كتبت- فاطمة الزهراء بدوي:
في صباح يوم 15 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي شهد مبنى إدارة كفر الدوار التعليمية بمحافظة البحيرة، حادثا مأساويا. إذ سكب ولي أمر “كحول” على ملابسه وأشعل النيران في نفسه، بعدما رفضت مدرسة ابنه المُقيد في الصف الأول الابتدائي، تسليمه الكتب المدرسية، لعدم دفع المصروفات.
قرر وقتها وكيل وزارة التربية والتعليم بالبحيرة، استبعاد مديرة مدرسة إبراهيم عبدالعال للتعليم الأساسي بإدارة بندر كفر الدوار التعليمية، بسبب مخالفتها قرارات الوزارة بشأن عدم ربط تسليم الكتب الدراسية بالمصروفات.
“أنا بشتغل سواق وبيطلعلي في اليوم من 100 لـ150 جنيها، وعندي ولدين بيدرسوا إعدادي وثانوي، ودفعتلهم مصاريف فوق الـ800 جنيه.. ده غير الكتب اللي بيشتروها والدروس الخصوصية اللي بتبدأ قبل الدراسة نفسها.. أنا دلوقتي تقريبا أكتر من نص اللي بتحصل عليه في الشهر بيتبخر، قبل لسة ما أفكر في باقي المصاريف التانية للبيت”. هكذا يصف سامي السيد، سائق أحواله المالية والمعيشية.
أما “مجدي صلاح” رب أسرة مكونة من أربعة أفراد، يقول عن الأعباء المالية المتزايدة على عاتقه: “مش قادر أصرف على ولادي.. الحمل زاد أوي عليّا، وأخشى أن ينتهي بنا الأمر أن يصبح التعليم للأثرياء فقط، وينهار التعليم المجاني”.
يضيف “مجدي” الذي يعمل في أحد الورش بشبرا الخيمة، أن أكثر ما يخيفه في بداية العام الدراسي هو المشهد الذي يعيش في الذاكرة (ينادوا ع العيال بالاسم اللي ما دفعوش المصاريف ويطلعوهم برة الطابور قدام صحابهم). يقول صلاح: “ممكن أموت فيها الحركة دي”.
“كيف لولي أمر في ظل غلاء المعيشة أن يُطلب منه كل هذه المصروفات؟ أنا شايف أن المواطن اللي حرق نفسه مش مجنون، لكن ده حصل نتيجة قهر وضغط كبير تعرض له وغيره كتير للأسف على وشك الانهيار.. أنا حاسس بعجز وهزيمة أمام أولادي وأهل بيتي. وأنا مش قادر أوفر لهم طلباتهم” يقول عادل السيد العامل بأحد مصانع مدينة العاشر من رمضان لـ “مصر 360”.
قرار غير مفعل
أزمة تتجدد كل عام، دون حلول واضحة تلوح في المستقبل القريب. المشكلة القديمة تتجدد رغم تأكيدات وزارة التعليم المستمرة. إذ لا يمكن بحسب وزير التعليم رضا حجازي، ربط دفع المصروفات المدرسية بتسليم الكتاب المدرسي للطلاب والتلاميذ خاصة في المراحل الأولية من التعليم الأساسي.
ورغم مرور شهر على انطلاق الدراسة، التي انطلق أول أيامها في 1 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إلا أن المشكلة لم تنته إلى اليوم بشكل كامل، خاصة في المحافظات، التي مازالت المدارس فيها تربط تسليم الكتاب المدرسي بدفع المصروفات، رغم الأزمة الاقتصادية التي يعيشها أغلب الأسر المصرية.
الأعباء الملقاة على عاتق أولياء الأمور لم تتوقف عند هذا الحد، إذ أن عدد من أولياء الأمور عبروا عن مخاوفهم الكبيرة من حديث وزير التعليم أمام البرلمان والخاص بترخيص مراكز الدروس الخصوصية (السناتر)، ما قد يؤدي لحسب ما قالو إلى ارتفاع أسعار حصص الدروس الخصوصية بشكل يفوق طاقتهم.
وزارة التربية والتعليم، شددت على مديريات التربية والتعليم، في عدد من القرارات بمتابعة تنفيذ تقسيط المصروفات المدرسية بالمدارس الحكومية والخاصة والرسمية لغات للعام الدراسي 2022/2023 وعدم ربط المصروفات بتسليم الكتب الدراسية.
ورغم تعميم القرار تشكو “إيمان العزب” أرملة وأم لثلاثة أبناء من تعنت المدرسة في تسليم الكتب لأولادها. تقول: “رفضوا يسلموا ابني وبنتي في ابتدائي الكتب الدراسية لأنهم مدفعوش المصروفات. أنا تعبت من الشغل واللف على الشغل عشان أكفي مصروفاتهم. مستعدة أمسح سلالم أو اشتغل في البيوت عشان يكملوا تعليمهم وأشوفهم أحسن ناس. بس اللي بيحصل حرام”.
