على مدى أكثر من أسبوعين ينتظر الجميع تكوين حكومة مدنية سودانية، خصوصا أن التسريبات السياسية حددت يوم 25 أكتوبر/تشرين أول موعدا لتكوين هذه الحكومة. لكن لا شيء يظهر لنا في الأفق. بل أن المشهد العام يتجه نحو التصعيد، رغم تعدد المبادرات الساعية لتحقيق توافق وطني سوداني، وكثرة الجدل بشأن تحقيق تسوية سياسية يظللها غبار كثيف يكاد المراقب معه أن يتعثر أثناء سعيه للمتابعة الدقيقة. بينما تلتهب الخلافات القبلية بشكل موسمي في أنحاء البلاد.

اقرأ أيضا.. هل من حل سياسي في السودان؟

ويمكن رصد عدد من المعطيات المركزية في المشهد السوداني حاليا، يمكن أن تقود لدعم استئناف العملية السياسية منها مثلا أن المكون العسكري أعلن نيته الانسحاب من عملية التفاوض السياسي برمتها، تاركا إياها للمكون المدني. أما المعطى الثاني فهو وجود مبادرة لنقابة المحامين السودانيين، التي تحوز دعم معظم القوى السياسية سواء من باب القبول أو من باب الانفتاح على فكرة تطويرها وتعديلها لتلبي مطالب مختلف الأطراف.

أما المعطى الثالث أن هذه المبادرة جبت على نحو ما المبادرات السابقة عليها، خصوصا أن الحوار الممتد لثلاث أيام بشأنها، حضرته معظم القوى السياسية. كما تم دعم هذه المبادرة على الصعيد الدولي من معظم الأطراف سواء الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوربي أو عدد من العواصم الغربية.

أحداث عنف في ولاية النيل الأزرق بالسودان

في هذا السياق يكون السؤال المشروع ماذا ينتظر السودانيون حتى ينخرطوا في محاولة ترميم دولتهم التي قاربت على التشظي، خصوصا أن الانفجارات القبلية باتت خبرا يوميا في جميع أنحاء السودان، وفقدان الناس لحيواتهم بات مضجرا ومؤلما في آن واحد خصوصا مع حوادث سرقة مخازن الأسلحة التابعة للجيش في بعض المناطق كما حدث في ولاية النيل الأزرق.

يبدو لي أن تحديات الوصول لتسوية سياسية في السودان ناتجة عن عدد من العوامل منها أولا فقدان الثقة في حقيقة انسحاب المكون العسكري من العملية السياسية، وهو سبب رئيسي في التعثر الراهن، ويعتمد هذا التقدير على مؤشرين، الأول مساندة المكون العسكري لمبادرة “أهل السودان” المحسوبة على الإسلاميين السودانيين، إلى حد إرسال مبعوثين للترويج لها في مصر مؤخرا، في أوساط الجالية السودانية التي تقدر أعدادها بالملايين، بما يعني أن لها ثقلا انتخابيا من المطلوب الاستثمار فيه.

أما المؤشر الثاني فهو عدم صدور موقف واضح عن المؤسسة العسكرية بشأن مبادرة مشروع الدستور الانتقالي الذي بلورته نقابة المحامين، بخلاف ما ذكره العقيد إبراهيم الحوري رئيس تحرير جريدة القوات المسلحة السودانية، بأنها -المبادرة- منافية ليس للتقاليد والأعراف السودانية فقط ولكن أيضا للدين!، وهو رد يهرب من المتن ولا يضع عليه مجرد هوامش، كما يعد بالونة اختبار لموقف المجتمع الدولي إزاء رفض المكون العسكري للمبادرة التي تحوز على دعم دولي.

ثالثا: يشكل إقدام سلطة الأمرالواقع على استثمار خلافات قبلية وتصعيدها أو التأخر في إخمادها، واتخاذ إجراءات أمنية لتطويقها وخلق تناقضات بين قوى النظام القديم، والمحسوبين على تحالف الحرية والتغيير المركزي، عوامل تساهم في إنتاج مزيد من السيولة السياسية والأمنية في السودان، وتنتج مشهدا ملتهبا نراه في شرق السودان ودارفور وأخيرا في ولاية النيل الأزرق، حيث يفقد المئات حياتهم على شكل متقطع، بينما إجمالي الضحايا بالآلاف.

