بعد ما يزيد من عقد كامل منذ اندلاع الثورة المصرية في يناير 2011، وتوابعها، يبقى التساؤل حول ماهية الأدوار الإقليمية التي تلعبها دولة كبيرة مثل مصر، سواء بالعمق التاريخي، أو بحجم السكان، أو بحيوية وفاعلية الأدوار السياسية في المنطقة، وفي القلب منها الصراع التاريخي حول المسألة الفلسطينية.

وتبرز لنا العديد من الأنماط التي تتسم بها السياسة الخارجية المصرية وأدوارها الإقليمية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، ويأتي على رأسها:

1- اهتمام مصري متزايد بالتعاون الاقتصادي

شهدت السياسة الخارجية المصرية ما بعد ثورة 2011 عموما، وفي ظل نظام يوليو 2013 خصوصا تغيرات وتحركات مختلفة عن السياسة الخارجية في العهد السابق في عصر مبارك (1981 – 2011). وفي هذا الصدد فإن أحد أبرز المستجدات هو تنوع التحرك الدبلوماسي المصري وشموليته ليشمل ليس فقط دفع مناحي العلاقات السياسية وإنما أيضًا تعزيز مجالات التعاون الاقتصادي والثقافي. [1]

شهدت مصر ما بعد 2013 طفرة في المشروعات الاقتصادية وبناء مدن جديدة داخل البلاد، وتزامنا مع ذلك شهدت أيضا إبرام العديد من الاتفاقات والشروع في عمل مشروعات وشراكات اقتصادية مع العديد من دول الجوار في منطقة الشرق الأوسط.

ولعل من أبرز هذه المشاريع والشراكات هو تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط، وإقامة شبكة الربط الكهربائي بين مصر والسودان، إضافة إلى ربط شبكة الطرق البرية وفتح معبرين بريين جديدين بين البلدين، فضلا عن الإعلان عن تمويل بقيمة 500 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي.

كما اهتمت مصر بتطوير علاقاتها وتبادلها الاقتصادي مع دولة الجوار، السودان، ووضعت التبادل الاقتصادي كأحد المحاور الرئيسية في الانطلاق بالعلاقات الثنائية، مما انعكس في الربط البري مع السودان بمعبرين بريين جديدين، قسطل – أرقين، بدلا من الاعتماد على النقل النهري فحسب بين البلدين. كما شهد عام 2020 تطورا لاحقا يتمثل في الربط الكهربائي بين البلدين.

انطلقت مصر أيضا في تدشين آلية التعاون الثلاثي بينها وبين العراق والأردن، إذ تم عقد قمة بين زعماء الدول الثلاث في 24 مارس 2019 في القاهرة، تبعتها ثلاث قمم أخرى، واحدة على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 22 سبتمبر 2019، والثالثة بالأردن في 25 أغسطس من نفس العام، والرابعة في بغداد في 27 يونيو 2020. واحتلت أيضا المشاريع الاقتصادية موقعا رئيسيا من المناقشات، إذ جرى مناقشة التعاون في مجالات مختلفة من الطاقة والربط الكهربائي، الأمن الغذائي، الغاز، المناطق اللوجستية، وغيرها من المشروعات الاقتصادية.[2]

2 – استراتيجية تحويل مصر إلى مركز إقليمي للطاقة

في أغسطس 2015 تم اكتشاف حقل “ظهر” العملاق ضمن حدود المياه الإقليمية المصرية في شرق البحر المتوسط، وهو الاكتشاف الذي كانت له العديد من الانعكاسات والتأثيرات، بدءا من التأثير على العلاقات المصرية – التركية، والأخيرة معروفة بنزاعاتها على حقول النفط والغاز البحرية مع قبرص، ولجوء مصر لتشكيل تحالفات خارجية جديدة في نطاق البحر المتوسط، جاء أبرزها مساهمة مصر في إنشاء منتدى شرق المتوسط للغاز في يناير 2019 ثم أصبح منظمة دولية إقليمية متكاملة الأركان تستضيفها مصر، بعد مبادرتها لتحويله منظمة إقليمية، اعتبارًا من أغسطس 2020، ويضم المنتدى ضمن عضويته أربع دول أعضاء بالاتحاد الأوروبي، هي: إيطاليا وفرنسا وقبرص واليونان.

