تَضَخَمَت العَولَمة

كان مفهوم العولمة مبني بالأساس على استقرارٍ حَدَدَه التشكيل الجيوسياسي الذي تَلَى انهيار جدار برلين لتُثبِتُ الأحداث اللاحقة أنه كان استقرارًا واهيًا وشديد الهشاشة حيث لم يهدف في جوهرِهِ إلى تحقيق العدالة والكفاية والعيش السلمي ورفاه الإنسان في كل مكان بالكوكب، لكنه كان مدفوعًا بأهداف تحقيق مصالح أمريكا التي استبد بها غرور القوة فاستخدمت كافة الوسائل المتاحة لديها وأهمها تفوقها العسكري لفَرض قيم العولمة فيما أطلق عليه أستاذنا المرحوم الدكتور سمير أمين وصف “عسكرة العولمة”.

بالإضافة إلى ذلك، سيطرت أمريكا على سياسات مؤسسات اقتصادية عالمية كالصندوق والبنك الدوليين ومنظمة التجارة الدولية، مما ساهم في ترسيخ مكانتها بصفتها الحاكم المُتَحكمٍ والمُدير الأوحد لشئون الكوكب لأجل تأمين استدامة تدفق الفوائض المالية والبضائع غربًا وفق أسعارٍ تتحرك في نطاقٍ مُحدَد ما بين حدود دنيا وعُليا مُتفَق عليها -سواء ضمنيًا أو بشكلٍ أكثر تصريحًا- باعتبارها سلعًا اقتصادية لا تخضع لأي توازناتٍ سياسية إلا تلك التي تقتضيها المصلحة الأمريكية فقط دون أي اعتبار لمصالح الأطراف الأخرى اقتصاديًا واجتماعيًا وبيئيًا.

كان خطر تضخم العولمة يتفاقم كامنًا تحت السطح ثم تَبَدت نُذُرِهِ بوضوح لأول مرة بهذا القرن في 2008، لكن نذيره الأخير كان أكثر وضوحًا وجموحًا مع أزمة كورونا، لتأتِ الأحداث من بعد ذلك متصلة ومتسارعة للدرجة التى لم تُتِح لأمريكا وحلفائها الفرصة لمراجعة مدى استقرار عناصر التوازنات الجيوسياسية التى بُنْيَت العولمة على أساسها، كي يفيق العالم على وقع دوي الانفجارات في أوكرانيا لتبدأ صفحة جديدة طويلة من المعاناة الإنسانية.

تُشَكل الآثار المباشرة المترتبة على الأزمة الأوكرانية أوضح تعبير عن انهيار المبرر الأخلاقي الذي ساقته أمريكا وحلفاؤها منذ أكثر من ثلاثين عامًا للترويج للعولمة التى لم تنجح في تفادي إخفاقات معوقات انسياب التجارة بين المجتمعات، بل ربما أمكننا القول أيضًا إن طبيعة البِنى التحتية والفوقية للعولمة ساهمت ذاتيًا في تعميق حدة تلك الإخفاقات حيث كان تلاشى حدود الدول القومية -فيما يتعلق فقط بالتبادل التجاري- سببًا في الاعتماد المطلق دون ضوابط على توازناتٍ بالغة الحساسية وقابلة للتبدل بِحكم تطور الواقع الإنساني.

تَعولَم التَضخُم

أجمعت الأدبيات الاقتصادية على تعريف التضخم باعتباره ارتفاعًا مستمرًا في أسعار السلع والخدمات أو بتعبير آخر هو اضمحلال في القوة الشرائية. وقد حددت تلك الأدبيات -في تبسيط أرجو ألا يكون مُخِلًا- أنواع التضخم من زاويتين تتعلق أولاهما بالشكل والأخرى بالجوهر:

فيما يتعلق بالشكل، ينقسم التضخم من ناحية “التسارع” في حِدَته إلى أربعة أنواع: التضخم الزاحف أو المتدرج Inflation   Creepingويكون مصحوبًا بارتفاع في الأسعار في حدود 2% سنويًا وهو معدل مقبول بل وتسعى إليه بعض السلطات النقدية كالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، والتضخم السائر أو المتمهل Inflation Walking ويكون مصحوبًا بارتفاع في الأسعار في حدود 10% سنويًا، والتضخم الراكض أو المُتسارع Galloping Inflation، أما النوع الأخير فهو التضخم المفرط أو الجامح Hyperinflation ويكون مصحوبًا بارتفاع في الأسعار بنسبة تصل إلى 50% شهريًا وهو يحدث في ظروف استثنائية كالحروب الكبرى أو الكوارث الطبيعية.