أما العامل الرابع فهو حالة الانقسام ليس بين أطراف المعادلة السياسية السودانية فقط، لكن أيضا على المستوى الداخلي في كل كيان أو حزب سياسي. فأحزاب الأمة والاتحادي والشعبي أصحاب القواعد الجماهيرية الكبيرة في السودان، كل منهم منقسم لجناحين أحدهما منحاز للحرية والتغيير المركزي، والآخر يتوافق وإن كان سريا مع جزء من المكون العسكري.

أما المكون العسكري ذاته فهو منقسم إلى ثلاثة بأوزان نسبية متغيرة فهناك رئيس المجلس السيادي الفريق عبدالفتاح البرهان الذي يرمي بثقله وراء عناصر النظام القديم لأسباب متعلقة بثلاث أمور الأول تقدير موقف، أنه لا استقرار في السودان دون ضمان التمثيل السياسي للإسلاميين، الثاني أن قائد قوات الدعم السريع “حميدتي” غريم البرهان السياسي ينحاز لتحالف المعارضة الحرية والتغيير أما ثالثا أن المحيط العسكري والاجتماعي والسياسي للبرهان تاريخيا هو وسط هؤلاء وبالتالي من الصعوبة على الرجل إنكار هذا المحيط.

وأخيرا فإن تعثر التسوية أو استئناف العملية السياسية يعود أيضا إلى ضغوط يمارسها الحزب الشيوعي السوداني على تحالف المعارضة الحرية والتغيير بنسخه المتعددة بين مركزي وتوافق وطني واتحادي ومؤتمر شعبي إلخ.. وينحاز للحزب الشيوعي في هذه الضغوط قسم من لجان المقاومة الشبابية، في رفض العملية السياسية القائمة على تفاوض بين المكونيين المدني والعسكري والمطالبة بضرورة إزاحة العسكريين من كامل المشهد السياسي، دون الأخذ في الاعتبار معطيات الموقع الجيبولتيكي للسودان وتداعياته الإقليمية.

ويمكن القول إن ضغوط الحزب الشيوعي تجعل موقف الحرية والتغيير من مسألة العدالة الانتقالية كما ورد في موقف التحالف من مشروع الدستور الانتقالي مرتبكا وغير واضح، إذ أن مفهوم هذه العدالة ينطوي عل إمكانية الإفلات من العقاب للمتورطين سياسيا التي رفضها بيان الحرية والتغيير المركزي ولكن بشروط التسامح والتعويض للضحايا، هذا الارتباك في وقت يشكل فيه الركون لآلية العدالة مسألة مفصلية في المشهد السوداني، فدونها لن يتنازل المكون العسكري عن سلطته، ولعل مقولات محمد حمدان دقلوا (حمديتي) في هذا الصدد واضحة لا لبس فيها.

وبطبيعة الحال يشكل التكوين الأفقي للجان المقاومة تحدي أمام بلورة القوة الشبابية، حيث يعوزهم تكوين رأسي حتى يكونوا مؤثرين على نحو أكبر في المشهد السياسي، والمساهمة في حسم توجهاته، وبالتالي لا يتم استخدامهم كوقود للحراك الثوري دون مقابل سياسي.

ويمكن أن نضيف أيضا أن السيولة السياسية في السودان أصبحت مغرية للجبهة الثورية بفصائلها المختلفة في ممارسة ضغوط سياسية متنوعة، ولعل ما يجري في ولاية النيل الأزرق أحد مظاهر هذه الحالة. على الرغم من ضعف قدرات الفصائل المسلحة التابعة لهم ويبدو أن هذه الضغوط قائمة على تقدير موقف أنه بإمكانهم حسم معادلة الحكم في السودان إذا تحالف معهم محمد حمدان دقلو قائد قوات الدعم السريع، ولكن هذا التقدير يفتقد تقدير صحيح لأثر الفروق العرقية في تحالفهم مع دقلو، وكذلك طبيعة رد القوات المسلحة السودانية وهوالأمر الذي يعني في التحليل الأخير نشوب حرب أهلية شاملة في السودان.

في تقديري أن الفترة المقبلة في السودان ستشهد تصعيدا من كافة الأطراف بعد أن فشل الجميع في الوصول لتسوية سياسية قبل الذكرى الأولى لـ25 أكتوبر التي جرى فيها إقالة رئيس الوزراء المدني الدكتور عبدلله حمدوك، وقد بدأت ملامح وبوادر هذا التصعيد واضحة في المظاهرات الأخيرة، وكذلك تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن من نيروبي صباح يوم المظاهرات، بأنه ضرورة أن تعود الشرعية إلى السودان عبر حكومة مدنية، وأن هذا هو الطريق الوحيد لاكتساب دعم العالم.