اعتمدت الأدبيات السوفيتية مصطلح “العملية الإنسانية” لإبعاد النظر عن “غزو” أفغانستان. واعتمدت الآلة الدعائية السوفيتية العتيقة على المبادئ “الإنسانية النظرية” للاشتراكية من جهة، وعلى تخلف أفغانستان واحتياج شعبها إلى “العدالة الاجتماعية” و”الرخاء” المنصوص عليهما في الأدبيات الاشتراكية النظرية والكتب السميكة، بصرف النظر عن كونهما موجودين فعلا في التجربة الاشتراكية الغريبة الموجودة في الاتحاد السوفيتي نفسه من جهة أخرى. ولكن الغرب كان منتبها لهذه البروباجندا، واستخدم كل الأدوات الممكنة لتعجيز الاتحاد السوفيتي، مستثمرا تمرد دول حلف وارسو على روسيا، ومعاداة دول الخليج وإيران للعقيدة السوفيتية نفسها، إلى جانب جملة من العناصر الأخرى التي تخص فساد التجربة وبيروقراطيتها ومعاداتها للاشتراكية أصلا.
ومع ذلك نجحت روسيا، الوريثة الشرعية للاتحاد السوفيتي، في تسييل الأزمة الإيرانية مع الغرب وتفكيكها إلى مجموعة من الدوائر المتشابكة والمتداخلة، ومن ثم تحويلها إلى ملفات عدة، من بينها الملف النووي، والنفط مقابل الغذاء، واستثناء بعض القطاعات من العقوبات، والالتفاف على العقوبات. وظلت الأزمة الإيرانية حتى هذه اللحظة تدور في فراغ خانق. ومن الممكن اعتبارها من الأزمات المجمدة التي يتم تحريكها وقت الحاجة. وبالرغم من ذلك، فالغرب أيضا لا يجد غضاضة في التلاعب بالملف الإيراني ككل، واضعا إياه في تشابكات مع الطموحات الروسية في سوريا من جهة، والتلاعب به في ضبط موازين القوى في الخليج والشرق الأوسط من جهة أخرى. وفي الواقع، فكل من روسيا والغرب يستخدمان الورقة الإيرانية للضغط على دول الخليج والشرق الأوسط.
وتكرر هذا الأمر أيضا في الأزمة السورية، حيث أقامت روسيا قواعدها العسكرية، وحولت الملف السوري إلى ملف للنازحين، وآخر للاجئين، وثالث للمهاجرين، ورابع للإرهاب، وخامس للصراع- التعاون مع كل من تركيا وإيران. وبقي الملف السوري طوال السنوات العشر الأخيرة من ضمن ملفات الأزمات المجمدة.
في الحقيقة، هذه إحدى أهم مميزات سياسة روسيا الخارجية في العديد من النزاعات. وهو تحويلها إلى “نزاعات مجمدة” وإبقاء الوضع على ما هو عليه إلى أجل غير مسمى. وكانت روسيا تمارس ذلك أيضا إبان قيادتها للاتحاد السوفيتي وحلف وارسو. وبطبيعة الحال، فإن موسكو تؤسس نظريا وسياسيا لأفكارها حول تجميد النزاعات، ولكن النتائج تأتي دوما على عكس ما تشتهي روسيا نفسها، وتنعكس هذه النتائج على المصالح الروسية، وعلى وضع روسيا الإقليمي والدولي. وهو ما نراه على أرض الواقع من حروب طاحنة حتى بين نفس الدول التي لا تزال تتواجد مع روسيا في منظمات وتكتلات، مثل رابطة الدول المستقلة، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، بل وفي منظمات مثل شنغهاي وبريكس.
الأفخاخ الروسية في أوكرانيا
حدث الغزو العسكري الروسي المباشر لأوكرانيا وحددته الأمم المتحدة وجمعيتها العامة بأنه مخالف لمواثيق الأمم المتحدة والمجتمع الدولي. ولكن روسيا بررت ذلك بصياغات نظرية، وبأنها كانت تتفادى تحول أوكرانيا إلى دولة معادية، وبأنها كانت تهمش الناطقين بالروسية، وبأنها يمكن أن تتحول إلى قوة عسكرية، وربما نووية.
غير أن كل هذه الأسباب لا يمكن أن تعد مسوغا قانونيا لغزو دولة وضم أجزاء منها. ولكن حدث ذلك وأصبح أمرا واقعا. في هذا السياق، سعت روسيا لتوريط الغرب بمكوناته الثلاثة في مواجهة مباشرة. ولكن الغرب أعلن بشكل حاسم وصارم ونهائي، بأنه لن يقدم على أي مواجهات مباشرة، ولن يتدخل عسكريا لمواجهة القوات الروسية في أوكرانيا. وبالتالي، كان على روسيا أن تعود إلى سياستها القديمة بخلق دوائر وموجات متشابكة ومتقاطعة لإثارة أكبر قدر من “الشوشرة” حول الأزمة الحقيقية، ألا وهي “غزو أوكرانيا”، وتحويلها إلى عدة مشاكل وأزمات فرعية. وذلك حتى بعد أن فشلت في تكرار مقاربة أزمة “الكاريبي” عام 1962.
