تعتبر فرنسا إفريقيا ملعبها الخلفي حتى إنها خصصت وزارة “المستعمرات القديمة” لاستمرار هيمنتها رغم أنها غادرت معظم دول القارة منذ الستينيات.

وبقيت علاقات الاستغلال الفرنسي للقارة الإفريقية قائمة لعقود فيما اليوم يبدو الدور الفرنسي في حالة تراجع نتيجة عاملين. أولا ضغوط داخلية في فرنسا مدفوعة بالأزمة الاقتصادية. وثانيا ما طرأ على خريطة الأنظمة السياسية في إفريقيا من متغيرات ضمنها دول كانت تهيمن عليها باريس.

وتراجع نفوذ باريس سمح بوجود دول تشغل مكانها منها روسيا. التي تريد توسيع نفوذها. خاصةً في الغرب الإفريقي. ونموذج مالي وبوركينا فاسو مثال مهم على ذلك التوسع.

تاريخيا سيطرت فرنسا على دول الساحل وضمنها الجزائر ومالي وبوركينا فاسو وتشاد وموريتنيا عبر الاستعمار. ثم تلا ذلك برامج الشراكة. ومع توسع أنشطة الحركات الإرهابية لعبت فرنسا دورا في مواجهة المسلحين االمرتبطين بتنظيم “القاعدة” ثم مجموعات موالية لـ”داعش”.

انسحبت فرنسا مؤخرًا من مالي بعد انهيار العلاقات مع المجلس العسكري الحاكم. والذي لجأ بشكل متزايد عسكريًا إلى روسيا للحصول على الدعم في قتال المسلحين والإرهابيين. ورغم مضي نحو عام على وجود عناصر “فاجنر” في مالي فإن المؤشرات الأولية لا تبدو مشجعة. حيث تتزايد هجمات الإرهابيين وسقط أكبر عدد من القتلى من هجمات المتشددين خلال عام 2022. كما اتهمت عناصر “فاجنر” بارتكاب انتهاكات حقوقية.

أسباب أفول الهيمنة الفرنسية

تراجع فرنسا في إفريقيا
تراجع فرنسا في إفريقيا

يقول الباحث بمركز الخليج للدراسات السياسية والاستراتيجية محمود رأفت إن زمن الهيمنة الفرنسية في مالي وبوركينا فاسو وإفريقيا الوسطى انتهى. ويتراجع أيضا في تشاد وغينيا بيساو. ما يعني أن أفول نجم فرنسا إفريقيا بات قريبًا. خاصةً مع تزايد نفوذ قوى مضادة على رأسها روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والصين وحتى تركيا.

خارج الولاية الباريسية

يضيف “رأفت” لـ”مصر 360″ إن دوائر صنع القرار في باريس تدرك أن نجاح بعض الدول الإفريقية في الخروج من فلك فرنسا سيمتد لا محالة إلى بلدان وسط وغرب إفريقيا الناطقة بالفرنسية. ما يعني إضافة إلى أزمة اقتصادية لباريس والتي اعتمدت على “نهب” ثروات البلدان الإفريقية.

 

قوات فاجنر الروسية في مالي
قوات فاجنر الروسية في مالي

كما اعترف مصدر في قصر (الإليزيه) بالوجود الروسي القوي في مالي على حساب بلاده قائلًا: “لطالما قللنا من شأن الهجوم الروسي في إفريقيا. عندما تكون في الواقع ساحة المعركة نفسها وفقًا لمنطق الكرملين فإن مالي لا تقل أهمية عن أوكرانيا”. مشيرًا إلى جهود “فاجنر” العسكرية في مالي.

ويرجع الباحث في العلاقات الدولية أحمد العناني تقلص الوجود الفرنسي في مالي ومنطقة الساحل بسبب التكلفة الاقتصادية. والتي أصبحت باهظة. كما أن جماعات إرهابية منها “الشباب” في الصومال و”بوكو حرام” في نيجيريا تستهدف القوات الفرنسية. وهذا ضمن المعطيات التي عجلت بتقليص الوجود الفرنسي. لكن هذا لا يلغي وجود صراع براجماتي بين باريس من ناحية وموسكو وواشنطن من ناحية أخرى. فيما يتعلق بصراع المصالح الاقتصادية وكيفية استعلال موارد إفريقيا.

