وقعت تركيا في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2021 ثلاث مذكرات تفاهم مع حكومة الوحدة الوطنية الليبية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. وانتهت في 22 يونيو/حزيران الماضي صلاحية الاتفاق الذي تولت بموجبه السلطة التنفيذية في ليبيا مجالات الطاقة والأمن والإعلام. وذلك خلال زيارة قام بها وفد تركي رفيع المستوى إلى طرابلس. ضم وزراء الخارجية مولود جاويش أوغلو. والدفاع خلوصي آكار. والتجارة محمد موش والطاقة فاتح دونماز. فضلاً عن المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن.

وكان أهم هذه المذكرات هي تلك المتعلقة بالسماح لأنقرة بالتنقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية الليبية.

واستغلت تركيا الصراع بين حكومتي الوحدة الوطنية والحكومة المكلفة من مجلس النواب برئاسة فتحي باشاغا وتحظى بدعم مصري. وحالة الانقسام الداخلي الليبي وعدم تمكن حكومة باشاغا من دخول طرابلس لممارسة مهامها. وأيضا حالة الانقسام الإقليمي والدولي وموقف الأمم المتحدة الذي يرى أن عملية تصويت مجلس النواب الليبي على تكليف حكومة باشاغا شابها عوار. سواء في النصاب القانوني لحضور نواب البرلمان أو في حساب الأصوات.

موقف أممي زاد التعقيد

صراع باشاغا والدبيبة داخل ليبيا
صراع باشاغا “يمين”والدبيبة داخل ليبيا

ومن ثم استمرار تأييد الأمم المتحدة لحكومة الدبيبة. ما جعل هذه الحكومة تتمسك باستكمال المهمة التي كلفت بها. وهي إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. دون أن توضح كيف يمكن إجراؤها في ظل هذا الانقسام وهذه الخلافات.

تعقد المشهد الليبي الذي يعد العنصر الأبرز ضمن ملف الخلافات المصرية-التركية جاء في وقت كانت العلاقات بين القاهرة وأنقرة تأخذ منحى تصاعديا تجاه التحسن وسط مؤشرات إيجابية. ليطرح ذلك تساؤلات ترتبط بمستقبل تلك العلاقات في الوقت الذي تبدو فيه تركيا متجهة نحو تعزيز حضورها في غرب ليبيا خلال الفترة المقبلة. وانخراطها في عملية التنقيب عن الغاز والنفط قبالة السواحل الليبية. وهو التوجه الذي أبدت القاهرة اعتراضا غير مباشر عليه بعد تأكيدها انتهاء صلاحية حكومة الدبيبة وعدم امتلاكها صلاحية توقيع اتفاقيات دولية.

ليبيا رقم صعب

يمثل الملف الليبي الرقم الأصعب في معادلة استعادة العلاقات بين مصر وتركيا -وفق تصريحات المسئولين المصريين. والتي كان أوضحها تصريحات لرئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في سبتمبر/أيلول من العام الماضي في أعقاب جولة من المباحثات الاستكشافية بين القاهرة وأنقرة على مستوى نائبي وزيري الخارجية في البلدين. أكد خلالها “أنه يمكن استئناف العلاقات الدبلوماسية مع تركيا هذا العام إذا تم حل القضايا العالقة”.

وقال “مدبولي” في مقابلة مع وكالة “بلومبيرج” إن القضية الرئيسية لمصر تظل في تورط تركيا بليبيا. وأضاف أنه “لا ينبغي لأي دولة أخرى أن تتدخل في ليبيا. أو تحاول التأثير في صنع القرار هناك. ونود أن نترك الليبيين يقررون مستقبلهم”.

مناوشات على هامش محاولات استعادة العلاقات

نقل مرتزقة إلى ليبيا
نقل مرتزقة إلى ليبيا

أعقب توقيع الاتفاقيات بين تركيا وحكومة الدبيبة معاودة أنقرة إرسال المرتزقة السوريين من الفصائل السورية الموالية لها إلى ليبيا مجددا. بعد فترة من التوقف. حيث يعد هذا الملف أحد أهم نقاط الخلاف بين القاهرة وأنقرة. في وقت تتمسك فيه مصر بإخراج كل القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا في ظل الأهمية التي توليها للبلد الجارة التي تعتبر امتدادا للأمن القومي المصري عند الحدود الغربية.

وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول الجاري كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تركيا استأنفت نقل المرتزقة السوريين إلى ليبيا. وذلك بإرسال دفعة جديدة من المقاتلين إلى مناطق الغرب الليبي. ومن ضمنها العاصمة طرابلس في خضم الأزمة السياسية والمخاوف من عودة البلاد إلى مربع العنف.

وأوضح المرصد في تقرير نشره على موقعه الرسمي وفق معلومات تحصل عليها من مصادره “أن طائرة عسكرية تركية على الأقل نقلت مساء الخامس من أكتوبر الجاري المرتزقة من الجنسية السورية. الذين تجنّدهم المخابرات التركية في ليبيا من مطار العاصمة التركية أنقرة إلى مصراتة. وذلك بهدف إقحامهم في الحرب الليبية”.

وينتمي غالبية المرتزقة السوريين الموجودين كعناصر دعم للقوات النظامية التركية في ليبيا إلى فصائل “السلطان مراد”. و”صقور الشمال” و”سليمان شاه” و”فرقة الحمزة” و”فيلق المجد”. وجميعها فصائل مسلحة سورية موالية لتركيا ومعارضة للرئيس السوري بشار الأسد.

في المقابل أيدت مصر قرارا لمجلس وزراء خارجية أعضاء جامعة الدول العربية في سبتمبر/أيلول الماضي أدان التدخلات التركية في الشؤون العربية و”الانتهاكات التركية المتكررة لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بفرض حظر السلاح على ليبيا”. وهو القرار الذي رفضته تركيا. معتبرة أنه يستند إلى “ادعاءات لا أساس لها من الصحة”.

تعاط حذر

التناقضات بين مصر وتركيا في ليبيا

التناقضات بين مصر وتركيا في ليبيارغم الرفض المصري للاتفاقيات الموقعة مطلع الشهر الجاري بين أنقرة وحكومة الدبيبة -منتهية الصلاحية- ، فإن كلا الطرفين كان حذرا في تعاطيه مع موقف الآخر. فالموقف المصري انصب على رفض ممارسات حكومة الوحدة الوطنية الليبية. دون أي إشارة في أي تصريح رسمي لتركيا.

الأمر نفسه حرصت عليه الخارجية التركية بعدم التطرق إلى اسم مصر عندما انتقدت الدول التي اعترضت على مذكرة التفاهم. واقتصر انتقادها على الاتحاد الأوروبي واليونان. ما يوحي بأن كليهما كان حريصا على فصل الخلاف الأخير عن مسار المحاولات الرامية لتحسين مستوى العلاقات بينهما. أملا للوصول إلى مرحلة تطبيعها في ظل تنامي العلاقات الاقتصادية بين البلدين بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة.

في هذا الإطار علق السفير أحمد أبو زيد -متحدث وزارة الخارجية المصرية- على تأثير إبرام الاتفاقيات الموقعة بين حكومة الدبيبة وأنقرة على العلاقات المصرية التركية. وقال إنه ينظر إلى الأمر من الزاوية الليبية في الأساس. وأنه مرتبط بالوضع السياسي داخل ليبيا والتأزم بين حكومة الوحدة الوطنية والحكومة الليبية التي أعطاها البرلمان الليبي الشرعية.

وأضاف أن “العلاقات التركية-المصرية شأن آخر”. متابعًا: “حدثت اتصالات في مرحلة سابقة. تلك الاتصالات لم تستكمل. لكن لا ننظر للموضوع من تلك الزاوية”.

وتابع المتحدث الرسمي باسم الخارجية المصرية: “ننظر من زاوية مدى صلاحية الحكومة في إبرام اتفاقيات طويلة الأجل تؤثر في مستقبل ليبيا. ما يعنينا في المرحلة الحالية لا شك أن الأمر محل اهتمام خاص من مصر واليونان والعديد من الدول في المنطقة. والتي تهتم بانتقال ليبيا ووصولها إلى بر الأمان ونزع فتيل الأزمات داخل المشهد الليبي”.

