“لو قدرت أوفر الأكل والشرب لأولادي أبقى دكر”. أحمد عبد الحافظ -مزارع من معصرة صاوي بمحافظة الفيوم، يمتلك فدانين ونصف الفدان من الأرض الزراعية، سافر للعمل بالسعودية لمدة 15 سنة، وعندما قرر العودة فاته قطار التوظيف، فاشتغل بأرضه مزارعًا. لكن عائدها لا يكفي الإنفاق على أسرته المكونة من 6 أفراد. وهو يعتمد حاليًا بشكل أساسي على راتب زوجته التي تعمل مدرسة.

خسر “أحمد” هذا العام مبلغ 18 ألف جنيه بمحصول القطن وحده. حيث تكلف الفدان 7 آلاف جنيه أجرة جمع و5 آلاف أسمدة و1200 جنيه بذور و500 جنيه تم دفعها للجمعية الزراعية مقاومة. إضافة إلى أجرة العزق والحرث وتمهيد التربة. فضلا عن مصاريف الأكياس والفرز والخياطة ونسبة 14% ضريبة على ثمن المحصول تخصم عند تسلم المبلغ من البنك.

وانخفض سعر القطن هذا العام إلى 3500 جنيه. بينما سجل العام الماضى 6800 جنيه للقنطار بتراجع 95%. والسؤال هنا: “ما الذي يدفع أحمد للاستمرار في مهنته مع توالي الخسائر؟”.

يقول “أحمد”: “لأني معنديش عمل بديل ودي أرضي. لو كل واحد شغال في مهنة واجهته مشكلة فيها تركها الحياة هتقف. ربنا بيعطي لكل واحد صبر على عشته من أجل استكمال وبناء الحياة علشان الدنيا تمشي”.

ويوضح أنه لكي يزرع الفلاح باطمئنان بعد ارتفاع تكاليف الإنتاج 100% لا بد من وضع أسعار استرشادية للمحاصيل وربط القطن عند سعر 6000 آلاف جنيه للقنطار والبنجر عند 2000 جنيه للطن والقمح 1200 للإردب.

اقرأ أيضًا: عندما تخلينا عن القمح لصالح الفراولة.. خلل الأولويات يفسد حياة المصريين

تمثل حالة أحمد صورة عامة للزراعة المصرية على أرض الواقع، فهي تفتقر للبنية التحتية اللازمة للتحول نحو الزراعات الحديثة من ري بالرش وداخل صوب وبيوت زجاجية. وذلك لتجنب آثار المناخ ورفع معدلات الإنتاج وتحقيق عائد اقتصادي جيد. وهذا بالطبع يتسبب في حالات تعد بالملايين مماثلة لحالة أحمد.

ويعد تفتت الحيازات وغياب الدعم والتخطيط الزراعي من قبل الدولة وعدم تحديد مساحات المحاصيل الاستراتيجية ونقص مياه الري وارتفاع تكاليف الإنتاج وتعثر التسويق وتخبطه أبرز مشكلات صغار الفلاحين بالأراضي القديمة في الوادي والدلتا.

خلل التعاونيات

يأتي ضعف دور التعاونيات سببا مباشرا ورئيسيا في تراكم هذه المشكلات وتراجع الإنتاج الزراعي. ما جعل إعادة هيكلة الجمعيات الزراعية فنيا وإداريا وتعديل قانون التعاونيات على رأس توصيات المؤتمر العلمي السنوي التاسع والعشرين للجمعية المصرية للاقتصاد الزراعي -وفق الدكتور سعد نصار مستشار وزير الزراعة.

ورد أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة أزمة نقص وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج وتخبط التسويق بالأراضي القديمة البالغة 6.1 مليون فدان إلى ضعف التعاونيات في توجيه وتنظيم زرع المحاصيل في أحواض تضم آلاف الأفدنة بأنواع موحدة.

 

معاناة صغار الفلاحين
معاناة صغار الفلاحين

وقد تخلت التعاونيات عن دورها في الدخول نيابة عن المزارعين في عملية التسويق. أو وسيط بينهم وبين البنك الزراعي للحصول على قروض ميسرة وتقديم الدعم و الإرشاد والميكنة ومكافحة الآفات وفق “نصار”.

