في الثامن والعشرين من أكتوبر تحلّ ذكرى رحيل “طه حسين” التاسعة والأربعين وهي مناسبة جيدة لتقليب هذا الإرث الجليل الذي تركه السيد العميد. وقد لا يحتاج هذا الرائد المجدد إلى مناسبة للاحتفاء به؛ فدوره الكبير والمؤثر في الوعي المصري والعربي المعاصرين يجعله موضوعًا لاشتغال المثقفين والقراء.. ولكن هذا ما جرت عليه سنن الحياة والثقافة..!

اقرأ أيضا.. نجيب محفوظ.. أديب باح آخرون بأسراره

أحاول هنا أن أتساءل: لماذا تمكن طه حسين من التأثير في جمهور القراء رغم اقترابه من الموضوعات الشائكة، ورغم محاولة حصاره المستمرة من قبل التيار المناوئ له، كيف تمكنت كتاباته من اختراق هذا الحصار المستمر الذي تعمد النيل منها ومن صاحبها؟ ولماذا حوصر المثقف حامل إرث طه حسين اليوم وعجز عن مخاطبة عموم القراء على نحو ما فعل هذا الرائد المجدد

الرائد

لعلكَ لا تحتاج إلى من يذكرك بتنوع تراث طه حسين وتوزعه على حقول متعددة: بين النقد والدراسات الأدبية والتاريخ والترجمة والمقالات السياسية والاجتماعية والسرد القصصي والروائي.. ومعظمها دراسات رائدة؛ ففي النقد مثلًا، كان القارئ على موعد مع مقاربات نقدية لا علاقة لها بما كان يقدمه النقد البلاغي قبل قرون؛ فهذه هي المرة الأولى التي سيطالع فيها القارئ دراسات معمَّقة تتحدث عن الشعر والشاعر والبيئة التي نشأ فيها ومذهبه الشعري.. وذلك على ما نجد في كتب: “مع المتنبي” و”مع أبي العلاء في سجنه” ومقالات “حديث الأربعاء”.. وقل الأمر نفسه عن مقارباته التاريخية المدقِّقة حول أحداث الفتنة الكبرى، وسيرة “الشيخان”، أو سرده الفاتن حول “هامش السيرة النبوية..الخ.

ويطول بنا الأمر لو تقصينا مظاهر هذه الريادة في تراث طه حسين.. ولعلك تتساءل: ما الذي يجمع هذا المنجز ويجعل منه وحدة متسقة رغم تنوعه؟

“الرُّوح العلميّة”

قد لا يكون الجواب مفاجئًا لمن طالعوا جانبًا من هذا الإرث؛ فالمبدأ الذي يجمع بين تجلياته وحقوله المتعددة يتصل بالسياق العام الذي ازدهر فيه، وهو سياق نهضويّ تحرريّ على كافة المستويات السياسية والاجتماعية، حاول فيه أساتذةُ الجيل السابق أمثال محمد عبده ولطفي السيد عقلنةَ الحياة أو عقلنة الوعي، وهو ما سوف يطلق عليه طه حسين “الرُّوح العلميّة”، وهذه الرُّوح هي المبدأ الذي يسري في كتابات العميد، سواء أكانت أدبًا ونقدًا أم دراسات اجتماعية وتاريخية أم غير ذلك.

فمثلًا، لم يكن شكّه في الشعر الجاهلي رغبة في الشّك من حيث هو، وإنما كان الشّك آلية عقلية للبحث والدرس ومناقشة المسلمات القديمة. كان شكًّا من أجل التأسيس لهذه “الروح العلمية”، وتأكيدًا على حقّ الباحث في تناول القضايا ومناقشتها وإذاعة ما يصل إليه على الناس. وإذا كان طه حسين ومعه أعلام جيله بصدد التأسيس المعاصر للثقافة العربية، فبالتأكيد يجب أن يقوم الأساس على أمتن المبادئ، ولقد تمثل هذا الأساس في إقرارهم القوي بحق الباحث وحريته واستقلاله.

ومن المهمّ هنا، أن نشير إلى وعي طه حسين بهذه “الرُّوح العلميّة” كان مُتقدِّمًا على نحو ملحوظ، فلم يضع الذات مقابل الموضوع أو ينفي حضورها، كما تحاول العلوم التطبيقية، ولكنه أقرّ بدور الذات؛ فالإنسان كائن مركَّب، وإذا كانت العلميّة تستند إلى العقلانية أو تقوم عليها فالعقلانية وحدها لا تقوم بحاجة الإنسان، ولذا فهو يؤكد للذين قد يعترضون على طاقة التخييل التاريخي في كتابه المهم “على هامش السيرة” قائلا: “العقل ليس كل شيء، وإن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل”.

