رغم تصريحات المسئولين في مصر حول مساحة الاستصلاح الزراعي “الضخم” الذي نفذته الحكومة خلال الفترة الماضية، تبقى الحقيقة على الأرض كاشفةً لواقع مغاير. إذ لم تصل مساحة الأراضي المستصلحة خلال الفترة بين عامي 2013 – 2021 إلى نصف مليون فدان. وهو رقم أدنى بقرابة الثلث عما شهدته مصر من قفزات في هذا الملف خلال الفترتين ما بين (1952 – 1968) و(1985 – 1999).

وقد أظهرت المراجعات السنوية لأرقام نشرة استصلاح الأراضي الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن عملية استصلاح الأراضي في مصر عبر تاريخها شهدت قفزتين؛ الأولى في الفترة من 1952 إلى 1968 بمساحة مليون و278 ألف فدان، قبل أن تتراجع إلى 292 ألف فدان خلال الفترة من عام 1969 حتى 1984، ثم تقفز مجددًا إلى استصلاح مليون و587.2 ألف فدان في الفترة من 1985 إلى 1999. بينما في الفترة من 2013 إلى 2021 سجلت حوالي 457.4 ألف فدان،

خلال تلك الفترة، كانت محافظة البحيرة الأكبر من حيث حجم الأراضي المستصلحة بحوالي 84.6 ألف فدان، تليها محافظة بورسعيد بمساحة 41.04 ألف فدان، ثم الوادي الجديد بمساحة 34 ألفًا و28 فدانًا، فمحافظة مطروح بمساحة 30 ألفًا و168 فدانًا.

وتُوضح البيانات، أنه خلال فترة المقارنة، احتلت شركات القطاع الخاص مقدمة ترتيب الجهات الأكثر استصلاحًا بحوالي 188.5 ألف فدان، تلتها الجمعيات التعاونية بمساحة 143.9 ألف فدان، ثم قطاع استصلاح الأراضي بوزارة الزراعة والهيئة العامة للتعمير بمساحة 44.3 ألف فدان.

حجم الأراضي المستصلحة من 2013 إلى 2021

حجم الأراضي المستصلحة من 2013 إلى 2021

حجم تكلفة استصلاح الفدان

تُظهر مراجعة لنشرة استصلاح الأراضي، قفزة في حجم تكلفة استصلاح الفدان بأكثر من 10 أضعاف بين أعوام 2013/ 2014. وقد بلغ متوسط تكلفة استصلاح الفدان 9.5 آلاف جنيه، مقارنة بمتوسط تكلفة للفدان بـ974.6 ألف جنيه خلال عام 2020/ 2021.

كما ارتفع إجمالي تكاليف الاستصلاح من 18.4 مليون جنيه عام 2013/ 2014 إلى حوالي 831.3 مليون جنيه عام 2020/ 2021. وذلك بزيادة 812.9 مليون جنيه خلال 7 أعوام فقط، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء.

وقفزت تكلفة استصلاح فدان الأرض بداية من 2019/ 2020. وفي هذه الفترة زاد متوسط التكلفة إلى 310.6 ألف جنيهًا لأول مرة، بنسبة أكثر من 9 أضعاف عن العام السابق عليه 2018/ 2019، والتي بلغ متوسط تكلفة استصلاح الفدان فيها 28.5 ألف جنيه.

تكشف نشرة الاستصلاح الصادرة عام 2021، أن أكثر المناطق التي تكلف استصلاح الفدان فيها هي مشروع بابو جارن بأسوان. حيث بلغت تكلفة الفدان حوالي 400 ألف جنيه. ثم مشروع نيموس بالجيزة، ووصلت تكلفة استصلاح الفدان إلى 200 ألف جنيه. ومشروع العيش الزراعية بأسيوط، وبلغت تكلفة استصلاح الفدان 110 ألف جنيه.