ويؤكد هذا التوجه أحد التحليلات السياسية المنشورة ضمن مركز دعم واتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري، والذي يذكر فيه ضمن الأهداف والدوائر الجديدة للسياسة الخارجية المصرية ما بعد 30 يونيو 2013 أن “هذه الاكتشافات أدت إلى تحول شرق المتوسط إلى منطقة استراتيجية، وبدأ يظهر في إطارها تفاعلات وتحالفات جديدة، ومشروعات للتعاون لم تكن موجودة من قبل، وقد نشطت السياسة الخارجية المصرية في هذه المنطقة، وتمثل ذلك في العديد من لقاءات القمة بين مصر واليونان وقبرص، بالإضافة لتعاون عسكري ومناورات مشتركة في البحر المتوسط، وطرح مشروعات للتعاون الاقتصادي منها فكرة الاستفادة من محطات تصدير الغاز المسال LNG الموجودة بمصر – والتي لم تعد تعمل بكامل طاقاتها- من أجل تصدير غاز المنطقة للقارة الأوروبية”[3].

3- تنافس إقليمي مصري – تركي

وقد استتبع السعي لتحقيق هذا الهدف ضمن السياسة الخارجية العديد من الإجراءات والمشاريع الداخلية، وتطوير البنى التحتية والطرق ضمن هذا الهدف داخل البلاد كمقومات ضرورية لتحويل البلاد إلى مركز إقليمي حقيقي للطاقة. وبالتالي يمكن الطرح بربط اكتشاف حقل “ظهر” المصري كأحد الحوافز الجاذبة والتي أدت في النهاية إلى موافقة صندوق النقد الدولي على عقد اتفاق مع مصر في أغسطس 2016، بموجبه حصلت مصر على قرض قيمته 12 مليار دولار.[4]

كما ربطت مصر جهودها على جبهتين هما: شرق المتوسط والأزمة الليبية، وذلك ضمن جهود إعادة صياغة دورها الجيوسياسي وأهدافها الاستراتيجية في المنطقة، حيث اتسم الأداء المصري بالترابط والديناميكية، والتنافس مع تركيا التي كانت تزاحم مصر على نفس الجبهتين، وهو ما رأته بعض المصادر الدبلوماسية المصرية محاولات لخنق وإخضاع النظام المصري من قبل تركيا، وهو ما استهدفت السياسة الخارجية المصرية كسر طوق الحصار التركي المفروض عليها، ورأت أنها حققته بشكل كبير عن طريق إعلان القاهرة وما استتبعه من جهود لحل الأزمة الليبية وإنهاء الاستقطاب بين الحكومتين في شرق وغرب ليبيا من ناحية، وعن طريق منتدى شرق المتوسط للغاز، وجذب دول الاتحاد الأوروبي وإغرائها بفك الهيمنة الروسية والتبعية الأوروبية لها في الحاجة إلى الغاز عن طريق تصدير الغاز من مصر إلى القارة الأوروبية، إضافة إلى الخطط الطموحة في تصدير الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عن طريق مصر أيضا.[5]

4- المساهمة في جهود إعادة الإعمار تزامنا مع جهود الوساطة التاريخية في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي

بالرغم من أن مساعي التطبيع العربية المتزايدة مؤخرا بقيادة محور دول الخليج العربي مع إسرائيل قد تؤثر بالسلب على ريادة مصر وموقعها المحوري التاريخي من القضية الفلسطينية، والتي على إثره تتقاضى مصر ثاني أكبر معونة أمريكية سنويا، بعد إسرائيل، منذ أكثر من أربعين عاما من معاهدة كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس الراحل أنور السادات. إلا أن السياسة الخارجية المصرية حاولت المناورة وإبداء المرونة وكسب مزيد من الرصيد عن طريق التأثير في اتفاقات التهدئة بين إسرائيل وقطاع غزة، عن طريق جهود الوساطة التي تتصدرها المخابرات المصرية، وهو ما نتج عنه مؤخرا التوصل لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس في مايو 2021، ساهمت مصر بالجهد الأكبر لتحقيقه، وفضلا عن ذلك فقد أضافت مصر للمرة الأولى تقريبا بعدا اقتصاديا ضمن هذا الدور الذي تقوم به سياستها الخارجية، وهو ما تمثل في الإعلان عن تمويل بقيمة 500 مليون دولار لإعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي.

