لا يمكن معرفة أسباب ما وصل إليه حال الفلاح المصري حاليا، وهو العامل الأول المؤثر في نشاط الزراعة في مصر، دون الرجوع قليلا إلى الوراء. خاصة إذا نظرنا إلى الأزمات المتتالية التي عانى منها الفلاح بالإضافة إلى ارتفاع مستلزمات الإنتاج، والتغيير المحصولي الذي حدث في آخر 10 أعوام، من اهتمام الفلاحين بزراعة الخضر والفاكهة، مقارنة بمحاصيل الحبوب والأعلاف.

كانت البداية مع منتصف التسعينيات، عندما تبنت الحكومة المصرية سياسات زراعية جديدة، جراء اتفاقها مع منظمة التجارة العالمية “الجات”، والذي منح مصر فترة سماح تمتد بين أعوام 1995 وحتى 2004، لإدخال إصلاحات جوهرية تتعلق بالتخفيف من قيود تسويق الإنتاج الزراعي. بالإضافة إلى إلغاء حصص التوريد الإجباري لبعض المحاصيل، وتخفيض دعم مستلزمات الإنتاج.

اقرأ أيضا.. العمالة الزراعية.. منتجو الغذاء في مصر داخل المنطقة المظلمة

وعلى أسس تلك الإصلاحات، تم إلغاء توريد حصص الأرز، وإلغاء الدعم لجميع مستلزمات الإنتاج، وتقليص دور مؤسسات القطاع العام في توزيع مستلزمات الإنتاج، وخفض الإعانات الائتماني. كذلك إلغاء التدخل الحكومي في السياسات السعرية والتركيب المحصولي.

وبناء على هذا الأساس بدأت مرحلة جديدة من علاقة الحكومات المتعاقبة بالفلاح، في شكل سياسات افتقرت للوحدة والترتيب. ورغم أهمية القطاع الزراعي باعتباره نشاط يوفر فرص تشغيلية لحوالي 21% من القوة العاملة في مصر، وفقا لبيانات البنك الدولي؛ إلا أن متوسط حجم الاستثمارات الموجهّة للقطاع أخذت تتضاءل سنويا.

تفكيك التعاونيات

يقول الدكتور أسامة سليم، أستاذ علم الاجتماع السياسي المساعد بكلية الآداب جامعة المنوفية، إن الحكومة المصرية منذ ثمانينيات القرن الماضي، اتجهت نحو سياسات زراعية متغيرة. إذ اتخذت قرارات بإلغاء قانون الدورة الزراعية، وتفكيك الحركة التعاونية الزراعية بإحلال بنوك التنمية والائتمان الزراعي بديلا عنها.

فضلا عن انسحاب الدولة الكبير من سياسة توجيه ودعم الزراعة ائتمانا وإنتاجا وتسويقا، حولت بنوك التسليف والقرى إلى بنوك تجارية، كما رفعت سعر الفائدة من 4% إلى 18%. بالإضافة إلى ترك أسعار كل مستلزمات الإنتاج من بذور وأسمدة ومبيدات وأعلاف وآلات زراعية لأسعار السوق الحرة. وفقًا لدراسة الدكتور أسامة سليم المعنونة بـ”نحو سياسات زراعية متغيرة”.

كذلك بلغت نسبة الإقراض لقطاع الزراعة في العام المالي 2019/ 2020، نحو 1.4% فقط، وتعدّ النسبة الأقل بين كل القطاعات الاقتصادية، مقارنة بالقطاعات الأخرى التي لم تقل نسبة الإقراض فيها على 20%، وفقا للتقرير السنوي الصادر عن البنك المركزي.

كذلك بينت تقارير سنوية للبنك المركزي، أن حجم التسهيلات الائتمانية للقطاع الزراعي تقل عن 50 مليار جنيه سنويا في المتوسط، مقارنة بالقطاع الصناعي أو التجاري الذي تتجاوز قيمة التسهيلات الائتمانية المقدمة له 500 مليار جنيه.

ويتابع “سليم” أنه تم منع تسجيل المستأجرين من فقراء الفلاحين كحائزين في الجمعيات الزراعية وحرمانهم من الحصول بأنفسهم على مستلزمات الإنتاج الزراعي لصالح كبار الملاك، وهيمنة تجار السوق واحتكار الأسعار عبر شراء المحاصيل الزراعية.

ويشير إلى تجاهل الحد الأقصى للملكية في الأراضي المستصلحة الجديدة وتمتع الملاك الكبار لتلك الأراضي والشركات الزراعية المحلية والأجنبية بأولوية الموارد المائية على حساب الأراضي القديمة. كما لفت إلى انخفاض النصيب النسبي للزراعة في الناتج المحلي وفي الاستثمارات، مقارنة بالقطاع الخدمي.

