المشهد العام في مصر مرتبك، هذه حقيقة تكشفها الأحداث والتطورات السياسية المتلاحقة.. افتقدت السلطة الحالية منذ البداية للرؤية السياسية التي تضمن الاستقرار وتخلق الخطط والبدائل.. لا رؤية واضحة للمستقبل فيما يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد.

ربما ينبغي علينا أولا أن نرسم صورة للارتباك الحاصل الآن والذي سيثير أسئلة أراها ضرورية حتى لو كانت أسئلة في الممنوع.

اقتصاديا، تعاني مصر أزمة خانقة منذ عدة أشهر، هذه الأزمة ظهرت معالمها في غلاء قاس أضر بشدة بالطبقات الفقيرة والمتوسطة، وضغط على أعصاب الناس كما لم يحدث من قبل.. ثم تزايدت أعباء الديون وفوائدها بشكل غير مسبوق في تاريخنا الحديث، حدث هذا مع نقص حاد في العملة الأجنبية أضر بالصناعة والاستيراد وتشغيل المصانع التي أغلق بعضها على وقع الأزمة.

لم تطرح السلطة حلولا واضحة، حتى المؤتمر الاقتصادي الأخير لم يقدم أكثر من توصيات، وهي توصيات تبدو للوهلة الأولى وكأنها تصب في خانة دعم السياسات الاقتصادية ذاتها التي استمرت منذ عدة سنوات، وكانت نتائجها هذه الأزمات المتلاحقة التي يشعر بها المواطن فيتزايد بداخله الغضب يوما بعد الآخر.

بعد تفاوض استمر لعدة أشهر تم الإعلان عن اتفاق جديد بين الحكومة وصندوق النقد الدولي تحصل بموجبه مصر على ثلاثة مليارات دولار، وذلك بعد أن قررت الحكومة الاستجابة لشروط الصندوق وقامت بتحرير سعر صرف الجنيه ليقفز السعر إلى أكثر من 23 جنيها بعد ساعات من قرار التحرير، لتمهد هذه الزيادة في السعر لموجة غلاء جديدة ستضرب المجتمع لا سيما الطبقات الفقيرة والمتوسطة.

لا خيال جديد يحكم السياسات الاقتصادية، طريق واحد تخطو فيه الحكومات المتعاقبة بلا مراجعة جادة للسياسات الفائتة ونتائجها على الناس، فقروض الصندوق على مدار سنوات مضت لم تحل أزمة، ولم تدفع التنمية خطوات للأمام، بل تحمل المواطن العادي فاتورتها القاسية كاملة، وسط مؤشرات تؤكد أن نسب الفقر في المجتمع مرتفعة وأن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة حملت المواطن أكثر مما يحتمل.

كل الانتقادات التي وجهها المهتمون بالشأن العام في مصر “لروشتة” صندوق النقد الدولي باتت معروفة ولا تحتاج إلى جديد، بل إن المواطن العادي بات يعرف الكثير عن تاريخ الصندوق في الإضرار باقتصاديات عدد من الدول النامية، وما وصلت إليه بعد أن التزمت بنصائحه وتوجيهاته، فلا جديد يمكن أن يقال عن الصندوق ودوره المشئوم.

أما السؤال الأصعب والذي تجاهلت الحكومة الإجابة عليه بشكل غير مفهوم فهي الضجة التي ثارت بعد الإعلان عن الاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي، وبالتحديد بعد إعلان الصندوق بيانا شبه تفصيلي عن الاتفاق وأهدافه.. هذا البيان جاءت خاتمته غامضة ومثيرة للأسئلة، إذ قال: “سيلعب شركاء مصر الإقليميين والدوليين أدوارا حاسمة في تسهيل تطبيق السلطات للسياسات والإصلاحات”، وهي جملة ملفتة وغير مفهومة ولابد أن تثير الأسئلة من كل حريص على هذا البلد واستقلال قراره، ومن كل الرافضين للتدخل في سياساته أو محاولات الوصاية عليه بأي شكل.

الجملة الغريبة توحي بأن “الشركاء الدوليين والإقليميين” سيكونون هم الرقيب على الخطوات الاقتصادية التي تنفذها السلطات المصرية، وأن هناك ما يشبه الوصاية على القرار الاقتصادي سنراه بشكل أوضح خلال الفترة المقبلة إذا صح التفسير الذي يرى أن هناك تدخلا يمكن أن يحدث خلال الفترة المقبلة.