5- محاولات تحقيق الريادة المصرية في إفريقيا، وخصوصا تحقيق تواجد أكبر ومساهمة اقتصادية في التنمية مع دول حوض النيل

أظهرت السياسة الخارجية المصرية اهتماما أكبر بدائرتها الإفريقية خلال السنوات الأخيرة، إذ قامت مصر في يوليو 2014 بتأسيس الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، لدفع علاقات الشراكة والتعاون مع الدول الإفريقية. كما عقدت مصر أيضا منتدى إفريقيا في شرم الشيخ برئاسة الرئيس عبد الفتاح السيسي في عام 2018، والذي أعلن فيه تخطي إجمالي الاستثمارات المصرية في القارة الإفريقية 10.2 مليار دولار. وقد ترأست مصر الاتحاد الإفريقي في عام 2019، ويأتي على رأس الأجندة المصرية في دائرتها الإفريقية قضية مياه النيل، وأولوية الحفاظ على حصة مصر فيه، والتي من المتوقع أن تتأثر بعد تشغيل سد النهضة الإثيوبي، ولازالت إثيوبيا حتى اللحظة الراهنة تراوغ في محاولة للتملص من اتفاق ملزم مع مصر والسودان حول قواعد تشغيل وملء سد النهضة، إذ تعتبره مسألة من مسائل السيادة والشؤون الداخلية الإثيوبية.

وجدير بالذكر أن السياسة الخارجية المصرية في إفريقيا لا تعتمد فقط على جهود الدولة المصرية ممثلة في وزارة الخارجية وبقية الأجهزة الحكومية، بل ينشط القطاع الخاص المصري بشكل بارز في إفريقيا، تحديدا في 11 شركة كبرى منها: المقاولون العرب، السويدي للكابلات، أوراسكوم، القلعة، وغيرها.[6] وعلى سبيل المثال فقد جاء العقد المبرم لإنشاء محطة كهرومائية لسد يوليوس نيريري في تنزانيا كأحد أضخم العقود المبرمة لشركات مصرية في إفريقيا، بإجمالي يقارب 2.9 مليار دولار ممولة من قبل الحكومة التنزانية.[7]

خاتمة:

بعد استعراض الأنماط البارزة في التوجهات والأدوار الإقليمية للسياسة الخارجية المصرية ما بعد 2013، تبرز بعض الأبعاد السياسية متمثلة في بعد آخر من أبعاد التنافس المصري – التركي في حقول الغاز في شرق المتوسط، إضافة إلى الصراع الليبي. كما يتضح مزيد من التقارب المصري – الإسرائيلي سواء بكون إسرائيل عضو مؤسس في منتدى شرق المتوسط للغاز، والذي دعت القاهرة لتأسيسه. إضافة إلى افتراض التنسيق المتزامن مع جهود مصر في إعادة الإعمار في قطاع غزة، وهو ما تم الإعلان عن نصف مليار دولار مخصص لذلك، ناهيك عن جهود الوساطة التاريخية المصرية سواء بين حماس وفتح، أو بين حماس وإسرائيل.

فضلا عن ذلك، فإن محاولات مصر استعادة دورها الريادي في إفريقيا، خصوصا مع تحديات اقتراب التشغيل الكامل لسد النهضة وتأثيراته على الأمن المائي المصري، انعكست في جهود ومبادرات مصرية عديدة في الدائرة الإفريقية، دمجت فيها مصر الشقين السياسي والاقتصادي معا، سواء بحصول شركات مصرية على صفقة بناء سد نيريري في تنزانيا، وهي الصفقة التي تكاد تصل إلى ثلث حجم إجمالي الاستثمارات المصرية في القارة الإفريقية بأسرها.


[1] إنجازات السياسة الخارجية المصرية، الهيئة العامة للاستعلامات، 7 يونيو/ حزيران 2021.

https://www.sis.gov.eg/Story/219407/%D8%A7%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B2%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9?lang=ar

[2] https://idsc.gov.eg/DocumentLibrary/View/4883

[3] السياسة الخارجية المصرية ما بعد 30 يونيو: أهداف ودوائر جديدة

https://www.idsc.gov.eg/DocumentLibrary/View/4890

[4] توجهات السياسة الخارجية المصرية (2014 – حتى الآن)

https://idsc.gov.eg/DocumentLibrary/View/4883

[5] مصدر الخريطة، تقرير صادر من مركز الأبحاث التابع للبرلمان الأوروبي، بعنوان :”Egypt’s foreign policy within a challenging regional context” بتاريخ 11 أكتوبر/ تشرين الأول 2021.

https://www.europarl.europa.eu/thinktank/en/document/EPRS_BRI(2021)698062

[6] Egypt & Africa – Egyptian-African Economic Relations (sis.gov.eg)

[7] Egypt building Tanzanian dam – Egypt – Al-Ahram Weekly – Ahram Online