تكلفة مادية وعسكرية

يقول الباحث في الشأن الدولي أحمد سلطان إنه وفقًا لإعلان إيمانويل ماكرون أنه سيسحب القوات الفرنسية من غرب إفريقيا ومالي وستحل محلها قوى أوروبية فإن هناك اتجاها قويا لدى باريس للتركيز أكثر على الأوضاع الداخلية. وترك مناطق الصراعات في غرب إفريقيا ومناطق الساحل والصحراء لصالح نفوذ روسي.

وأضاف “سلطان” لـ”مصر 360″ أن الظروف السياسية والاقتصادية لفرنسا -كدول أوروبية كثيرة- تأثرت بتبعات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية. وسيكون من المرجح تخفيف أو التخلي عن أعباء السيطرة في إفريقيا وما تمثله من كلفة مادية وعسكرية على اقتصاد بلادهم.

مصر وإعادة توفيق الأوضاع

المتداد والثقل السياسي المصري في إفريقيا
المتداد والثقل السياسي المصري في إفريقيا

وتابع سلطان قائلًا إن الدور المصري مهم في إفريقيا باعتبار القاهرة أكبر دول القارة سياسيًا. وعادةً ما تكيف كل دولة سياساتها وفق وجود عدد من الركائز السياسية الفاعلة. وتابع أن مصر كانت ولا تزال على تقارب كبير مع الدور الفرنسي في إفريقيا. والتغيير الذي طرأ على خريطة النفوذ في إفريقيا يتطلب إعادة توفيق أوضاع سياسية وخريطة تحركات. وذلك بغض النظر عن التفاهمات الروسية المصرية السياسية في العديد من الملفات.

ضربات لقوة فرنسا تعزز الوجود الروسي

تقول الباحثة بمركز الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة الدكتورة نرمين توفيق إن الدور الأمريكي في إفريقيا لم يتأثر. لكن النفوذ والهيمنة الفرنسية تعرضت لضربات كبيرة في الشهور الماضية. وباتت هناك معضلات أفقدت فرنسا الفاعلية.

ففي تشاد خرجت مظاهرات ضد الوجود الفرنسي. فما كان من المجلس العسكري الموالي لفرنسا إلا قتل عدد من المتظاهرين. الأمر الذي أشعل الصراع في البلاد. خاصةً أن الشعب التشادي يريد حذو خطوات شعبَي مالي وبوركينا فاسو في طرد فرنسا من بلاده.

وأضافت لـ”مصر 360″ أن هاشمي غويتا -رئيس اللجنة الوطنية لإنقاذ شعب مالي- وإبراهيم تراوري -القائد المؤقت لبروكينا فاسو- ارتكزا في صراعهما مع فرنسا على الدعم الروسي. فموسكو تحالفت مع المجلس العسكري المالي وتغلغلت رسميًّا عبر قوات “فاجنر”. وهناك تعاون عسكري كبير بين البلدين وصفقات تسليح. أيضًا في إفريقيا الوسطى سيطرت روسيا على مناجم الذهب.

روسيا وخريطة الصراع

ترحيب كبير بروسيا في إفريقيا
ترحيب كبير بروسيا في إفريقيا

يتوقع محللون أن عودة روسيا إلى إفريقيا مدفوعة بطموح كبير يشجعه الترحيب الذى وجدته في مالي وبوركينا فاسو. ويعززه الهوس الإفريقي بالتسليح والخوف من الفراغ الأمني الذي بدا واضحًا بعد التراجع الغربي (الانسحاب الفرنسي) في عدة مناطق.

وباتت خريطة الصراع تركز على منطقة الساحل الأفريقي ذات النفوذ التاريخي لفرنسا. وقد أخرجت روسيا فرنسا من إفريقيا الوسطى منذ عام 2017 ومن مالي عام 2021. وربما قريبًا من بوركينا فاسو التي تم الاعتداء على السفارة الفرنسية فيها والإطاحة بالعقيد سانداوجو -المتهم بالولاء لفرنسا- واعتلاء النقيب إبراهيم تراوري مقاليد الأمور. وكذلك في النيجر وتشاد التي شهدت تظاهرات تطالب بخروج فرنسا.