طه حسين وزوجته الفرنسية سوزان

وإذا كان الأمر كذلك، فنحن في حاجة إلى الدراسات العلمية التاريخية الوصفية بقدر ما نحن في حاجة إلى الدراسات التي تقارب التراث بروح إبداعي تخييلي خلّاق، ومن هنا تحديدًا جاءت دعوته لتوسيع مفهوم التراث ليشمل: أحاديث العرب الجاهليين وأخبارهم، والسيرة وما ألهمت به الشعراء والكتاب، والغزوات والفتوح، وما رُوي في المحن والفتن من أخبار وحكايات، وما تركه القصّاصون الشعبيون الذين صاغوا قصصهم في أشكال مختلفة…الخ

وهذا فهم للتراث غير مسبوق؛ فهو لا يقتصر على التراث الرسمي أو المكتوب فحسب، وإنما يمتد ليشمل التراث الشعبيّ والشفاهيّ، بل إنه يمتد ليقرن بين الغزوات وما توارد إلينا من أيام الجاهليين وأحاديثهم.. لا يستبعد طه حسين حقلًا تراثيًا، ويرى أن التراث لا يمكنه الحياة بدون هذه القراءة الحرة المنفتحة.

لا تنفصل “الروح العلمية” إذن عن الذات القارئة، بل لا تنفصل عن التخييل الخلاق الذي يُثري خيالنا بهذا الإرث، وهذا هو معنى قراءة التراث القديم، إننا نقرؤه بحثًا عن المسكوت عنه، وعمّا لم يقله، وعمّا يشغلنا أيضًا.

بلاغة الاستمالة

ورغم هيمنة “الرُّوح العلميّة” فلا يشعر المتلقي أنه بصدد قراءة نخبوية متعالية، على عمق ما تتناوله من قضايا وما تنتهي إليه من نتائج، فالعكس هو الصحيح، فالمتلقي يجد تفكيرا مستقيمًا، ولغة لا تتنازل عن الجمالية مقابل العلمية، وإنما تحرص على الجمع بينهما في صيغة واحدة، تخاطب بها العقل والوجدان معًا، فتقنعك وتطربك، ولا يحتاج الكلام عن “أسلوب” طه حسين إلى حديث، فما أكثر ما تناوله الدارسون.. ولكن استمالة طه حسين وقدرته على التأثير في أجيال متعاقبه لا تعود إلى الأسلوب وحده، وإنما تعود في جوهرها إلى احترام القراء وتقديره الشديد لعقولهم وثقافتهم، فهو لا يتعالى عليهم، ولا يقيم حاجزًا بينه وبينهم، إنه يحطم كل سور قد يحول بينه وبين التأثير، إنه لا يكتب لفئة دون فئة، ولا يكتب لنخبة ضيقة، وإنما يكتب لغير واقعه وواقع أمته، ومن هذه الزاوية تحديدًا يمكننا أن نتلقى كلامًا كهذا من عميد الأدب: “وأنا حين أذيع في الناس رأيًا أو أنشر فيهم كلامًا، لا أتحفظ ولا أعطي بيد لآخذ بالأخرى، إنما أذيعُ مخلصًا، وأنزل للناس صادقًا عن كل ما أنشر وما أذيع، وأبيحُ لهم أن يأخذوا وأن يستغلوا، بل أجد سعادة لا تعدلها سعادة حين أراهم يأخذون ويستغلون، وليس يعنيني أن يقولوا: “أخذنا عن فلان” و”استغللنا مذهب فلان” وإنما يعنيني أن أكون نافعًا لهم، وأنا أوثر أن أنفعهم على غير عِلْم من الناس، وعلى غَيْر عِلْم منهم خاصة، وأنا أسْتَحي أن يتحدَّثَ إلىّ مُتحدِّث بأنه أخذ عني أو انتفعَ بما كتبتُ أو رأيتُ، ولستُ أدري ماذا أصنع ليشعر القارئ أني مُخْلص كل الإخلاص، صادق كل الصّدق بعيد كل البعد عن التّكلف فيما أقول”.

فهذا القدر من التجرد وإنكار الذات لا يستطيعه غير رجل أنزل نفسه من أمته منزلة المعلم وصاحب الرسالة الذي لا يعنيه إلا أن يتغير واقعهم وتتبدل أحوالهم من حال إلى ما هو أحسن منه.

لقد آمن الناس بصدق العميد، بقدر ما احترم عقولهم، وانتقد تصوراتهم بحب واحترام، وهذا هو الدرس الذي عجز كثير من التنويريين المصريين والعرب عن رؤيته فضلًا عن تمثله، لقد كتب العميد – مثلا – كتابه الذائع على هامش السيرة عام 1933م وهو كتاب شديد التوقير للظاهرة الإسلامية، ثم كتب “مستقبل الثقافة المصرية”عام 1938م الذي يعد من أخطر كتاباته التنويرية، ثم عاد وكتب سيرة الإمامين الجليلين الصديق وعمر بن الخطاب في كتابه “الشيخان” سنة 1958م.

كان طه حسين- في كتاباته الإسلامية- شديد التوقير لرموز هذا التراث وما قدمه رجاله للإنسانية من جهد، كان شديد الاحترام لرموز هذه الثقافة تماما كما هي في نفوس قُرّائه، فالتقى معهم على المحبة والتقدير، واختلف معهم حول المرويات التي أخرجت الشيخين من بشريتهما ووجودهما التاريخي، وهو ما يتعارض مع المنهج العلمي أو “الروح العلمية” التي تحاول الفهم والتفسير بما هما سبيل التقدم والتحرر..!