لأول مرة تعرف بريطانيا رئيس حكومة من أصول هندية، في مشهد لم تعرفه أوروبا من قبل. صحيح أن هناك من حكموا من أصول أجنبية أوروبية، إلا أنها المرة الأولى التي يصل فيها لحكم بلد عظمي مثل بريطانيا رئيس حكومة تعود أصوله لمنطقة جغرافية وحضارية من خارج الثقافة الغربية البيضاء.
فقد انتخب نواب حزب المحافظين (لديه أغلبيه في مجلس العموم) “ريشي سوناك” رئيسا للحكومة البريطانية، حيث هاجر أجداده من البنجاب في شمال غرب الهند إلى شرق إفريقيا، وبعدها هاجر أبواه في الستينيات إلى إنجلترا، حيث عمل والده طبيبا عاما، وتزوج سوناك من “أكشاتا مورثي” – ابنة نارايانا مورثي، الملياردير الهندي وأحد مؤسسي عملاق التكنولوجيا “Infosys”، وأدار الرجل مع زوجته أعمالا تجارية أوصلت ثروتهما إلى ما يقارب مليار دولار أمريكي.
بدأ سوناك رحلته في عالم السياسة بالانضمام في 2010 إلى حزب المحافظين، وأصبح نائبا عن الحرب في 2014 ثم وزيرا للمالية في حكومة بوريس جونسون في 2020 حتى عاد وأنتخب كأول رئيس للحكومة من أصول أسيوية هندية.
والحقيقة أن خلفية الرجل الطبقية والاجتماعية تضعه مع حزب المحافظين اليميني. ولكن أصوله العرقية تقربه من حزب العمال والاتجاهات اليسارية التي كثيرا ما دافعت عن حقوق الأقليات، وأسست مشاريعها السياسية على دمج الأقليات العرقية في المنظومة السياسية والديمقراطية.
والمؤكد أن ماجرى في بريطانيا غير وارد حدوثه في أي بلد غربي آخر على الأقل في المستقبل المنظور. صحيح أن الولايات المتحدة أوصلت إلى الحكم “باراك أوباما” كأول رئيس أمريكي من أصول إفريقية، ولكن عن الحزب الديمقراطي، ومستحيل عن الحزب الجمهوري الأقرب لحزب المحافظين في بريطانيا.
فالحزب الديمقراطي ومعه التيارات الليبرالية واليسارية تعد معقل الأقليات العرقية سواء كانوا من أصول إفريقية أو لاتينية أو أسيوية، وتكفي متابعة أي مؤتمر للحزب الجمهوري لنكتشف أن الحاضرين من البيض، ونحتاج لعدسة مكبرة لنكتشف حضور الأقليات العرقية الأخرى.
والمؤكد أن مشروع صهر الأقليات العرقية تتبناه عادة الأحزاب الليبرالية واليسارية، وتقوم على أنه يمكن دمج أي إنسان أو أي مشروع سياسي في المنظومة الديمقراطية، بصرف النظر عن عرقه ودينه طالما التزم بالدستور والقانون.
هذا النسق يمثل رسالة للعالم فيما يتعلق بحقوق الأقليات والمساواة بين الرجل والمرأة وعدم التمييز على أساس الدين والعرق والأصل الطبقي. بما يعني أن المنظومة المدنية والحقوقية قادرة على دمج الجميع وصهرهم داخل قيمها ومبادئها.
في حين أن الأحزاب اليمينة المحافظة تحصل عادة على أصوات “البيض”. فمثلا الحزب الجمهوري الأمريكي حصل في الانتخابات الأخيرة على أغلبية أصوات الرجال البيض فوق 45 عاما، وبنسبه تزيد بحوالي 20% مما حصل عليه الحزب الديمقراطي من نفس الشريحة.
