لا توجد عبارة تُجسِّد أحوالنا اليوم مثل هذه العبارة الشعبية البليغة، ورغم أنه لا أحد يعرف ما “كفّ العفريت”، ولا كيف تتحرك، وما علاقتنا نحن البشر بهذه الـ”كفّ” إلا أنها تكتسب في الخيال الشعبي دلالة ثابتة؛ فهي علامة على القلق والتوتر والاضطراب والتغير نحو الأسوأ.. ونحن اليوم نعيش على هذه “الكف”؛ فلا أحد لديه يقين في الغد، ولا أحد يمكنه أن يَعِدكَ بأي شيء؛ فالناس جميعًا تعيش يومًا بيوم، وترتاب في الغد، وقد لا تنتظر منه ما يسرها، وكأننا جميعًا تجسيد حيّ لهذه العبارة: الحياة على “كفّ عفريت”..!

لن أحدثك عن الأزمة الاقتصادية التي تطحننا رَحَاها؛ فأنت أدرى بها مني، وربما يأمل بعضنا في يوم تتحسن فيه الأوضاع، حتى لو كان هذا اليوم بعيدًا غير منظور، ولا يمكنني إلا أن أكون من هذا الفريق الحالم أو الذي يتمنى؛ لا يمكننا إلا أن نتمسك بالأمل، فما أسهل اليأس، وما أيسره.. ولكننا، فيما يقول محمود درويش:

“لم نعد قادرين على اليأس أكثرَ مما يَئسنا”

ورغم ذلك الأمل، إلا أننا لا يمكننا الإفلات من آثار الأزمة الاقتصادية التي تطلُّ علينا في كل فعل أو نشاط نقوم به، حتى لتوشك بذاتها أن تكون هي “كفّ العفريت” التي تتقلب بنا ذات اليمين وذات الشمال..!

لن أحدثكَ عن الأزمة الاقتصادية بشكل مباشر، ولكني أودّ الحديث عن مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تستقبل كل يوم عشرات الأفكار والتحديثات المتتابعة لمختلف التقنيات والمخترعات التي تحظى بالتداول السريع بين مختلف الفئات، وعلى رأسها – بالتأكيد- كل تكنولوجيا التواصل التي تنتشر بين الشباب وصغار السن بشكل خاص.. فمجتمعاتنا– بكل أسفٍ- تستقبل هذه التكنولوجيا ولا تُرْسلها، تتأثر ولا تؤثر، تتحرك دائمًا من موقع ردّ الفعل ولا تبادر بالفعل، وكثيرًا ما تعجز حتى عن ردِّ الفعل فلا يبقى أمامها غير التأقلم والتعايش مع الجديد الوافد مهما كان سخطها عليه أو غضبها منه.

في كل يوم هناك جديد يطل علينا من الشاطئ الآخر، عبر البحر أو المحيط، وكل جديد يثير معه أفكارًا وقيمًا يصحبها من موطنه وثقافته إلى الثقافات الأخرى، كل جديد يفرض علينا إشكالات جديدة، فليس صحيحًا أن التكنولوجيا المعاصرة مجرد أدوات محايدة، وإنما هي قيم وأفكار وفلسفات تهز منظومة القيم والأفكار الخاصة بمجتمعاتنا، وقد لا نرى بأسًا في النقاش حول ما نراه وما نؤمن به، ولا بأس من التغيير إن كان ضرورة أو يحقق مصلحة ما، ولكن المعضلة أن التغيير يحدث بالرغم منا، ولا ينتظر منا نقاشًا أو تفكيرًا، إنه يفرض نفسه علينا فرضًا طبقًا لدرجة التفاعل معه، ويضيف إلى إشكالاتنا إشكالات جديدة لم تكن في الحسبان… كل هذا جعلنا مجتمعات تعيش حالة من التيه والتخبط، بلا بوصلة ولا رؤية، نتصارع حول كل شيء: التراث والوافد، والصواب والخطأ، والأهم والأقل أهمية، والفرد والجماعة، والاستبداد والديمقراطية… إلخ

لقد فرضت علينا هذه الموجة العاتية من العولمة أفكارها وقيمها كما لم يحدث من قبل في موجات العولمة السابقة.

الأسرة على كفّ عفريت..!

دعنا نضرب مثلا بهذه المؤسسة الأكثر حساسية وتأثيرًا في مجتمعاتنا، ولك أن تقول: إنها المؤسسة الأكثر تمثيلا لنا: اعتقادًا وقيمًا وأصولا اجتماعية، لقد باتت هذه المؤسسة موضوعًا لانتقادات مختلفة، وأصبح التفكير في البحث عن بدائل أو أشكال موازية لها مطروحًا في الفضاء الاجتماعي، ولك أن تعزو جانبًا من هذه الانتقادات إلى “الشدة الاقتصادية” غير المسبوقة، ولكنك لا ينبغي أن تغفل أثر التواصل اليومي شديد التقارب بين شبابنا وغيرهم في المجتمعات المختلفة، كما أنه لا ينبغي أن تغفل أثر الحضور القوي للنزعة الفردية، والرغبة في التملك ونموذج الفرد العصري الذي يقيم نجاحة بقدرته على تحقيق مستوى من الرفاهية يستعصي غالبًا على الإنجاز… إلخ.

هناك أسباب عديدة جعلت مؤسسة الأسرة على “كف عفريت”، بل جعلت فكرة الزواج وهو الدافع الأول لبناء الأسرة وقيامها موضع تساؤل من قبل كثير من الشباب على الصفحات الخاصة والعامة على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن هنا طُرحت أفكار بعيدة كل البعد عن معتقداتنا وقيمنا، كـ”المساكنة” مثلا..!