وأوضح أن الحيازات الكبيرة في المشروعات القومية بالأراضي المستصلحة الجديدة لا تعاني المشكلات الموجودة بالأراضي القديمة. حيث يتبعون الممارسات الزراعية الجديدة من ري حديث وتسميد متوازن ومكافحة متكاملة. فضلا عن معاملات ما بعد الحصاد وتصنيع زراعي مميكن.

تفتت الحيازات

وبحسب نقيب الفلاحين صدام أبو حسين فإن 80% من الحيازات الزراعية في مصر أقل من فدان. ما يصعب فيها التحول من الري بالغمر إلى الري بالتنقيط لارتفاع التكلفة. لأن خط التوصيل إلى مساحة نصف فدان يساوي تكلفة التوصيل إلى 3 أو 5 أفدنة. كذلك تعاني المساحات الصغيرة من زيادة الخلافات على الحدود بين الفلاحين وبعضهم.

كما أن تعدد المحاصيل بالحوض الزراعي الواحد يؤدي إلى إهدار كميات كبيرة من مياه الري. ما يتطلب وجود المياه بالمساقي طول الوقت. ويؤدي إلى إصابة المحاصيل بالآفات وانتقالها من بعضها إلى بعض. فدودة القطن تنتقل لمحصول البرسيم من التجاور. فلا بد من توحيد الزراعات لتسهيل عمليات الرش والمقاومة للآفات وفق نقيب الفلاحين.

طرق الري الحديثة
طرق الري الحديثة

 

الإصلاح الزراعي.. ظالم أم مفترى عليه؟

الفلاحون والإصلاح الزراعي
الفلاحون والإصلاح الزراعي

بعد صدور قانون الإصلاح الزراعي رقم 178 في سبتمبر/أيلول سنة 1952 ومع إعادة توزيع الأراضي على الفلاحين وُجهت اتهامات لثورة يوليو أنها كانت سببا رئيسيا فى تفتيت الرقعة الزراعية.

كما تغير هيكل الملكية الزراعية من الثورة حتى الآن لثلاثة أجيال على الأقل بفعل نظام “الإرث”. حيث تؤول الأرض للأبناء بعد وفاة الأب ثم الأحفاد. فزاد معدل التفتيت وأصبح كل مزارع يمتلك بضعة قراريط لم تعد تكفي لتغطية نفقات العاملين بها.

يحكي كمال أحمد -مزارع من قرية أبو غالب التابعة لمنشية القناطر محافظة الجيزة: “كان جدي يمتلك 20 فدانا قسمت على أبنائه كل واحد ورث 5 أفدنة. وبعد وفاة والدي كل واحد منا أنا وأشقائي حصل على مساحة فدان. ورغم احتفاظنا بالأرض لكنني لا أعتمد عليها كمصدر وحيد للدخل. ما بتأكلش عيش. أنا أعمل مدرس وأمارس أعمال أرضي بعد عودتي من المدرسة”.

يذكر “كمال” أن تفتيت الحيازات الزراعية ساعد في إهمال وتهميش الزراعة. فكل شخص يرث بضعة قراريط يقوم بتسقيعها وبيعها كأرض “مباني”. لافتا إلى أن أقل مساحة زراعية تحقق ربحية لا تقل عن خمسة أفدنة.

زراعة تحكمها الفوضى

يقول كمال لــ”مصر 360″: “الفلاح يعمل منفردا دون توجيه. مرة يزرع محصول سعره يعلى ويكون مُجزي. ومواسم أخرى ينخفض بسبب غياب التخطيط ودراسة السوق وإلغاء الدورات الزراعية”.

فالزراعات المغطاة أقل في نسبة الإصابة بالآفات وفي استخدام المبيدات. فكمية الأسمدة التي تكفي شهرا في الزراعة المكشوفة تكون كافية لمدة 6 أشهر في الصوب -بحسب “كمال”.

المحامي والباحث بشير صقر -عضو لجنة التضامن الفلاحي- يؤكد أن تفتيت الحيازات ليس سببه صدور قانون الإصلاح الزراعي. إنما يعود بشكل أساسي للشرع والصياغات الدينية المفروضة في المجتمع. فتوزيع المساحة الموروثة على إجمالي عدد المستحقين للإرث يزيد من معدل التفتيت ويقلل الانتفاع منها. لأن الزراعة تحتاج إلى مساحات كبيرة لتحقيق عائد اقتصادي مربح بحسب “بشير”.

