جريًا على ما كنا نقلد به أساتذتنا في المحاماة، أريد أن أثبت في البداية أنني واحدٌ من هؤلاء الذين ينتمون إلى ثورة يوليو الناصرية، لا أتبرأ من ذلك ولستُ أنكره، بل أفخر به وأتشرف. ومع ذلك فقد كانت لي إسهامات كثيرة في نقد الفترة الناصرية من ثورة يوليو، كتبتُ بعضها في جريدة “العربي” الناصرية، وكثيرٌ منها صدر في مقالاتٍ وكتب وحوارات منشورة، ومنها مقالات نُشر بعضها هنا على موقع “مصر 360“، وفي مواقع أخرى قبلها.
وأُثبتُ أيضًا أنني -على عكس الرؤية الناصرية المتفشية في أوساط الناصريين- أرى أن “دولة يوليو” رغم انتكاسة الثورة استمرت تحكم مصر في عهودها المختلفة باختلاف الرؤساء والسياسات والتوجهات والانحيازات، وعندي أن “دولة يوليو” تتكون من جمهوريتين، جمهورية تأسست 1954 وظلت قائمة حتى اندلاع حرب أكتوبر، أثناء الحرب وبعدها ولدت الجمهورية الثانية التي أسميها “جمهورية السادات” على اسم مؤسسها وواضع لبنتها الأولى فوق الجدار الذي كانت جمهورية عبد الناصر قد شيدته طوال 16 سنة.
الجمهورية الثانية تأسست على نقض الأسس التي كانت قد استقرت في جمهورية عبد الناصر، وبحثت عن شرعية لها في أعقاب حرب 1973، بدأت بطرح ورقة أكتوبر 1974 ثم جاء قانون الاستثمار 1975 ليصنع انحيازاتها في الداخل ضد الغلابة والفقراء، ولتصنع لها نصيرًا طبقيًا من الطفيليين والسماسرة والناهبين لثروات مصر، حتى تجيء اتفاقية كامب ديفيد 1979 لتضع حجر الأساس لتبعية مصر للخارج، ووضعت مائة في المائة من أوراق اللعبة في يد الأمريكان وحليفتهم في إسرائيل.
تلك الجمهورية التي نعيش اليوم في ظل نسختها الثالثة تقوم على الأسس نفسها، والتوجهات الرئيسية ذاتها، بطبعة جديدة تضيف إلى السوءات السابقة سوءًا مضافًا.
**
لا يمكن لعاقل أن يقول إن جمهورية السادات هي امتداد طبيعي لجمهورية عبد الناصر لمجرد امتداد الزمن بينهما بدون انقطاع، لكنها كانت -على الحقيقة- ثورة ضدها، ثورة ضد الثورة، بل إني أذهب إلى القول بأن الجمهورية الثانية جاءت لتتوج مسيرة طويلة من الثورة المضادة في التاريخ المصري، ذلك التاريخ الذي يمضي طوال القرنين الأخيرين بين مسيرتين، مسيرة الثورة، ومسيرة الثورة المضادة.
مسار الثورة يمثله في واحدة من أهم نقاطه الثورة العرابية قرب نهاية القرن التاسع عشر، ثم يمتد حبلها في صحوة مصطفى كامل ومحمد فريد قبيل الحرب العالمية الأولى (1914 ـ1918)، ثم تأتي ثورة مارس 1919 كواحدة من أهم محطاته الرئيسية، ثم أعقبتها ثورة يوليو لتكون -شاء من شاء وأبى من أبى- المحطة الأحدث على مسيرة الثورة ضد الأوضاع المتخلفة والمظالم التي يعاني منها المواطن والحقوق الغائبة التي حرمت منها الأغلبية على مدار السنين.
حتى الفترة ما بين ثورة 1919 حتى ثورة 1952 والتي يتغنى بها البعض، لم يكتب لقوى الثورة المصرية التي ظلت تناضل من بعد الحرب العالمية الأولى ضد الاحتلال، والحكم المطلق الممثل في الاستبداد الملكي، وكانت تهدف إلى الاستقلال الوطني والديمقراطية، ممثلين في شعار الجلاء والدستور، استطاعت أن تحقق نجاحات مشهودة، ولكن المحصلة النهائية كانت لصالح الثورة المضادة.