وبلغت مشاركة القطاع الخاص في الناتج المحلي في قطاع الزراعة حوالي 438.3 مليار جنيه، مقارنة 329.7 مليون جنيه للقطاع الحكومي، وفقا للتقرير السنوي الصادر عن البنك المركزي عام 2020.

قبلها بعام، كان القطاع الخاص الزراعي يستحوذ على نحو 424.3 مليار جنيه، مقارنة بحجم القطاع العام والبالغ 317 مليون جنيه فقط وذلك في العام المالي 2018/ 2019.

حجم الناتج المحلي لقطاع الزراعة

تضاؤل الاستثمارات

وتُبين الدكتورة حنان بهجت، أستاذ بمعهد بحوث الاقتصاد الزراعي، أنه خلال الفترة بين 2005 و2020، بلغ متوسط نسبة الاستثمارات الموجهّة لقطاع الزراعة حوالي 4.2% فقط من إجمالي استثمارات الدولة خلال تلك الفترة.

وتقول “بهجت” إن متوسط قيمة الاستثمار في القطاع الزراعي ارتفع من 2.4 مليار جنيه عام 2005 إلى 38.4 مليار جنيه عام 2020. إذ يدل ذلك على اتجاه للاستثمار في القطاع الزراعي على الأقل خلال السنوات الـ5 الأخيرة.

وتشير الأستاذة في معهد بحوث الاقتصاد الزراعي إلى أنه من خلال المقارنات تبين تذبذب نسبة الاستثمار الزراعي مقارنة بالاستثمارات العامة للدولة، إذ كانت في عام 2016 حوالي 2%، ثم بلغت 6.8% عام 2020، بينما كانت تصل إلى 5.6% عام 2005.

المشروعات المركزية

كما أنه بمراجعة البيانات الصادرة عن البنك المركزي، تبين أن حجم الاستثمارات الموجهة للقطاع الزراعي خلال العامين الماليين 2018/ 2019، و2019/ 2020 بلغت 5.1% فقط من إجمالي الاستثمارات العامة للدولة.

ومن بين تلك الاستثمارات في القطاع الزراعي، تُوضح أرقام المركزي، استحواذ القطاع الخاص على نسبة 29.4%، في حين استحوذ القطاع الحكومي على نسبة 19.8%. لكن ورغم تضاؤل نسبة الاستثمارات الموجهّة لقطاع الزراعة، إلا إنه مع عام 2018/ 2019، استحوذت المشروعات المركزية على نسبة 49.7% وتعدّ تلك النسبة الأكبر.

والمشروعات المركزية “جهة حكومية” تم إدراجها ضمن القطاعات التي يضمها البنك المركزي عام 2018/ 2019، دون تعريف لها، وفقًا للبيانات الشهرية الصادرة عن البنك المركزي.

وقبل وجود المشروعات المركزية، كان القطاع الخاص يستثمر حوالي 61% في قطاع الزراعي، مقارنة بـ38% للقطاع الحكومي، وفقًا للتقرير الشهري الصادر في ديسمبر/ كانون الأول للبنك المركزي عام 2016.

وتُظهر الأرقام الصادرة عن البنك المركزي، زيادة نسب الاستثمارات التي توجهها المشروعات المركزية للقطاع الزراعي، مقارنة بانخفاض نسبة القطاع الخاص، والقطاع الحكومي بداية من العام المالي 2018/ 2019.

 

استثمارات القطاع الخاص بالقطاع الزراعي
استثمارات المشروعات المركزية منذ إدراجه في تقارير البنك المركزي

التركيب المحصولي

من جهة أخرى، تُوضح الدكتورة عبير علي، والدكتورة أسماء صالح، الباحثتان في معهد بحوث الاقتصاد الزراعي، أثر سياسات الحكومة بعد انضمام مصر لمنظمة التجارة العالمية “الجات” على التركيب المحصولي الزراعي. بأنه خلال الفترة بين عامي 2000 إلى 2004 زادت نسبة المحاصيل الشتوية بنحو 5.2%، بفضل زيادة محصول بنجر السكر الذي ارتفعت مساحته بنسبة 140.8%، ومساحة محصول الحمص بنسبة 66.2%.

وتقول الباحثتان في الدراسة المعدة عام 2015، إنه خلال الفترة بين عامي 2009 إلى 2013، انعكس الوضع. إذ ارتفعت نسبة المحاصيل الصيفية بنحو 5.5%، على حساب المحاصيل الشتوية بفضل زيادة مساحة الذرة الصفراء بنسبة 504%، وانخفاض مساحة بنجر السكر بنسبة 44%.