تطور تكلفة استصلاح الفدان بين 2013 إلى 2021
تطور تكلفة استصلاح الفدان بين 2013 إلى 2021

أسباب ارتفاع التكلفة

يقول حسين أبو صدام، نقيب الفلاحين، إن ارتفاع تكلفة استصلاح فدان الزراعة يرجع لعدة أسباب؛ أولها زيادة الأسعار الكبيرة التي حدثت في آخر 6 أعوام، بسبب التضخم وارتفاع الأسعار. فضلًا عن احتياج الأراضي الصحراوية إلى تكاليف مرتفعة لعملية الاستصلاح.

ويُضيف في حديثه، لـ”مصر 360″، أن ارتفاع قطع الغيار وأسعار السولار والكهرباء ضاعفت تكاليف فاتورة استصلاح فدان الأرض. ويوضح أن عملية استصلاح الأراضي نسبية. فهناك مناطق لا يتكلف فيها فدان الأرض 10 آلاف جنيه، بينما يتكلف في أخرى أكثر من 400 ألف جنيه.

ويُشير “أبو صدام” إلى أن سعر استخدام الآلات الزراعية في ارتفاع مستمر منذ تعويم الجنيه في 2016. كما أن عملية الاستصلاح تتوقف على رغبة المستصلّح فيما إذا كان يحتاج الأرض مستوية في حال ريها بالطرق العادية، أو متدرجة في حال ريها بالتنقيط، وغيرها من طرق الري.

كما أنه غالبًا ما تحتاج الأراضي في المناطق التي تريد الدولة استصلاحها أموالًا ضخمة للاستصلاح، وفق “أبو صدام”، الذي يلفت إلى أن إنتاجية تلك الأراضي المزروعة حديثًا غالبًا ما تكون ضعيفة جدًا ولا تكاد تذكر. حتى أنه في بعض الأحيان، لا تعطي الأراضي المستصلحة حديثًا إنتاجية إلا بعد مرور 5 أعوام. ذلك بسبب زيادة ملوحتها وطرق ريّها بمياه مالحة. إضافة إلى نقص العناصر الموجودة في التربة، ما يستلزم زيادة كميات الأسمدة الكيماوية والعضوية ونقل تربة خصبة من أراضي الوادي والدلتا إليها.

ماذا تزرع الدولة؟

يرى نقيب الفلاحين أن زراعة القمح في الأراضي المستصحلة حديثًا يعدّ إهدارًا للمال. ذلك لأن القمح من المحاصيل التي تتأثر بالملوحة فلا تعطي الإنتاجية المطلوبة. لذا تتم زراعة تلك الأراضي بمحاصيل مثل بنجر السكر أو الشعير أو محاصيل أشجار الفاكهة التي تتحمل ملوحة التربة ومياه الآبار التي تروى بها.

عبر تتبع أجراه “مصر 360” للبيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، يظهر أن محاصيل الفواكه تعدّ الأكثر زراعة في الأراضي المستصلحة حديثًا. وأبرزها البرتقال والعنب والمانجو والبلح. ونادرًا ما كانت تُزرع محاصيل الحبوب مثل الذرة والقمح والشعير.

أرشيفية
أرشيفية

وفي آخر نشرة صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، غلبّت زراعة أشجار الفاكهة المثمرة على المحاصيل الحقلية من الحبوب وغيرها. ما كشف عن تدرج حجم إنتاجية محصول العنب بين 2.1 إلى 7 أطنان، حسب مكان زراعته. فيما كان محصول البطاطس أفضل حالًا في منطقة وادي النطرون. حيث بلغت إنتاجية الفدان 26 طنًا، فيما انخفضت إلى 14 طنًا في أراضي الوادي الجديد، وفقًا لبيانات جهاز الإحصاء.

في حين كانت أبرز المحاصيل التي تمت زراعتها في مشروع المليون ونصف فدان هي تين برشومي، وبلغت إنتاجية الفدان طن واحد، والليمون، وبلغت إنتاجية الفدان 1.2 طن، والزيتون الذي وصلت إنتاجية الفدان إلى طن واحد.