وللأسف لم يستطع حزب الوفد أكبر تجسيدات ثورة 1919 السياسية أن يحكم أكثر من سبع سنوات ونصف السنة، رغم احتفاظه على مدار السنوات الثلاثين على الأغلبية التصويتية في الانتخابات البرلمانية، وعلى الأغلبية الشعبية في كل ربوع مصر ريفًا وحضرًا.
**
جاءت ثورة يوليو كميلاد جديد لمسيرة الثورة في مصر، وصنعت تاريخًا جديدًا لمصر وللمنطقة، ووصل تأثيرها إلى محيطها في الإقليم وفي حركة عالم ذلك الزمان، وقاد جمال عبد الناصر مرحلة الثورة من مارس 1954 حتى سبتمبر 1970 ، ثم جاء أنور السادات الذي رافقه طيلة هذه المسيرة مؤيدًا ومساندًا واضعًا صوته في جيب عبد الناصر، جاء ليقود مرحلة الثورة المضادة لكل توجهات وسياسات وانحيازات ثورة يوليو، صحيح أنهما ينتميان إلى الدولة التي أقامت أسسها الأولى ثورة يوليو 1952، لكن الصحيح أيضًا أن كلًا منهما أسس لجمهورية غير التي قادها الآخر، وأسس لها.
ما جرى في مصر والوطن العربي في أعقاب حرب أكتوبر سنة 1973 لم يكن مجرد ارتدادٍ ممنهجٍ ودؤوبٍ ومخططٍ ومدفوع الأجر على كل التوجهات والسياسات والقرارات والانحيازات والإجراءات التي سادت في الجمهورية الأولى (جمهورية ناصر)، لكنه كان على الحقيقة زلزالًا ما زلنا نعيش حتى اليوم ارتداداته، وما نزال نعاني من توابعه.
**
اختلافٌ كبير بين جمهورية عبد الناصر والجمهورية الثانية المستمرة حتى اليوم، والتي تأسست على نظرية جديدة في مسئولية الحاكم، كان عبد الناصر منحازًا للأغلبية الفقيرة من الشعب، وكان دائم الحديث بأن الشعب هو القائد وهو المعلم، وحين قيل عنه في وجوده بأنه قائد الأمة العربية اعترض على التوصيف، وقال ربما أكون تعبيرًا عن طموحات هذه الأمة في فترة من الزمن، على غير ما قاله خلفه من بعده حيث خاطب الرئيس أنور السادات نواب الشعب في المجلس الذي أطلق هو عليه اسم “مجلس الشعب”، فقال لهم: “أنا مسئول أمام الله لا أمامكم”.
الجمهورية الثانية هي التي توسعت بدرجة لم يسبق لها مثيل في سن التشريعات والقوانين سيئة السمعة كما سميت في حينه، من أول قانون العيب قانون حماية الوحدة الوطنية (1972)، ثم قانون حماية أمن الوطن والمواطنين (1977)، ثم قانون الجبهة الداخلية والسلام الاجتماعي (1978)، وغيرها من النصوص التشريعية التي كانت تعاقب على تحبيذ التظاهر ضد السلطة الحاكمة أو ضد أحد قراراتها، قانون على إثر قانون يأتي كل واحد منها بعدوان جديد على حقوق المواطنين وتقييد مستمر للحريات العامة، وتغليظ متصاعد لعقوبات على جرائم تعبر عنها القوانين بعبارات مطاطة قابلة للتفسير على الوجه الذي يزيد من كبت الحريات وإهدار الحقوق.
الجمهورية الثانية هي الجمهورية التي استيقظت فيها الفتنة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، وهي جمهورية أنا رئيس مسلم لدولة مسلمة، جمهورية الرئيس المؤمن.
الجمهورية الثانية هي بدورها إحدى مراحل الثورة المضادة في مصر وأهم حلقاتها التي استطاعت أن تحرز انتصارات متقدمة ضد الثورة وخاصة ضد تجربتها الرئيسية والأساسية الممثلة في جمهورية عبد الناصر.
لم يكن ارتداد الجمهورية الثانية موجهًا فقط ضد النظام الناصري، بل لعله استخدم آليات النظام نفسها لكي يسقط المقومات التي كرستها أخر مراحل الثورة في مصر.