الانقسام الذي تشهده أوروبا بين أقصي اليمين والتيارات القومية والشعبوية، وبين التيارات الليبرالية واليسارية واقع موجود؛ فالتيارات الثانية يتقدم تأثيرها على الأولى لدى الأقليات العرقية والنساء والشباب، وكلا التيارين/ المشروعين لديه وجود راسخ في مناطق بعينها، يتضح فيها الفارق بين الريف والمدينة، وبين التعليم المرتفع والمتوسط، وبين العمل في مؤسسات عالمية أو محلية، إلى جانب الموقف من الهجرة والمهاجرين والإسلام والمسلمين، والعولمة والسيادة الوطنية وشعارات “الوطن أولا” أو “الإنسان أولا”. وهي كلها مؤشرات تحدد التصويت لكلا التيارين.
والحقيقة، أن الفروقات بين القوي اليمينة المحافظة والقوى الليبرالية واليسارية في الغرب، فيما يتعلق بالموقف من هذه القضايا وخاصة قضية الأقليات العرقية واضح. ومع ذلك قدم حزب المحافظين استثناء تاريخيا ومفصليا وكسر التقاليد المحافظة وأختار رئيس حكومة من أصول هندية.
النجاح البريطاني الذي قدمه حزب المحافظين في إيصال “سوناك” لرئاسة الحكومة يعني أن النظام الديمقراطي نجح أيضا في فرض قواعد دولة القانون والمساواة العادلة على القوى الرئيسية في المجتمع بما فيها تلك التي ظلت ترتاب من الأقليات العرقية ولا ترتاح لهم مثل القوى اليمينية المحافظة. وأصبحت فكرة الدمج والاحتواء وإعادة تأهيل الأقليات العرقية التي ولدت في المجتمعات الغربية داخل المنظومة الدستورية والقانونية القائمة أمرا متكررا لم يخل من تحديات ومشاكل.
إن الوافد الجديد سواء كان تيار سياسي أو أقلية عرقية مطالب بالاتزام بالمنظومة القئمة، وستفرض عليه أيضا ضرورة الاعتدال والتراجع عن ثقافة الإنغلاق العرقي أو الديني والعمل على الاندماج في المجتمع وفي منظومته السياسية حتى لو قابلته في أحيان كثيرة بمواقف رافضة وعنصرية ولكن تمت مواجهتها في الحالة البريطانية وقدمت تجربة نجاح.
تبقى هناك تفسيرات أخرى لهذا النجاح (إلى جانب نجاح المنظومة الدميقراطية في التعامل مع الأقليات العرقية) تخص الحالة البريطانية. فهناك من يعتبر ثراء “سوناك” الشديد قد سهل من عمليه اندماجه في المنظومة السياسية والحزبية، وهو لن يكون متاحا لأحد الفقراء من أصول عرقية مهاجرة، وخاصة في حزب مثل حزب المحافظين. والثانية هي أن في بريطانيا هناك “فوق السلطة” أي السلطة الملكية. صحيح، أن من يدير الحكم هو رئيس الحكومة إلا أن وجود ملك رمز يملك ولا يحكم من قلب الثقافة البريطانية المسيحية البيضاء، يجعل من الأسهل قبول رئيس وزراء من أقلية عرقية، على عكس باقي النظم الجمهورية الأوروبية التي تغيب عنها السلطة الملكية.
يقينا، انتخاب رئيس وزاء دولة عظمى أصوله من البلد التي كانت تحتلها الإمبراطورية التي لاتغيب عنها الشمس حدث تاريخي لأنه لايمثل فقط معاني سياسية جديدة وإنما يعني تحول ثقافي واجتماعي كبير، خاصة أنه جاء من حزب محافظ. وهو يعني أن هناك خطوة كبيرة قد قطعت في بريطانيا. ولكن لا يزال صعبا تعميمها أوروبيا. خاصة بين الأحزاب اليمينة المحافظة، التي لا تزال بعيدة عن انتخاب رئيس جمهورية من أصول إفريقية/ عربية في فرنسا أو أسيوية/ تركية في ألمانيا.