كان فخ التهديد المباشر باستخدام الأسلحة النووية في بداية الغزو الروسي لأوكرانيا هو أحد الدوائر الأولى التي أثارت ارتباك وغضب الرأي العام الدولي، وأربكت كل مراكز القرار في العالم، بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والدول النووية الكبرى. ولكن سرعان ما تراجعت روسيا عن التهديدات المباشرة وحاولت خلط الأمور عبر حملات إعلامية ساذجة بأنها لم تكن تقصد استخدام الأسلحة النووية، ولكن الغرب يقوم باستفزازها والضغط عليها، وأن عقيدتها العسكرية تسمح بذلك فقط في حالات معينة.
تطور التهديد النووي المباشر من جانب روسيا إلى “كارثة نووية” يمكن أن تقع في محطة “زابوروجيه” النووية الأوكرانية. ومن ثم قامت باحتلال المنطقة ونقل ملكية المحطة إليها. وبالتالي، أصبحت المحطة هدفا لمحاولات القوات الأوكرانية استعادة أراضيها وأملاكها التي قررت التشريعات الروسية أنها باتت ملكا لروسيا، وأن أي اعتداء عليها، هو اعتداء على أراضي روسيا وسيادتها. وتم وضع المجتمع الدولي أمام أمر واقع جديد محاط بتهديدات نووية وإن كانت أقل مستوى من التهديد المباشر باستخدام الأسلحة النووية.
وبداية من 10 أكتوبر 2022، عندما تم تفجير جسر القرم، ظهر الفخ الثالث الذي اعتمدت روسيا على أساسه مصطلح “مكافحة الإرهاب”، وإمكانية تحويل الغزو العسكري المباشر إلى عملية مكافحة للإرهاب. الأمر الذي يقتضي اتخاذ إجراءات معينة في مجلس الأمن وبقية المنظمات الدولية المعنية بذلك. كما يقضي أيضا بإطلاق يد روسيا في أوكرانيا على غرار ما يحدث في سوريا. ولكن الأمر مختلف نسبيا، إذ إن الواقع فرض على روسيا احتمال كل من تركيا وإيران والقوات الدولية لمكافحة الإرهاب في سوريا، بينما الأمر سيكون مختلفا تماما في أوكرانيا التي قال الغرب إنه لن يتدخل فيها عسكريا لمواجهة القوات الروسية. ما يعني أن إطلاق عملية مكافحة إرهاب في أوكرانيا، ستسمح لموسكو بممارسة كل شيء ضمن عملية عسكرية- أمنية تقتضي حتى دخول كييف واقتحام البيوت ومخازن الأغذية للبحث عن “الإرهابيين”. ومع ذلك فلا توجد أي أسباب أو مسوغات قانونية حقيقية لتحويل الغزو العسكري الروسي لأوكرانيا إلى عملية لمكافحة الإرهاب، إلا إذا أرادت روسيا أن تتقدم خطوة أخرى إلى الأمام في مواجهة المجتمع الدولي ككل.
وظهر الفخ الرابع بإعلان موسكو أنها تملك معلومات دقيقة عن قيام كييف بصنع قنبلة نووية قذرة لاستخدامها في أوكرانيا واتهام روسيا بتفجيرها. وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار إلى ذلك، مؤكدا علمه بكل التفاصيل، اتضح أن الكلام يدور حول الدراسات والأبحاث الجامعية، وحول عمل العلماء الأوكرانيين، سواء بمفردهم أو بمشاركة علماء آخرين، في المعامل والمختبرات ومراكز البحث العلمي. والمعروف أن أوكرانيا من الدول المتقدمة في الأبحاث والدراسات الذرية النظرية، وأيضا في بناء المفاعلات النووية. ولديها أقسام مهمة في الفيزياء النظرية، والفيزياء النووية، في كلية الفيزياء جامعة خاركوف على سبيل المثال. إضافة إلى مراكز بحثية ومفاعلات كهروذرية أخرى في مناطق مختلفة. وبطبيعة الحال، من الصعب استخدام الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات كدليل على صناعة قنبلة نووية قذرة.
ومن أجل الترويج لهذه الأفخاخ، تعتمد موسكو على الحملات الإعلامية بالدرجة الأولى لإثارة حالة من الخلط والتشويش. ولكن في مجلس الأمن والهيئات الدولية المختصة، يتم التعامل مع الأمور بشكل مختلف تماما. وهو ما يضع كل البروباجندا الروسية في حرج شديد، ويعرِّض مسؤوليها إلى إحراج أشد.