فى النظام الأوروبي وفي دولة مثل ألمانيا تعطى الأرض الزراعية للابن العامل بهذه المهنة. والباقي يحصل على حقه من الإرث أموالا. وذلك حفاظا على الأراضي الزراعية من التفتيت. مشيرا إلى أن الحد الأدنى لتأجير الأراضي الزراعية بالسويد 9 سنوات لتحقيق الانتفاع بها وتنميتها. لكن في مصر أقصى حد للإيجار سنة. مما لا يحقق استقرارا زراعيا للفلاح.

وأضاف “بشير” أن أكبر مشكلة تواجه صغار الفلاحين حاليا هي إعادة تقييم أراضي الإصلاح الزراعي ورفض الدولة تمليكها للمنتفعين رغم قيامهم بدفع أقساطها بالكامل -40 قسطا لهيئة الإصلاح الزراعي- وفق القرار رقم 40 لسنة 1964. باعتبارهم منتفعين بنظام التمليك بعد سداد كامل الأقساط. لكن الهيئة ترفض تحرير عقود لهم مثل مزارعي منطقة الإشراك بمحافظة البحيرة.

أشباه المزارعين

لم تعد رائحة الندى والخبيز ومراعي المواشي بالمزارع أهم ما يميز الريف المصرى، فقد فقدت القرى أهم خصائصها وانتشر الغزو الأسمنتي بالحقول وتقلص الفضاء الأخضر وضن بخيره على صغار المزارعين.

هكذا وصف الدكتور أحمد زكي أبو كنيز -أستاذ بمعهد بحوث المحاصيل السكرية- ما وصلت إليه القرية المصرية ومزارعوها. الذين حاصرتهم المشكلات. فلم تعد “فلاحة الأرض” حرفة أساسية لأغلب سكان القرى دون اقترانها بمهن أخرى للمساعدة على سبل العيش حيث دفعتهم ضيق المساحات الزراعية للعمل بمهن معاونة.

صغار الفلاحين أو “أشباه المزارعين” كما أطلق عليهم “أبو كنيز” في حديثه لـ”مصر 360″ من الموظفين وأصحاب الحرف لم يعد عائدها يكفيهم. فكان البحث عن مهن معاونة تساعد في الإنفاق كضرورة للاستمرار في زرع الأرض التي أصبحت من أدنى المهن في مستوى الدخل لأصحابها.

 

أزمة الأسمدة والتقاوى

أسمدة وتقاوي
أسمدة وتقاوي

يلجأ الفلاحون لتسجيل مساحات وهمية بالجمعيات الزراعية للمحاصيل التي تصرف عليها الأسمدة مثل القمح. وذلك للاستفادة منها في المحاصيل التي لا تصرف لها أسمدة مدعمة كالبرسيم والخضراوات والفول البلدي بحسب أحمد عبد الحافظ -فلاح.

وأوضح “عبدالحافظ” أن القمح كان أعلى إنتاجية هذا العام لكنه لم يحقق المستهدف الذي رصدته الحكومة -6 ملايين طن. وانخفض إلى 4.5 مليون طن لأن المساحات التي كانت مسجلة بالجمعيات باسم القمح كانت أكبر مما تمت زراعته.

ويشير المهندس محمود آل فت -خبير زراعي ورئيس جمعية الدفاع عن حقوق الفلاحين- إلى أن الكارت الذكي ضبط منظومة الأسمدة بنسبة 80%. ويمكن للفلاح الصغير أن يستفيد منه حتى حيازة 10 قراريط. وفي حالة الأراضى المؤجرة تكون حسب الاتفاق بين المؤجر والمزارع. إذ يقوم المؤجر بتسيلم الكارت للفلاح وعمل توكيل تفويض بتسلم الأسمدة.

وطالب الوزارة بتوفير التقاوي للقضاء على السوق السوداء. مخاطبا الوزير بعمل منفذ بالجمعيات الزراعية لبيع الأدوية والمبيدات للتحكم في المغشوشة المقلدة بالسوق.

غياب الدولة

من ضمن أزمة قطاع الزراعة حاليا والتي تمس صغار المزارعين هي أزمة تراجُع دور التعاونيات بعد تبني سياسة تحرير الزراعة في عهد وزير الزراعة الأسبق يوسف والي. وتخلت الدولة عن دورها في دعم ومساندة الفلاح تدريجيا وتُرك فريسة للسوق السوادء في تدبير مستلزمات الإنتاج من أسمدة وتقاوي ومبيدات أغلبها مغشوشة ولا تخضع للرقابة من الوزارة.