**
حين انطلق حصان الزمن في مشواره من لحظة الانطلاق في مارس 1954 ليصل إلى محطة العام الثاني والعشرين بعد الألفين، لا يمكن لعاقل أن يثبت ويضخم من أثر الانطلاقة الأولى على كل هذا المشوار الطويل، خاصة وأن هذا الحصان قد نُزعت من أرجله ما يحميها من حدوات، وكُسرت عظامه وتخلصوا من سرجه، واستبدلوا به أحصنة أخرى تناسب من استجد على صهوته، وتناسب أكثر ما تركته المحطات الأخرى في هذا المشوار من آثار على حركته وتوجهاته وسرعته وكل ما يتعلق بحركته.
صحيح كانت البداية من استيلاء الجيش على الحكم بعد خلع الملك، ولكن لا يمكن أن نتناسى أن كل المؤرخين الموثوقين لم يجدوا فرصة للتغيير عبر الأوضاع التي كانت قائمة في مصر سنة 1952 عن غير طريق الانقلاب العسكري.
كرست السلطة العسكرية سيطرتها على الحكم والدولة من أجل تحقيق أهداف الثورة التي أيدها الشعب على الحقيقة، كانت الملكية قد انهارت وفي نزعها الأخير، وكانت القوى السياسية قد أثبتت فشلها عبر أكثر من ثلاثين سنة في أن تحدث تغييرًا حقيقيًا في المجتمع والسلطة، وفشلت في أن تحل أزمة مصر التي كانت تعاني من الاحتلال والاستبداد والجوع والفقر والتخلف والأوبئة.
**
لم تستطع المرحلة التي تسمى بالليبرالية بعد دستور 1923 وحتى سقوط الملكية في مصر أن تلزم الملك فؤاد ولا ابنه فاروق من بعده باحترام المبدأ الدستوري الذي ينص على أن مصر ملكية دستورية، وظل الملك يتلاعب بالدستور وبالحياة السياسية ويعزل ويعين من يشاء في حكوماته المتتابعة على مدار ثلاثين سنة لم يحكم فيها حزب الوفد وهو طول الوقت حزب الأغلبية إلا سبع سنوات ونصف السنة.
وللتاريخ نقول إن المؤسسة العسكرية في منتصف القرن العشرين نجحت في السيطرة على السلطة ليس لتوافر شروط نجاحها، بل لعدم توافر بديل لها من داخل المجتمع المدني المصري وقتها في ظل فساد الحياة السياسية وعجز القوى الحزبية عن قيادة تغيير حقيقي على أرض مصر.
**
إذا أردت أن تقول إن مصر تحت “حكم العسكر”، فأنت لست في حاجة إلى أن تعيد صياغة التاريخ من جديد لتؤكد أن البداية جاءت مع “الضباط الأحرار”، فالحقيقة أنك واقع تحت “حكم العسكر” طوال التاريخ المصري، ألم تكن مصر تحت حكم المماليك واقعة تحت سنابك خيولهم، وقبلهم احتلالات كثيرة ومتنوعة، آخرها الاحتلال العثماني لمصر، وبعدهم كل الأسرة العلوية.
هل كانت مصر في تلك العهود دولة مدنية؟
هل كانت دولة مدنية منذ انفراد محمد علي بحكم مصر بعدما قضى على المكون المدني الذي جاء به إلى السلطة ورفعه على دكة الحكم.
أقولها بكل وضوح: أنت لست في حاجة لتكتب العديد من المقالات التي تتصدرها صور الضباط الأحرار لتثبت فكرة يمكن أن تقولها في سطر واحد: مصر تحت حكم العسكر يا اخوانا.
يمكنك -بدون الرجوع إلى التاريخ- أن تجد ما يؤيد فكرتك في وقائع ما يجري خلال الحوليات المصرية منذ تسع سنوات، ولا حاجة للإشارة إلى الأذن اليمنى باستخدام اليد اليسرى، على طريقة (ودنك منين يا جحا).
**
وأقول بكل قناعة: إن حرب أكتوبر 1973 كرست سلطة المؤسسة العسكرية على الدولة بأكثر مما كرسته ثورة “الضباط الأحرار” التي كان قد تقادم عليها العهد، وبدأت الدولة التي أقيمت باسمها تتخلص من تراث ثورة 1952 وتتنصل من ميراثها، وتثير الزوابع على كل ما جرى في سنواتها تحت حكم جمال عبد الناصر.