وفي نهاية المطاف، تم الاتفاق بين روسيا وأوكرانيا والأمم المتحدة وتركيا على صفقة مربحة تقضي بتصدير الحبوب والأسمدة والمواد الغذائية الأوكرانية، مقابل أن تصدر روسيا أيضا حبوبها وأسمدتها. وستنتهي المرحلة الأولى من هذه الصفقة في 18 نوفمبر 2022، ليتم تمديدها كما أعلنت الأمم المتحدة. ولكن روسيا منذ بداية تنفيذ الصفقة تشكو من معوقات تواجه تصدير الحبوب والأسمدة والمواد الغذائية، وابتكرت دائرة أو فخا جديدا حول تجويع الدول الفقيرة، وأن الغرب يستولي على الحبوب والأسمدة الأوكرانية بينما الدول الفقيرة لا تحصل على شيء، وأن روسيا مستعدة لتصدير الحبوب والأسمدة والمواد الغذائية مجانا. كل ذلك من أجل إثارة الرأي العام. ولكن بالنظر إلى كل تلك الدوائر، سنجد أنها تتقاطع وتتشابك إعلاميا في شكل بروباجندا فظة من جهة، ومحاولات للتعتيم على القضية الأساسية ألا وهي “غزو أوكرانيا” من جهة أخرى.
وظهر الفخ الجديد في 29 أكتوبر 2022، عندما قصفت القوات الأوكرانية أسطول البحر الأسود الروسي في سيفاستوبول وأحدثت عطبا في بعض السفن، ومن ضمنها إصابة كاسحة الألغام البحرية “إيفان جولوبيتس” بأضرار، قالت موسكو إنها أضرار بسيطة. وعلى الفور أعلنت وزارة الخارجية الروسية تعليق اتفاقية تصدير الحبوب الأوكرانية إلى أجل غير مسمى، وقالت إنها ستلجأ إلى “لفت انتباه” المجتمع الدولي، بما في ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن، إلى “اعتداء!” أوكرانيا على مدينة سيفاستوبول عاصمة شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا إلى أراضيها عام 2014.
هنا تظهر دائرة أو فخ جديد تماما. فمن الواضح أن عملية تصدير الحبوب الأوكرانية ليس فقط مربوطة بتصدير الحبوب الروسية، ولكن أيضا بعدم قيام كييف بمهاجمة الأهداف العسكرية الروسية في البحر الأسود. أي أنه على أوكرانيا الارتضاء بالأمر الواقع وإعلان الاستسلام وتنفيذ الشروط الروسية الستة.
والغريب أن وزارة الخارجية الروسية استخدمت كلمة “لفت انتباه” المجتمع الدولي، وليس “طلب جلسة عاجلة لمجلس الأمن” مثلا. وهو ما يضع كل دعاوى موسكو في مستوى متدني من حيث الثقة. والأغرب أن موسكو خلقت مجموعة إضافية من الدوائر والأفخاخ بأثر رجعي وعلى وجه السرعة وربطتها سريعا بهجوم القوات الأوكرانية على الأسطول الروسي. فقد أعلنت الخارجية الروسية فجأة أن “بريطانيا شاركت في تفجير خطوط غاز نورد ستريم 1، ونورد ستريم 2، وأنها شاركت أيضا في قصف الأسطول الروسي”. هكذا أعلنت موسكو الرسمية، بينما بمراجعة البيانات والتدقيق فيها، ظهر أن الخارجية الروسية ترى أن هناك خبراء من بريطانيا يدربون القوات الأوكرانية!! ولذلك، يبدو أنها فضلت استخدام “لفت انتباه” بدلا من “طلب جلسة عاجلة لمجلس الأمن”. وبطبيعة الحال، لا تتوانى وسائل الإعلام من الإسهام بنصيبها في عمليات الخلط والتشويش والتضليل، لنفاجأ بأن الوضع على أرض الواقع على عكس ما تروج له وسائل الإعلام.
كل هذه الدوائر والأفخاخ هي إحدى ركائز السياسة الخارجية الروسية عموما، وفي الأزمات والمناطق الساخنة على وجه التحديد. أي تفتيت وتفكيك الأزمة الحقيقية، ثم إزاحة هذه الأزمة من الوجود، ومحوها من الذاكرة، والدخول إلى مشاكل وأزمات أخرى، ومستويات تشريعية وإعداد وثائق، ورفع دعاوى إلى مجلس الأمن. غير أن الغرب في الأزمة الأوكرانية منتبه إلى المخاطر الوجودية، من وجهة نظره بالطبع، التي تصاحب الغزو الروسي لأوكرانيا. ويبدو أنه غير مستعد إلى الآن للاستسلام أو التراجع لا عن فرض العقوبات على موسكو، ولا عن إمداد أوكرانيا بالأسلحة، ولا عن الاستغناء التدريجي عن موارد الطاقة الروسية، على الرغم من كل محاولات روسيا التشويش على القضية الأساسية، وإثارة الزوابع لتشتيت الانتباه عن حقيقة “الغزو” العسكري المباشر وضم أراضي دولة أخرى.