ومنذ 1952 -بحسب بشير صقر- صارت الدولة هي المتحكمة فى تعيين الموظفين والمشرفين. وهي التي تحدد الدورة الزراعية. وأنواع وأسعار المحاصيل والمساحات. ورغم سيطرة الدولة استفاد الفلاحون من توفر كل مستلزمات الإنتاج الزراعي من أسمدة وتقاوى حتى تسلم المحصول وتسويقه.

يقول “بشير” لـ”مصر 360″: “في ظل ما عرف بتحرير الزراعة الدولة سحبت يدها من السياسات التنفيذية للزراعة. أُلغي التجميع الزراعي في الأحواض والدورة الزراعية التي تمنع زراعة الأرض بمحصول واحد لأكثر من موسمين متتاليين. وتوقفت الدولة عن تقديم الدعم فتراجع الإنتاج الزراعي وتدهورت أحوال صغار الفلاحين”.

أزمة التسويق

محصول البطاطس وأزمات التسويق والتسعير
محصول البطاطس وأزمات التسويق والتسعير

من أكبر مشكلات صغار المزارعين هي أزمة التسويق. حيث يعجز المزارع عن تصريف محصوله فيضطر للبيع بالأسعار التي تفرض عليه. لأن الفلاح يخرج مديونا نهاية الموسم بثمن الحرث والتقاوي والأسمدة والري. ويحتاج إلى تسديد ديونه من أجل الإعداد للمحصول الجديد وفقا لرئيس جمعية الدفاع عن حقوق الفلاحين. الذي قال لــ”مصر 360″: “قانون السياسة التعاقدية للمحاصيل الزراعية رقم 14 لسنة 2015 لم يفعّل. فالتسويق يحتاج إلى عقد ثلاثي تكون الدولة فيه طرفا ضامنا لتنفيذ البنود. لأن الشركات المتعاقدة تستقوي على الفلاح. فمحصول البطاطس مثالا تفرض الشركات على المزارعين احتساب ربعه كـ(تالف). فكل 4 أطنان تحاسب الشركات على 3 أطنان منها فقط. ويضطر الفلاح للبيع بهذا المنطق رغم تراجع عن الأسعار الاسترشادية في حالة التعاقد”.

روشتة علاج

المحامي والباحث بشير صقر -عضو لجنة التضامن الفلاحي- يقول إن مشكلات الفلاحين الصغار كثيرة ومربوطة ببعضها.

وإن كنا نريد خطة لإصلاح حال المزارعين الصغار فأولا لا يجب نزع الأرض من الفلاح لأي سبب وحماية الحيازة وحل مشكلات الأراضي الزراعية المستصلحة والتدخل لمساعدة الفلاحين المحبوسين بسبب القروض. وكذا وقف قضايا الحبس ضدهم والتوقف عن طرد المزارعين من أراضي الإصلاح وهيئة الأوقاف ومنحهم صكوك ملكية للأرض.

كذلك نمنح قروضا ميسرة للفلاحين لتوفير مستلزمات الإنتاج والأيدي العاملة بفائدة قليلة -كما كان سابقا- وتوفير مستلزمات الإنتاج الـ7 (بدوز وتقاوي-أسمدة-مبيدات-أعلاف-آلات- أمصال بيطرية-وقود). فضلا عن السماح بعمل تعاون شعبي حقيقي لتنظيم الفلاحين وإعطاء فرصة لتأسيس نقابات واتحادات لهم.

ويوصي الدكتور أحمد زكي أبو كنيز -أستاذ بمعهد بحوث المحاصيل السكرية- بضرورة إعلاء قيمة المزارع وتعظيم دوره وتقديم محفزات لتشجيعه على الاستمرار في نشاطه. بالإضافة إلى دعمه بالخدمات المعاونة. والاهتمام بإعادة تدوير عوائد المحاصيل مثل الذرة والقصب والأرز والقطن في دورة إنتاج جديدة كصناعة الأعلاف وغيرها. فيما أوصى نقيب الفلاحين بأن تكون الأراضي الزراعية كلها حق انتفاع للدولة لمعالجة ظاهرة التفتيت بمدد انتفاع طويلة من 40 لـ50 سنة. بالإضافة إلى دعم مستلزمات الإنتاج في ظل الأزمات العالمية.