تسعير بخس

وتكشف الدراسة، أن الحكومة قررت سياسات إجبارية على محاصيل القمح والشعير وبنجر السكر بنسب 29%، و27%، و32% على الترتيب. الأمر ساهم في زيادة الأعباء الضريبية على المُستهلك. أما معامل الحماية الأسمى لمستلزمات الإنتاج فبلغت حوالي 0.6% فقط لهذه المحاصيل.

وذلك، يعني أن الفلاح لا يحصل على دعم حكومي، بل أحيانا يقل سعر بيع المحاصيل الثلاثة على السعر العالمي، وفقا للدراسة. مؤكدة انخفاض العائد المادي للفدان بنسب تتراوح 0.5% لمحاصيل القمح والشعير وبنجر السكر.

فقراء الفلاحين 60%

تُظهر نشرة الزمام والملكية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، أن المساحة المملوكة لصغار الفلاحين لأقل من فدان، تصل لحوالي مليون و164 ألف و269 فدان بنسبة 14% من المساحة الزراعية المملوكة والبالغة 7 مليون و894 ألف و610 أفدنة.

وتكشف أرقام جهاز الإحصاء، أن الفلاحين المالكين لمساحة أقل من فدان يبلغ عددهم حوالي 3 ملايين و30 ألف و414 شخصا بنسبة 60.4% من أعداد المالكين لأراضي في مصر والبالغ عددهم 5 ملايين و11 ألفا و135 فدانا.

فيما يصل المالكين لمساحة أقل من فدانين حوالي 413 ألفا و97 شخصا بمساحة 754 ألفا و767 فدانا. في حين تصل يبلغ عدد المالكين لأقل من 3 أفدنة 263 ألفا و183 فلاحا بساحة حوالي 653 ألفا و162 فدانا. أما المالكين لمساحة أقل من 4 أفدنة فيبلغ عددهم حوالي 171 ألفا و643 شخصا، بمساحة حوالي 571 ألفا و659 فدانا، وفقا لنشرة الجهاز المركزي للإحصاء.

في حين يصل عدد ملاك المساحة أقل من 5 أفدنة حوالي 160 ألفا و430 شخصا بمساحة نحو 763 ألفا و529 فدانا. بينما يصل عدد ملاك المساحة أقل من 10 أفدنة حوالي 102 ألف و729 مالكا بمساحة 760 ألفا و160 فدانا.

كما يصل عدد ملاك مساحة أقل من 20 فدانا 59 ألفا و299 شخصا بمساحة حوالي 815 ألفا و649 فدانا، في حين يبلغ عدد ملاك مساحة أقل من 50 فدانًا حوالي 30 ألفا و723 شخصا نحو 594 ألفا و252 فدانا.

وأخيرًا يصل عدد المالكين لمساحة أكثر من 100 فدان نحو 20 ألفا و452 شخصا على مساحة 932 ألفا و340 فدانا، وفقًا لنشرة الزمام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

نسبة ملاك الأراضي الزراعية في مصر

زراعة الخضر

تُظهر بيانات النشرة المحصولية الزراعية عن زيادة مساحة الخضر خلال العام الزراعي 2019 إلى نحو مليون و867 ألفا و875 فدانا، مقارنة بـ 499 ألف فدان عام 2005/ 2006.

وتُبين أرقام جهاز الإحصاء، أن المساحة الأكبر لمحاصيل الخضر كانت للبطاطس بنحو 422.6 ألف فدان، مقارنة 102 ألف و373 ألف فدان عام 2005، تليها مساحة محصول الطماطم بنحو 408.7 ألف فدان مقارنة بـ209.1 ألف فدان.

ويتمثل ذلك الاهتمام بالخضر والفاكهة في كونها تُمثل محاصيل ذات عائد مرتفع رغم مخاطرها، مقارنة بالمحاصيل الزراعية العادية من الحبوب والأعلاف، ويظهر ذلك في نمو الصادرات الزراعية من 6.2 مليار جنيه عام 2005 إلى 47.1 مليار جنيه عام 2020، حسب نشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

في النهاية، تقطعت علاقة الفلاح بالدولة بعد سنوات من تفكيك التعاونيات الزراعية، وإنهاء دور البنك الزراعي في دعم الفلاح، وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج والأسمدة، وتعرض الفلاح لسياسات عشوائية تتمثل في سعي الحكومة لفرض أسعار أقل من الأسعار العالمية لمحاصيل الحبوب تحديدا.