رغم موقفه المناهض لجماعة الإخوان المسلمين، ومشاركته في معظم الفعاليات والاحتجاجات التي أسقطت حكم الجماعة عام 2013، إلا أنه لم ينجرف كغيره من المثقفين والمفكرين في منح النظام الجديد الذي أسس على أنقاض حكم الإخوان «تفويض على بياض» خشية انزلاق البلاد إلى «دورة استبداد جديدة».

آمن الروائي والأديب الكبير بهاء طاهر بالدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، لم يكتف بالتبشير بأفكارها ومبادئها في كتابته وحسب، بل نزل إلى الشارع كغيره من المصريين مشاركا في المسيرات والمظاهرات التي رفعت شعاراتها قبل وأثناء وبعد ثورة 25 يناير وحتى 30 يونيو عندما قاد اعتصام المثقفين في وزارة الثقافة احتجاجا على محاولات الجماعة «أخونة» الدولة، من أجل هذا أبدى قلقه من ضياع الحلم الذي ثار من أجله الشعب، ودعا إلى ضرورة أن تُؤسس المرحلة التي أعقبت حكم الإخوان على قواعد «التنافسية والمشاركة والتعددية».

في نهايات 2005 نشر الأديب الذي رحل عن عالمنا قبل أيام مقالا في جريدة «العربي» توقع فيه وصول الإخوان إلى الحكم، شارحا فيه كيف تغلغلت الجماعة في مفاصل الدولة بشكل تدريجي، مستثمرة حالة الفراغ الناتجة عن تخلي الدولة عن واجباتها نحو الفئات والشرائح الأكثر فقرا وعوزا في المجتمع.

صدمه حينها حصول الإخوان على نحو 80 مقعدا في الانتخابات البرلمانية التي أجريت خلال هذا العام، وصف تلك النتائج بـأنها ««انقلاب فى ثقافة ووجدان المواطن المصرى»، قاصدا سيطرة الفكر «الإخوانى» على نسبة غالبة من الرأى العام فى مصر شاملة الأغلبية التى قاطعت، أو التى لم تكن تعنيها الانتخابات.

«حتى ستينيات القرن الماضى كان فى مصر مجتمع مدنى قوى ينخرط فى كفاح تحررى للتخلص من تخلف قرون طويلة فى ظل الخلافة العثمانية»، قال الروائي الراحل في مقاله، لافتا إلى أن «قيم الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية وحق التعليم للجميع، اكتسبت مصداقيتها لأنها نبعت وتطورت من خلال معارك وطنية ضد الاستبداد الداخلى والاستعمار الخارجى، ولأنها كانت تستجيب لحاجات ملحة للمجتمع».

«أثبت الشعب المصري انحيازه فى النهاية لهذه القيم الجديدة خلال ثورتيه الكبيرتين فى 1919 و1952»، يضيف طاهر، محملا الرئيس الراحل أنور السادات مسئولية ما جرى بعد ذلك «غير أن ذلك كله قد تغير منذ أوائل السبعينيات.. فقد بدأ السادات عصره بحملة شاملة على الثقافة فأغلق المجلات الثقافية جملة، وأغلق من بعدها المسارح الجادة، والمؤسسة الوطنية للسينما، وطارد وطرد المثقفين الحقيقيين من كل منابر الإعلام والثقافة».

ولفت طاهر إلى أن تلك الحملة الساداتية التي استهدفت العقل والوعي المصري مكنت الإخوان من السيطرة التدريجية على المجتمع «حسب البعض أن تلك الحملة كانت موجهة لخصومه، أو من اعتبرهم خصومه من الناصريين واليساريين، غير أنها كانت موجهة فى الواقع إلى قيم النهضة العصرية، إلى كل من يمثلونها، أو يحملون أمانة مواصلتها من المثقفين».

«عندئذ، أو قبل إذ، دخل الإخوان المسرح فوجدوا المشهد مهيئا تماما.. جماهير أدارت ظهورها، أو صرفت عنوة، عن كل مكتسبات الدولة المدنية التى ضحت من أجلها أجيال متعاقبة، واستبدلت بالعقلانية الإذعان والدروشة».

في مطلع 2014 سأله الكاتب الصحفي الأستاذ عبد الله السناوي خلال لقاء تلفزيوني «هل تعتقد أن الأسباب التي دعتك للقول بأننا على وشك أو قد وصلنا للإخوان قد انتفت بعد ما جرى في 30 يونيو أم أن الأخطار الجوهرية في بنية المجتمع مازالت موجودة؟».

أجاب طاهر: «الحقيقة أنها مازالت موجودة، لكن نوعية الخطر هي التي اختلفت، كان الإخوان يسيطرون على النقابات والهيئات المفروض أنها مستقلة بشكل أو بآخر، والنقلة من السيطرة على المجتمع للسيطرة على الدولة نقلة بسيطة جدا جدا.. والفكرة الأساسية كانت أن ما أدى إلى ذلك هو تحطيم أسس الدولة المدنية التي قضينا قرنين من الزمان من أجل تثبيتها وتأسيسها، وهذا التدمير مازال قائما بقوة الدفع الذاتي».

في تلك الجلسة الحوارية التي ضمت عدد من المثقفين والمفكرين في برنامج «صالون التحرير» قاطع الأستاذ محمد حسنين هيكل صديقه بهاء طاهر، لافتا نظره إلى أن مصر في هذا التوقيت بحاجة إلى «مركبة» تنقلها إلى المستقبل، فرد طاهر مبديا تفاؤله وقال «المصريون قاردون على مواجهة التحديات.. مررنا في تاريخنا بظروف أشد سوءا من التي نجابهها الآن واستطعنا تجاوزها».

