظيرة السلطة أو وضعها تحت الحراسة. ما تسبب في تهميش المعارضة المدنية وتراجع دورها وهو ما ساعد الجماعة الدينية في القفز على السلطة لملء الفراغ الذي أعقب تخلي مبارك عن الحكم.
بعد تقلده السلطة خلفا لسلفه الذي تم اغتياله في ذكرى نصر أكتوبر. تعهد الرئيس الراحل حسني مبارك بالتصدي للفوضى وأي انتهاك للقانون. وشدد على أنه “لن يحكم مصر مدى الحياة”. وأنه سيكتفي “بالتجديد لمدة رئاسية واحدة”. مؤكدا تمسكه بالديمقراطية والتعددية واحترام إرادة مواطنيه كخيار لا بديل له في سنوات حكمه.
مبارك بدا في هذا الخطاب أنه يحاول خطب ود الجميع. أكد لرجال السادات وقادة الحزب والوطني أنهم باقون في مواقعهم. “لا أرى داعيا إطلاقا لانتخابات جديدة”. وردا على المطالبين بالتغيير بقوله: “لا أطلب من الأحزاب السياسية السكوت. ولكني أدعو إلى تفهم مصالح مصر العليا. أنشد الاستقرار ولكن التغيير سيتم كلما اقتضته الظروف وبعد دراسته جيدا”.
ورغم ذلك استمر مبارك 30 عاما في حكم مصر بتزوير إرادة الشعب المصري وتهميش دوره وإخراجه من معادلة السلطة وقمع المعارضين ووأد أي محاولة لخلق بدائل لنظام حكمه.
رغم تمكن أجهزته من تحجيم دور الجماعات الأصولية المسلحة التي انتشرت منذ نهاية السبعينيات فإنها سمحت بتمدد جماعة الإخوان التي استغلت كل فراغ ولعبت على كل حبال السياسة حتى بلغت هدفها بحكم مصر نتيجة لحالة التجريف السياسي التي فرضتها أجهزة مبارك على مصر خلال تلك الحقبة.
نفذت حكوماته توسعات عمرانية ومدن جديدة وشبكات طرق و”كباري” وأنفاق غطت مصر من أقصاها إلى أدناها. وارتفعت في عهده معدلات النمو وزاد الناتج المحلي. لكنه فشل في حصار الفساد بل ساعد في انتشاره بحماية رجاله في السلطة والعائلة والحزب والإعلام.
استمر مبارك في السلطة 3 عقود بقوة القمع والخوف وبمحاولات فاشلة لتزييف وعي الناس والتلاعب بعقولهم من خلال وسائل الإعلام التي دأبت طوال سنوات حكمه على تصدير “إنجازته غير المسبوقة” للناس. ورفعه إلى مراتب الرسل والأنبياء المنزهين عن الخطأ. وعندما أزفت الآزفة انهار كل ذلك وسقط في يناير 2011 تاركا لنا الإخوان. الجماعة الأكثر تنظيما والتي تمكنت خلال عقود حكمه الثلاثة من التمدد والتغلل في مفاصل الدولة فوثبوا على الثورة والدولة في لحظة غياب أي لبديل.
إيجاد البديل الجاهز لملء أي فراغ محتمل أو المنافسة في الاستحقاق الرئاسي المقبل وبغض النظر عن الممارسات التي يمكن أن نراها وبغض النظر عن النتائج هو فرض عين على المعارضة المدنية.
في المقابل على السلطة التي لا تتوقف عن تذكيرنا بما جرى في يناير وما تلاها من خسائر تصدرها لنا في كل خطاب وتحذرنا من عودة الإخوان في كل مناسبة أن تعلم أن الإصرار على تجريف الحياة السياسية خطيئة ستدفع ثمنها الأجيال الجديدة. فكل فراغ ينشأ لا بد له من كتلة تملؤه.