اتفاقية لا تستهدف مصر

 

سامح شكري وزير الخارجية المصري
سامح شكري وزير الخارجية المصري

يمكن القول إن الاتفاقية الأخيرة المثيرة للجدل لم تكن تستهدف مصر بالأساس. لكنها في المقام الأول تستهدف اليونان بصورة رئيسية. خاصة أنها تتفق مع الرؤية التركية التي ترفض أن يتم ترسيم الحدود البحرية أو تحديد المناطق الاقتصادية الخالصة من خلال تطبيق معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار.

وترى أنقرة أنه من غير المنطقي أن تحصل بعض الجزر اليونانية على مساحة جرف قاري ومنطقة اقتصادية تعادل أضعاف مساحتها. فى حين يتم حصر تركيا بمساحتها البالغة أكثر من 800 ألف كيلومتر وشواطئها الطويلة على البحر المتوسط في مساحة اقتصادية بَحرية محدودة كما تريد اليونان وكما ينص قانون البحار.

وعليه تنادي تركيا بالاستناد إلى التوجهات الأخرى في القانون الدولي التي تحدد حدود المناطق الاقتصادية بناء على المسافة من البر الرئيسي وليس الجزر. وهو ما تستند إليه في اتفاقياتها مع ليبيا.

كما أن الاتفاقية التركية الأخيرة مع حكومة الدبيبة جاءت في وقت عادت فيه التوترات بين أنقرة وأثينا بسبب الخلاف حول وضع جزر بحر إيجة على خلفية نقل اليونان مدرعات منحتها لها الولايات المتحدة إلى جزيرتي مدللي وسيسام في بحر إيجه يومي 18 و21 سبتمبر/أيلول الماضي. والتي يفترض أن تكونا منزوعتي السلاح وفق اتفاقيتي لوزان 1923 وباريس للسلام 1947.

كما يمكن القول إن الموقف المصري من الاتفاقية الأخيرة نابع من موقف مضاد لحكومة الدبيبة. لاعتبارات ربما ترتبط بالتجاذبات الداخلية. حيث تدعم مصر حكومة باشاغا. وتراجع رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة عن تعهدات قطعها مع مصر مرتبط باتفاقيات تعاون في المجالات الاقتصادية والعمالة المصرية.

مصر شريك موثوق لتركيا في أمن الطاقة

تنقيب تركيا عن الغاز أمام سواحل ليبيا
تنقيب تركيا عن الغاز أمام سواحل ليبيا

وقبيل الإعلان عن توقيع الاتفاقية الأخيرة كانت العلاقات بين مصر وتركيا وصلت إلى مستوى ربما يكون الأعلى منذ نحو 9 أعوام. وبالتحديد في أعقاب الإطاحة بجماعة الإخوان من الحكم في مصر عام 2013.

ومطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري وصف القائم بأعمال السفير التركي بالقاهرة صالح موتلو- مصر بأنها الشريك “الموثوق لبلاده” في مجال أمن الطاقة.

وقال “موتلو” على حسابه الرسمي بموقع فيسبوك: “تعد تركيا أكبر سوق مستورد للغاز الطبيعي المسال من مصر في النصف الأول من عام 2022” وفق بيانات الجهاز المركزي للإحصاء المصري.

وتابع “موتلو” أن حجم ما استوردته بلاده من الغاز المصري في النصف الأول من هذا العام مقارنة بعدة دول: “تركيا 1.1مليار دولار. إسبانيا 822 مليون دولار. فرنسا 494 مليون دولار”.

وكشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري تصدر تركيا قائمة أعلى دول العالم استيرادا للغاز الطبيعي من مصر بما قيمته 1.1 مليار دولار.

في الخلاصة يمكن القول إن الأزمة الأخيرة الناجمة عن توقيع الاتفاقية بين أنقرة وحكومة الدبيبة ربما تتسبب في توقف مسار استعادة العلاقات الكاملة بين مصر وتركيا. إلا أن هذا التوقف قد يكون مؤقتا. في ظل الرغبة المصرية في تعزيز العلاقات الاقتصادية في إطار السياسة الرامية لجذب مزيد من الاستثمارات الأجنبية. في حين يسعى النظام التركي إلى التسريع من وتيرة تحسين علاقته مع مصر قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في تركيا. حيث يرغب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مواصلة سياسة (صفر مشكلات) لمواجهة انتقادات المعارضة في بلاده.