لقد خسرت فرنسا أيضا كلا من رواندا والجابون منذ أن تركت الدولتان المجموعة الفرانكفونية وانضمتا إلى الكومنولث. بينما توجد على أراضي موزمبيق مجموعات “فاجنر”. وبالرغم من الاستجابة للضغوط الأمريكية فإن الخبراء يعتقدون أن عناصر هذه المجموعات ما زالت هناك.

أدوات تعزيز وجود روسيا إفريقيا.. سلاح ومال ودعاية

تعزز الوجود الروسي في إفريقيا تدريجيًا بعد مالي وانتشار قوات فاجنر بها. وأسهم الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو في اتخاذ شكل دعائي. واحتفل شبان في شوارع العاصمة واجادوجو حاملين الأعلام الروسية.

وتسود تكهنات حول دور روسي أسهم في استيلاء الضابط إبراهيم تراوري على السلطة في بلد يعاني من تنامي نشاط الإرهابيين والمسلحين.

رجل الأعمال المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومؤسس جماعة المرتزقة “فاجنر” يفغيني بريجوزين هنأ النقيب إبراهيم تراوري ووصفه بـ”الابن الحقيقي والشجاع” لوطنه بوركينا فاسو. مضيفًا: “كان شعب بوركينا فاسو يئن تحت نير المستعمرين الذين سرقوا قوته ومارسوا ألاعيبهم القذرة ودربوا ودعموا عصابات قطاع الطرق وتسببوا في كثير من الآلام لمواطني هذا البلد” في إشارة إلى فرنسا.

في سياق متصل صرح مستشار الكرملين السابق سيرجي ماركوف بأن بلاده ساعدت الزعيم الجديد لبوركينا فاسو. وإن دول إفريقية أخرى تنهي التعاون مع فرنسا وتتحالف مع روسيا. ويرى الدكتور صموئيل راماني ذلك خروجًا عن الموقف المألوف لروسيا من الاضطرابات السياسية في المنطقة.

يقول صموئيل راماني -الباحث بمركز أبحاث للدفاع والأمن- ومؤلف كتاب “روسيا في إفريقيا”: “خلال الانقلابات السابقة حاولت روسيا تقديم نفسها كمستفيد عرضي من تغيير الأنظمة”. لكن هذه المرة هي أكثر نشاطًا في دعم سلطة بوركينا فاسو الجديدة. وأدى ذلك إلى بروز تكهنات بأن روسيا لعبت دور المنسق فيه بواسطة مجموعة فاجنر. رغم أن روسيا نفت مرارًا أي صلة للمجموعة بالحكومة الروسية ولا يوجد دليل على وجود دور روسي مباشر.

مستقبل الوجود الفرنسي في ظل صراع دولي

 

مظاهرات لطرد فرنسا من إفريقيا
مظاهرات لطرد فرنسا من إفريقيا

لم تنسحب فرنسا بشكل كامل من إفريقيا. وتعتبر مناطق الفرانكفونية أرض نفوذ ولن تتخلى عنها بصورة شاملة ولكنها تتبع سياسة تخفيف الأعباء التي تتبعها إدارة إيمانويل ماكرون.

فرنسا اقتنعت في الفترة الأخيرة بما اقترفته سياسيًا من التزحزح عن مكانها الفريد في السياسة الإفريقية. وضمن جهودها للتصدي للروس عينت في يوليو/تموز 2021 جنرالًا مقتنعًا بضرورة الانخراط في حرب المعلومات. وهو الجنرال تييري بوركار. رئيسًا لأركان الجيش الفرنسي من قبل إيمانويل ماكرون.

وتبنى الجيش الفرنسي عقيدة عسكرية للتصدي في مجال المعلوماتية من أجل هيكلة وسائل الجيش الفرنسي القتالية في الفضاء السيبراني. وعهد إلى قيادة الدفاع الإلكتروني “كومسايبر” ومقرها مدينة رين الإشراف على هذه العقيدة العسكرية. وتخضع للسلطة المباشرة لرئيس أركان الجيش الفرنسي.

ويتوقع خبراء أن تتزايد فرص التنافس الجيوسياسي في إفريقيا بين فرنسا وروسيا خلال المرحلة المقبلة. ولكن في بعض الدول مثل مالي وأوغندا أيضًا الولايات المتحدة لن تتخلى عن دورها هناك. ولن تترك المسرح كاملًا لإدارة فلاديمير بوتين في وسط وغرب إفريقيا وما يمثله من هزة للقطب العالمي الأول (أمريكا).