فيما يتعلق بالجوهر، ينقسم التضخم من ناحية “أسبابه الموضوعية” إلى أربعة أنواع: تضخم بسبب زيادة الطلب وهو يحدث عندما تكون الحاجة للسلع والخدمات أعلى من الإمكانات المتاحة للوفاء بها، وتضخم بسبب زيادة التكلفة وهو يحدث حين ترتفع تكلفة السلع والخدمات بسبب ارتفاع قيمة المواد الخام و/أو أجور الإنتاج، وتضخم بسبب الزيادات في الأجور التي تضطر إدارات الأعمال إلى دفعها لأسباب متنوعة كَنُدرة الإيدي العاملة في بعض الصناعات، أما النوع الأخير فهو يتعلق بالتضخم المصحوب بالركود أو الركود التضخمي Stagflation وهو يحدث عندما يكون هناك بطء شديد في النمو الاقتصادي بينما أسعار السلع والخدمات في تزايد.

كانت أزمة كورونا نذيرًا أخيرًا نجحت أمريكا وحلفاؤها بقدرٍ كبيرٍ في تجاوز آثاره المباشرة، لكنه كان مؤشرًا واضحًا على انكشاف العولمة كظاهرةٍ تحوي تناقضاتها المنطقية. فكما استفادت أمريكا وحلفاؤها من “الإيجاب” في ظاهرة العولمة، كانوا في نفس الوقت عُرضَةً “للسلب” الكامن فيها، أو بمعنى أكثر وضوحًا يمكننا القول بأنه كما كانت البضائع والأموال تتحرك في سلاسة بين أرجاء الكوكب، فإن الكوارث أيضًا صارت تنتقل في مسارات عكسية وبمستوى من السلاسةِ أكبر.

كان فيروس كورونا مثالًا للسلب الكامن في ظاهرة العولمة حين انتقل من مركزه بالشرق الأقصى صوب كل بقاع الدنيا مُخَلِفًا الملايين من الضحايا، وكذلك كان التضخم الذي يضرب العالم حاليًا.

وعلى الرغم من أن مظاهر التضخم كانت حاضرةً بجلاءٍ في أزمة فيروس كورونا، إلا أنها كانت ناتجة بالدرجة الأولى عن ارتفاع تكاليف وسائل تبادل البضائع لا عن “إتاحة” البضائع ذاتها، “فتَكَدُس” سلاسل الإمداد حيث البضائع جاهزة لكنها لا تتحرك، هو أمر يختلف في طبيعته وفي أثره عن “تَوقُف” سلاسل الإمداد بسبب عدم توفير تلك البضائع من الأساس.

كان أمر التعاطي العالمي مع مظاهر التضخم خلال أزمة كورونا أكثر يُسرًا مما يحدث الآن، فقد تَطَور شكل التضخم وجوهره إلى مرحلتهما -أو فلنقل “معركتهما”- الأخيرة وهي الأطول والأعمق والأشد تأثيرًا حيث انتقل التضخم الجامح المصحوب بالركود محمولًا على جناح العولمة لكل أرجاء الكوكب.

يقتضى الأمر من مفكري هذا العصر ضرورة البحث في صِيَّغ غير تقليدية ووسائل مبتكرة لابتداع نموذج جديد يضمن عدالة تبادل البضائع بصورة أكثر سلاسة وأقل تكلفة بما يشمله ذلك من مراجعة لآليات عمل وأساليب أداء المؤسسات الدولية القائمة لتلافي إخفاقات العولمة وآثارها الفادحة على الإنسان بكل مكان على سطح الأرض وبالذات في مجتمعات دول الأطراف حيث ندرة الغذاء والمال ووفرة الفقر والمرض والجهل وكلها أمور قد تضطر تلك المجتمعات إلى التمحور على ذواتها قانِعةً بتحمل تكلفة مكافحة الأسباب الموضوعية للتضخم الذاتي بديلًا عن دفع خسائر التعايش مع التضخم المُعَولم عابر المحيطات.