“إن ربط دفع المصروفات الدراسية لهذا العام والأعوام المنصرمة، باستلام الكتب المدرسية، تسبب في شكاوى عدد من أولياء الأمور، وزيادة الضغط على عدد كبير من الأسر المصرية. إذ امتنعت الكثير من إدارات المدارس عن تسليم الكتب المدرسية للطلاب، دون مراعاة الظروف المادية لأولياء الأمور، والظروف الاقتصادية في مصر”. جاء ذلك في طلب إحاطة قدمه الدكتور فريد البياضي، عضو مجلس النواب إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير التربية والتعليم.
على الجانب الآخر يُعلق ناصر عبد الر حيم، مدير مدرسة الشهيد محمد عبد الفتاح الثانوية بمحافظة الفيوم لـ”مصر 360″ على المشكلة: “بعض المدارس في الريف يوجد بها من يدفع المصروفات للطلاب غير القادرين. أما البعض الآخر بيقدم بحث اجتماعي لحالته ليٌعفى من جزء كبير من المصروفات”.
معاناة الفقراء
تتسبب معدلات الفقر الكبيرة في خلق تحدّيات تُمثل عائقًا أمام الأطفال خاصةً في التعليم. كما تؤدي إلى زيادة معدلات الاكتئاب لديهم. كما يقلل الفقر ومحدودية الدخل من مهاراتهم الاجتماعية والإبداعية، خاصة إذا تعرضوا لمضايقات لها علاقة بعدم القدرة على دفع المصروفات أو توفير الملابس أو شراء المستلزمات الدراسية.
واعتمادا على بحث الدخل والإنفاق الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإنه رغم ارتفاع حجم الدخل الأسبوعي للفرد في مصر من 44 جنيها عام 1990 إلى 942 جنيها عام 2021، إلا أن مستويات الأسعار والتضخم عملت على تآكل هذه الزيادة.
العام الجاري حددت الوزارة قيمة المصروفات الدراسية بالمدارس الحكومية كما يلي: مصروفات رياض الأطفال حتى الصف الرابع الابتدائي 305 جنيهات، ومن الصف الخامس الابتدائي حتى الثالث الإعدادي 205 جنيهات، والصف الأول الثانوي العام 520 جنيهًا، والصفان الثاني والثالث الثانوي العام 505 جنيهات، والصف الأول الثانوي الفني بكل أنواعه 220 جنيهًا، وباقي صفوف التعليم الثانوي الفني بكل أنواعه 205 جنيهات.
الأمر دفع عددا من الشخصيات العامة إلى طرح مبادرات مجتمعية بشأن ذلك، حيث جاء في اقتراح سابق لصلاح السكري، الخبير الاقتصادي، يطالب فيه رجال الأعمال بدفع رسوم طلبة المدراس، ومن ثم خصمها من الوعاء الضريبي، في محاولة لتخفيف العبء عن كاهل الأسرة
زيادة أعباء
لم تقف الأعباء لدى الأسر الفقيرة والمتوسطة عند حد المصروفات الدراسية؛ بل امتدت إلى الدروس الخصوصية. يقول فكري داود، المدير العام السابق في التربية والتعليم لـ “مصر 360”: “تُمثل زيادة المصروفات المدرسية عبئًا إضافيًّا على أولياء الأمور، خصوصًا أن من لديه ابن في المدرسة، بات في حاجة شبه إجبارية، على إرساله إلى مُحترفي الدروس الخصوصية، تقريبًا في كل المواد، وهو ما يحتاج إلى مزيد من المال”. كذلك وصف الدروس الخصوصية بـ”البديل شبه المُسلم به” للمدارس.
يزداد الخوف من عدم القدرة على توفير احتياجات الدراسة عند الأسر الفقيرة عقب تصريحات الوزير رضا حجازي في مجلس النواب، الخاصة بترخيص مراكز الدروس الخصوصية وتقنين أوضاعها.
“كان من الأجدر الاهتمام بطرح أفكار سريعة لعودة دور المدرسة الأساسي وحل المشكلات التي تعوق ذلك سواء عجز المعلمين أو كثافة الفصول”. تقول داليا الحزاوي، مؤسس ائتلاف أولياء أمور مصر لـ “مصر 360”.
“ومن الطبيعي أن يكون هناك تخوفات لدى أولياء الأمور بأن تقنين مراكز الدروس الخصوصية سيزيد من ثمن الحصة علي أولادهم. كما أن فكرة إسناد مجموعات التقوية في المدارس لشركة خاصة لإدارتها أثار تخوف أولياء الأمور من أن ذلك سيترتب عليه ارتفاع أسعار مجموعات التقوية”. تقول “الحزاوي”.