وقد يعترض القارئ هنا بأننا إزاء حالات فردية، ومهما بلغت كثرتها فهي لا ترقى إلى مستوى الظاهرة؛ إذ لم يزل الجسد الاجتماعي العام رافضًا لها، ورغم ذلك فالحالة الفردية – مع الوسائط الحديثة- سريعًا ما تكبر وتنمو وتصبح ظاهرة.. وهذا يعني أن التفكير المستقبلي فيما هو قادم يحتاج إلى الجدية المطلوبة، وهنا نعود إلى الأسرة التقليدية لنتساءل عن أحوالها..!

التفكك الأسري

لنقل إن الأسرة اليوم – أتحدث عن الأسرة القائمة بالفعل– لا تتواصل بشكل طبيعي؛ فكل فرد فيها يقضي جانبًا طويلًا من وقته في كهف بروفايله، ويتواصل مع عالم واسع من الشخوص والأفكار الافتراضية شديدة التأثير في تصوراته ومواقفه.. لدينا أسرة تعيش تحت سقف واحد، ولكنها منفصلة عن بعضها؛ فالأبناء يكبرون بلا ذاكرة مشتركة، وبلا مشاعر حقيقية تجمع بينهم على نحو ما كنا نعرف سابقًا..!

يمكنك أن تطلق على هذا المستوى “التفكك الجزئي” الذي هو نتيجة مباشرة لتكنولوجيا وسائل التواصل، وذلك مقابل “التفكك الكلي” الذي تظهره أرقام الطلاق بين الزوجين؛ فطبقًا للبيان الأخير الصادر عن (الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء) فإن معدلات الطلاق قد زادت في مصر عام 2021 بنسبة تصل إلى (14.7%) عن العام الذي يسبقه 2020، وهي نسبة ليست شديدة الارتفاع فحسب، وإنما تجعلنا نتساءل عن شكل الأسرة في المستقبل والمجتمع نفسه، إذا استمرت هذه النسبة في الارتفاع على هذا النحو، وكل المؤشرات المحلية والعالمية تشير إلى أنها مرشحة لذلك.

والكلام عن الطلاق يقتضي بطبيعة الحال الكلام عن مسؤولية الدولة والمجتمع المدني في جبر مخاطر هذا التفكك الأسري، الذي ينتج عنه آلاف الأطفال في حاجة إلى الدعم المادي والنفسي، أو لنقل في حاجة إلى الحماية.. وهنا يكون السؤال:

لماذا نتزوج؟

بالتأكيد، نحن نتزوج بحثًا عن الاستقرار الاجتماعي، وطلبًا للشريك العاطفي، ولأننا نريد أن نبني أسرة استجابة لمشاعر الأبوة والأمومة، وقبل هذا وبعده إيجاد قناة شرعية لتفريغ الطاقة الجنسية، وهذا كله يحتاج إلى وعي يجب أن يتوفر لدى المقبلبين على الزواج… وقد لا يحتاج هذا الكلام إلى شرح، ولكن ما يحتاج إلى شرح وتفكير هو الكلام عن دور مؤسسات المجتمع المدني التي يجب أن نفسح لها المجال لتقدم العون المادي والمعنوي لهذه الأسر التي توشك على التفكك، ولتقديم الخبرة للمقبلين على الزواج حديثًا فيما يتعلق بموضوع الإنجاب، فلا يكفي أن نملك القدرة الجسدية والاقتصادية على الإنجاب، فهذه وتلك لا تكفي بمعزل عن القدرة النفسية وتحمل مسؤولية الإنجاب.

الأسرة الممتدة..!

كانت الأسرة الممتدة (الأب والابن والأحفاد) وخاصة في الريف والمناطق الشعبية تقوم فيما سبق بهذا الدور؛ إنها تتدخل وقت الضرورة لحماية الأسرة من الانهيار، وتعديل المسار إذا بان انحرافه أو ميله، وقد تفشل في رأب الصدع، وقد لا يكون تدخلها محمودًا دائمًا، إلا أنها لا تتخلى عن مسؤوليتها التي تفرضها عليها الأعراف والتقاليد الاجتماعية (الأصول) فتتكفل الأسرة الممتدة برعاية الأبناء وتوفير الدعم لهم…

ولكننا بفضل التطور لم تعد هذه الأسرة موجودة، أو توشك على الاختفاء في كثير من المناطق والأماكن، وحلّت محلها الأسرة النووية الصغيرة التي تواجه وحدها عاقبة قرارها، ومع أول مشكلة تعجز عن حلها، يحدث ما لا يُحمد عقباه، ونجد أنفسنا إزاء أطفال في حاجة إلى رعاية اجتماعية ونفسية ومادية غير موجودة، ولا ينتظر وجودها لأسباب كثيرة.

الأسرة إذن على “كفّ عفريت”، وهذا يعني أن المجتمع كله على “كف عفريت”، ولا يعود ذلك إلى الظروف الاقتصادية وحدها رغم تأثيرها الخطير، ولكنه يعود بالأساس إلى التطور الكبير الذي يشهده المجتمع بفضل انفتاحه غير المسبوق على العالم، وعجزه في الوقت نفسه عن بناء وعي اجتماعي وعلمي يرافق هذا التطور، ويجعل قرار الزواج ثم قرار الإنجاب من بعده جزءًا من هذا الوعي، صحيح أن الزواج مسألة فردية، ولكن الإنجاب ومخاطر التفكك الأسري تنعكس على المجتمع كله.

لقد تأخرنا كثيرًا في بناء الدولة المدنية الديمقراطية المعاصرة، وتأخرنا أكثر في إطلاق طاقات المجتمع المدني ليشارك ويراقب ويقترح. لا يمكنك الحياة اليوم بعقلية الستينات وما قبلها..!