لم تترك جمهورية ما بعد أكتوبر عملًا واحدًا مما أنجزته جمهورية عبد الناصر إلا وجهت إليه سهام التجريح ضمن حملات ممنهجة ظلت مستمرة حتى اليوم، ومع ذلك لا يلتفت البعض إلى الدور الذي لعبته حرب أكتوبر في تكريس سلطة المؤسسة العسكرية على الدولة.
يستسهلون رمي سهامهم مع السهام الموجهة إلى جمهورية عبد الناصر لأنها تجد نصيرًا اليوم، بينما عبد الناصر بات من دون نصير غير هؤلاء الذين ما يزالون يقبضون على جمرة الوعي بما جرى، ويأملون في أن يأتي زمن يكتب فيه التاريخ بعيدًا عن أهواء البعض، وعن توظيف البعض الآخر للتاريخ المشوه في معركتهم مع الحاضر المؤلم.
أذكر بما نقله الأستاذ أحمد بهاء الدين في هذا الصدد في كتابه “محاوراتي مع السادات” الذي قال له وهما يجلسان في حديقة منزله:
– اسمع يا أحمد، فيه حاجة الأفندية المدنيين ما يفهاموهاش، لكن أنت قارئ تاريخ وتفهمها، الجيش يا أحمد دخل السياسة، معنى كدة إنه لن يخرج من السياسة قبل ثلاثين سنة، وأنا حين أفكر في طريقة للتعدد السياسي والمؤسسات وغيره، عايز أعمل توازن في الحياة المدنية مع القوات المسلحة، ده الواقع اللي لازم نعرفه، إن كان عاجبنا ولا مش عاجبنا.
**
يقولون إن التاريخ هو علم المستقبل.
وأقول هناك أربعة أسئلة يجب أن تُحشد كل الطاقات للإجابة عليهم تمكننا من أن نغلق صفحة الماضي لنشرع في بناء المستقبل بدون كثرة التفات إلى ما فات، وقديما قالوا المتلفت لا يصل.
السؤال الأول يتعلق بما جرى في مايو سنة 1971، وكيف سقط نظام عبد الناصر، أسرار السقوط ودواعيه ومَن وراءه، ومَن استفاد منه على المدى الطويل، وما هي طبيعة الأدوار الإقليمية التي تدخلت في أن تصل الأمور في مصر إلى ما آلت إليه بعد سبعة أشهر من رحيل جمال عبد الناصر.
ويتعلق السؤال الثاني بمجريات الحركة على طريق حرب أكتوبر، ثم ما جرى في الحرب نفسها، ومن بعد كيف خذلت السياسة السلاح؟، وكيف وصلنا إلى تكريس سياسة التبعية للغرب ووضع أوراقنا كلها في أيدٍ كانت تحاربنا وتمد من يحاربنا بكل مقومات الحياة والاستمرار في العدوان علينا؟
سؤال ثالث يتعلق بمأساة تجسدت في قصة القطاع العام المصري، كيف ولماذا جرت عملية تصفيته التي بدأت بعد أشهر قليلة من حرب أكتوبر، وهي مستمرة حتى تتم تصفيته بالكامل في أكبر عملية نهب لمصر على مدار نصف قرن من الزمان.
ثم يأتي السؤال الأخير لينصب على “كامب ديفيد” ومن بعدها المعاهدة المصرية الإسرائيلية اللتان أسستا لكل ما هو ثابت وقائم حتى اليوم.
**
تتناول هذه الأسئلة لحظات ومحطات رئيسية جرت فيها مياه كثيرة عكرة صبغت نهر النيل، وتركت العديد من الآثار الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية والنفسية لهذه الوقائع (منفردة ومجتمعة) على المجتمع والدولة، وصنعت جمهوريتها الممتدة إلى اليوم.
ومع ذلك يظل عبد الناصر في نظر هذا البعض الذي يكتب بما تمليه الأهواء لا ما تؤكده الوقائع، يبقى عبد الناصر في نظرهم وحكمهم هو المسئول الأول والأخير عما يحدث اليوم رغم رحيله عن الدنيا كلها منذ 52 سنة بالتمام والكمال، والمؤسف أنهم يحملونه المسئولية كلها بدون أية إشارة إلى مسئولية من خلفوه وخالفوه فصنعوا المأساة التي نعيشها اليوم.
**