كما كانت إنتاجية فدان القمح من الأراضي المستصلحة تتراوح بين طن وأقل من الطن، حسب نوعية الأرض والمناخ. وفي منطقة توشكى كانت الأقل في إنتاجية الفدان، بعكس مشروع العدوى في أسيوط، والذي كانت إنتاجيته حوالي 2 طن، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

اقرأ أيضًا: 1995 بداية تدهور أحوال الفلاحين.. خفض الدعم وتفكيك التعاونيات وتسعير بخس

مشروع الصوب الزراعية

بلغت مساحة الصوب الزراعية في العام 2020/ 2021 حوالي 60 فدانًا، أفرزت إنتاجية حوالي 3712 طنًا من محاصيل الفواكه والخضر، بقيمة حوالي 16.8 مليون جنيه، بحسب بيانات جهاز التعبئة والإحصاء.

وكان الخيار أكثر المحاصيل زراعة في الصوب الزراعية، بمساحة 14 فدانًا، يليه محصول الطماطم بمساحة 13 فدانًا، ثم محصول الفلفل بمساحة 12 فدانًا، ومحصول الجزر بمساحة 9 أفدنة، والكوسة بالمساحة نفسها، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

وتدرجت مساحة الصوب الزراعية على مر السنوات، ففي عام 2016/ 2017 بلغت مساحتها 27 فدان، وصلت إنتاجيتها إلى 530 طنًا من الخضروات والشتلات الزراعية. ثم وفي العام 2017/ 2018 بلغت مساحتها 22 فدان بإنتاجية 2168 طنًا من الخضروات وشتلات المحاصيل الزراعية.

أرشيفية
أرشيفية

وفي عام 2018/ 2019، بلغت مساحة الصوب الزراعية ارتفعت مساحة الصوب الزراعية إلى 31 فدان بإنتاجية 7164 طنًا، تنوعت بين الخضروات وشتلات محاصيل زراعية، وفي 2019/ 2020، وصلت مساحة الصوب إلى 26 فدانًا بإنتاجية 241 طنًا تنوعت بين الخضر ونباتات الزينة.

ومن الأرقام تبدو محدودية إنتاجية الصوب الزراعية على الأقل حتى الآن. فيما غلبّت زراعة الخضر وشتلات المحاصيل على مشروع الصوب الزراعية، وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.

مشاكل الاستثمار في الاستصلاح

تُوضح دراسة أعدتها الدكتورة دعاء سليمان والدكتور يحي عبد الرحمن، أن أبرز أزمات استصلاح الأراضي في مصر هي طول فترة إجراءات تأسيس الشركات، وفترة إجراءات التملّك التي تتطلب إبرام عقود بين الدولة والمستثمر. ذلك إضافة إلى اشتراط الدولة في العقود المبرمة عدم إتباع إجراءات التحكيم الدولي.

وتبين الدراسة التي تحمل عنوان “معوقات الاستثمار الأجنبي في استصلاح الأراضي بمصر”، أن عدم جاهزية بعض المناطق المستهدفة للاستصلاح بأعمال البنية التحتية، فضلًا عن ارتفاع تكلفة بعض خدمات البنية الأساسية يزيد من أعباء المستثمر المالية.

ويضاف إلى ذلك عدم الحصول على مصادر للطاقة إلا بعض الانتهاء من الزراعة فعليًا. وبالتالي تحمل المستثمر تكاليف السولار والبنزين لتشغيل الآلات بأسعار بأعلى من القيمة الفعلية له؛ لأنه يحصل عليها بدون موافقات رسمية، بحسب الدراسة.

ويلفت الباحثان إلى ارتفاع أسعار الأراضي والتقديرات الكبيرة لها، وعدم صدور قانون ينظم عملية استصلاح الأراضي مع المستثمرين الأجانب، وتقلب سعر صرف الجنيه المصري وعدم استقراره، وغياب الكفاءات الإدارية والفنية وضعف مجال التدريب الزراعي.

وختامًا، فإنه رغم جهود الدولة في عملية استصلاح الأراضي إلا إن تلك الجهود يعيبها محدودية المساحات القابلة للاستصلاح. فضلًا عن غياب الرؤية في عملية الاستصلاح، وزيادة فواتير عملية الاستصلاح نفسها في آخر عامين بأكثر من 10 أضعاف.