التأثير النفسي
الخبير التربوي كمال مغيث، يقول تعليقا على ولي الأمر الذي أحرق نفسه في البحيرة: “نريد أن نعرف ما هو الأساس الدستوري والقانوني الذي بمقتضاه قررت القيادة السياسية إلغاء بند مجانية التعليم في مدارس الدولة، بعد أن استقر هذا المبدأ في الدساتير والقوانين المصرية لسنوات عديدة.
“زيادة المصروفات الدراسة لها تأثير سلبي على طلاب الأسر الفقيرة على وجه الخصوص؛ لأن ولي الأمر الذي تُعجزه الحياة بمتطلباتها فضلا عن أعبائها المعيشية بزيادة مصروفات تعليم أبنائه؛ قد يدفعه ذلك أن يفكر في نفض يده من تعليم أولاده؛ فتزيد الأمية ويُخصم ذلك كله من رصيد الأمة في النهوض والتقدم”. يقول الدكتور مصطفى الحاروني، أستاذ ورئيس قسم علم النفس التربوي الأسبق بكلية التربية جامعة حلوان
ويضيف الحاروني لـ”مصر 360″: “لا شك أن رؤية الطالب لوالده المتعثر في دفع مصروفاته أو الضجر منها قد تجعله يكره الاستمرار في التعليم ويشعر بالدونية مقارنةً بزملائه، فيهجر التعليم تماما”.
ويشجب الدكتور صفوت هنداوي، الأستاذ المساعد بكلية التربية جامعة دمنهور، ذلك التعنت بشأن دفع المصاريف الدراسية: “طبعًا هذا تصرف غير مقبول وخصوصًا أن هناك قرارات من وزارة التربية والتعليم تحدد فيها الزيادة المُقررة كل عام. كما أن الوزارة ترفض إرسال نشرات للمدارس بهذه الزيادة. بل أن هناك نشرات نزلت خلال هذا العام تمنع مديري المدارس من قبول أية تبرعات عند نقل الطلاب أو تحويلهم من مدرسة لأخرى أو لأي سبب آخر”.
حضيض وعبث
وبشأن ما تقدم عليه مدارس كثيرة من عدم تسليم الكتب المدرسية للطلاب الذين لم يتمكنوا من تسديد المصروفات للأعوام الماضية، تقدم المهندس إيهاب منصور رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، ووكيل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، بطلب إحاطة مُوجه لوزير التربية والتعليم. أوضح فيه أن هذا التصرف تجاهل الأحداث التي طرأت ليس على مصر فحسب، بل على العالم أجمع ومنها جائحة فيروس كورونا وتأثيراتها السلبية على الاقتصاد المصري والعالمي، والارتفاع الكبير في الأسعار الذي أثقل كاهل الأسر المصرية.
وأشار “منصور” إلي أن المادة رقم 19 من الدستور المصري نصت على أن “التعليم إلزامي حتي نهاية المرحلة الثانوية أو ما يُعادلها وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة في مؤسسات الدولة التعليمية”. فطبقًا لنص الدستور فإن التعليم إلزامي ومجاني، لكن ما يحدث هو معاقبة المواطن على أزمات اقتصادية طاحنة.
“التعليم ليس مجالاً للمغامرات” يقول الخبير التربوي كمال مغيث الذي يرى أن الحديث عن تطوير للتعليم محض عبث شديد. كما يضيف: “إحنا عشنا خمس سنوات في مغامرة التابلت مع الوزير السابق طارق شوقي، ولا يوجد ورقة واحدة مكتوبة عن ماذا تم خلال تلك السنوات وما هي النتائج بعد صرف مليارات الجنيهات”.
يضيف الخبير التربوي لـ”مصر 360″ أن التعليم وصل إلى الحضيض خاصة من حيث المنشآت التي تعاني نقصا واضحا في أعدادها ما يؤدي إلى تكدس الطلاب بشكل كبير داخل الفصول. بالإضافة إلى رواتب المعلمين المتدنية، وتدهور ميزانية التعليم التي لا تصل إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي والتي يحددها الدستور بـ4%.
ويرى “مغيث” أن هناك مشكلة في تحديد المبادئ: “لازم يستقر في ذهننا أن التعليم هو أهم مشروع في الدولة، أهم من أي حاجة تانية.. يعنى تمويل الأولوية للإنفاق تكون على التعليم.. التعليم هو اللي هيعمل مواطن واعي وهو اللي هيفهم الناس يعني إيه أمن قومي. فلا بد أن ننظر إليه على أنه مشروع وطني.. فالتعليم ليس حق في خدمة ولكنه استثمار في المستقبل”. يضيف “مغيث”.
وبحسب البنك الدولي، فأن تدني حجم الإنفاق على التعليم في مصر، وتراجع أعداد المعلمين والفصول، وضع التعليم العام تحت ضغط كبير. كما أشار إلى أن هناك نحو 60 ألف مدرسة حكومية في البلاد. لكن البنك أكد أن هذا العدد لا يتناسب أبدا مع أعداد الطلاب. بينما تُرجع وزارة التعليم نقص المنشآت إلى عجز في الإمكانات المالية.