حتى اللحظة لا يمكن اعتبار هذه الجملة الغامضة في البيان توجها رسميا، وربما يكون المقصود أمرا آخر غير الذي وصل إلينا، وذلك إذا ما قدمنا حسن النية، ومع ذلك فإن الصمت الرسمي غير مقبول ولا مفهوم، والإجابة الحاسمة على أسئلة الناس هو حق طبيعي لهم، فليس جديدا القول إن استقلال هذا البلد دفع فيه أبناؤها الكثير من الجهد والعرق والدماء، والسؤال عن أي “شبهات” يمكن أن تصب في خانة التأثير على استقلال البلد وقراره أمر يستحق الأسئلة مهما كانت صعبة.

الجانب الآخر من المشهد المرتبك يبدو سياسيا بامتياز.. فقد كان الاقتصاد بأزماته هو الأكثر حضورا طوال الفترة الماضية، وهو أمر مفهوم في إطار التأثير المباشر للحالة الاقتصادية على حياة الناس واستقرارهم، لكن غير المفهوم وغير الطبيعي هو عدم إدراك السلطة الحالية أنه لا تقدم يمكن أن يحدث على المستوى الاقتصادي إذا غابت السياسة، ولا يمكن معالجة قضايا الملف الاقتصادي بمعزل عن السياسة وأزماتها.. خلال أكثر من 7 سنوات اختارت السلطة طريق الإغلاق الكامل للمجال العام، وحاصرت  الحريات العامة بشكل قاس وغير مسبوق في تاريخنا الحديث كله فقيدت حريات الرأي والتعبير والصحافة والإعلام والتظاهر السلمي، وأكدت في خطابها أن الأولوية ستكون للاقتصاد وأزماته، ومع ذلك وبعد مرور كل هذه السنوات لم تدرك السلطة أن هذا الفصل التعسفي وغير الطبيعي بين الاقتصاد والسياسة هو اختيار خاطئ، وأن أي تقدم اقتصادي بات مرتبطا في العالم كله بجملة قيم سياسية وإنسانية لا يمكن التحرك خطوة واحدة للأمام بدونها، على رأس هذه القيم: احترام الحريات العامة وحقوق الإنسان والشفافية وسيادة القانون واستقلال القضاء ووجود برلمان منتخب انتخابا حرا يمثل الشعب ولا يمثل على الشعب، ثم تداول السلطة واحترام الديمقراطية.

في أي دولة في العالم لا يمكن البقاء في مربع الإصرار على بناء التقدم الاقتصادي مع استمرار حصار السياسة، فهو اختيار للبقاء في المربع صفر، فلا استثمار في بلاد لا يسمح فيها للقضاء أن يكون مستقلا، ولا للأحزاب أن تطرح الحلول والبدائل، ولا للصحافة أن تنتقد وتكشف كل صور الفساد والانحراف، ولا للبرلمان أن يسائل الحكومة ويضع التشريعات التي تخدم المجتمع وأهله.

من حق المصريين أن يحلموا بحياة سياسية نشيطة وجادة، تعبر عن الناس وطموحهم، ومن حقهم أن يحلموا بحقهم الطبيعي في التعبير والنقد والكتابة والرفض، ومن حقهم أن يحلموا بحقهم الطبيعي في مسائلة الجميع بداية برئيس الجمهورية ونهاية بأصغر مسئول عام، فالشعب هو صاحب السلطة وهو صاحب السيادة، والمسئولون جميعهم بلا استثناء يعملون عنده، وأي حصار للشعب وحقه في الحياة والتعبير والكرامة هو حصار زائل وغير مشروع مهما كانت درجة القمع والحصار.

لا تقدم اقتصادي بلا مشهد سياسي جديد ومختلف بشكل كامل عن السنوات السبع الفائتة، مشهد سياسي لا مجال فيه لحكم الفرد ولا لحصار الصحافة والإبداع والأفكار، ولا لبرلمان التصفيق ولا لأصوات النشاز والنفاق البائسة المثيرة للشفقة، هذا أو مزيد من الفشل والتراجع الاقتصادي والسياسي معا.