وأردف: «استطاع المصري بهذه القدرة الهائلة على قبول التحدي أن يسير بالبلاد إلى بر الأمان، ونستطيع ضرب أمثلة عديدة جدا من التاريخ مثل نكسة 1967 وكيف تمكن الشعب من التغلب على هزيمته، ونضرب مثلا آخر بحكم الإخوان الذي كاد أن يدمر هذا الوطن واستطاع الناس في 30 يونيو أن يتغلبوا على تلك المحنة.. أنا شديد التفاؤل بقدرة المصريين على الاستجابة للتحدي وهزيمته».

كان هيكل يرى أن مهام المشير عبد الفتاح السيسي الذي كان يصفه بـ«مرشح الضرورة» مختلفة في الفترة التي ستلي تقلده منصبه كرئيس للبلاد بعد الانتخابات التي كانت ستجرى خلال أسابيع «حتى هذه اللحظة رأينا المشير السيسي في معارك دفاعية ونراه اليوم يتقدم إلى معارك هجومية في ميدان هو لم يتأهل له وهنا وهو مرشح ضرورة يحتاج إلى كل البلد وإذا تصور أحد اننا بنتكلم عن بطل منقذ فنحن نتكلم عن وهم».

وطرح هيكل فكرته التي كان قد طرحها أثناء فترة حكم مبارك والتي تتلخص في حاجة البلاد إلى إنشاء مجلس أمناء للدولة والدستور «السيسي عنده تأييد شعبي لكن ليس له ظهير سياسي لا ينوي أن يؤلف حزب ولا أتصور ذلك، فكرة البطل المنقذ شلها من دماغك أنا عايز رجل يجيء إلى المسئولية وهو متحسب للمسئولية وعارف هوا يقدر يعمل ايه بالبلد وبالناس وبأفكار كل الناس».

أبدى طاهر تحفظه على فكرة هيكل قائلا: «ده مش هيرجعنا تاني لفكرة الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي»، فرد هيكل: «الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي كانوا تنظيم واحد شوف يا أستاذ بهاء أنت قدام مشاكل وجودية في هذه المرحلة، فرق بين جبهة وطنية وجبهة وحدة وطنية وبين حزب واحد يتحكم، أنا مش عايز لا رجل واحد ولا حزب واحد أنا عايز كل قوى البلد تبقا طواعية باختيار، مش اتحاد اشتراكي أو قومي وقتهم كان جهة واحدة تحتكر العمل السياسي فيه فرق بين الشعوب في أوقات أزمة تؤلف جبهة وطنية موجودة من فرقاء متعددين».

كان هيكل يرى أن هناك اتجاه غالب بين المصريين يؤيدون السيسي، فتحفظ طاهر مجددا وتسأل: «لكن أين التنافسية؟»، فأجابه هيكل: «المنافسة مفتوحة بعد أن يكون هناك رئيس، هذا الرئيس يحتاج جبهة مؤتلفة وليس مندمجة كل أطرافها مستقلين لكن لديها إرادة اتفاق على ما هو الطريق.. نفسي جدا كافة القوى والتيارات تجد ملتقى تتكلم فيه قلق جدا من استمرار ان كل الناس تكلم بعض، أن تنتهي المسائل إلى ضياع.. أنت لاتملك فرصة للضياع».

لم يقنع طاهر بما طرحه هيكل، ورد الروائي الحالم على معطيات وبراهين الكاتب السياسي قائلا: «تجنب الضياع في رأيي يستوجب أن تكون هناك تنافسية، حتى تتخلق طبقة سياسية.. شكونا سنوات طويلة من التجريف وبالتالي نحن في حاجة إلى أن تكون لدينا طبقة سياسية ونريد انتخابات تنافسية تفرز تلك الطبقة».

هيكل أجاب بشكل مقتضب على طاهر بقوله «كنت أتمنى وجود مرشحين آخرين للرئاسة أمام السيسي»، واصفا مهمة الخروج بمصر من أزمتها بأنها مهمة «شبه مستحيلة»، واعتبر أن مصارحة الناس بالحقائق هي التي تحمي أي مسئول، مضيفا أن «مصر تحتاج إلى تجريدة فكرية تخطيطية وليست عسكرية»، وهو ما أكد عليه طاهر بقوله «يجب على الرئيس القادم أن يعلن أنه مسئول عن تأسيس الدولة المدنية الحديثة، واستئصال آثار الدولة شبه الدينية التي حاول الإخوان إقامتها».

رغم نبرة التفاؤل التي غلبت على حديث بهاء طاهر في تلك الجلسة إلا أن مشاعر القلق كانت حاضرة، القلق على الحلم الذي ناضل من أجله رفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين وغيرهم آلاف من المفكرين والمثقفين، فالتفويض أو التأييد الجارف لشخص واحد أيا كان ما فعله للبلد وغياب التنافسية عن الانتخابات المنتظرة جعله يخشى من أن مصر بصدد صناعة نظام جديد لا يختلف كثيرا عن النظام الذي ثار ضده المصريون.

قبل انزوائه في منزله بسبب مرضه الأخير، بدت على طاهر علامات الإحباط فحلمه بتأسيس الدولة المدنية العصرية التي تسودها قيم الحرية والعدالة والحداثة لايزال عالقا ولا يعلم متى ستمضي البلاد على طريق تحقيقه.