تطورت أنظمة سعر الصرف في العقود الأخيرة وخاصة بعد انهيار نظام “بريتون وودز” عام 1973، فمع بداية القرن العشرين كان الخيار الوحيد المتاح للدول هو نظام الصرف الثابت (قاعدة الذهب)، ولكن بعد انهيار هذا النظام أصبحت الدول حرة في تبني نظام الصرف المناسب لها، فتعددت خيارات نظم سعر الصرف، ولكن بوسعنا حصرها في أنظمة ثلاثة هي: نظام سعر الصرف الثابت، نظام سعر الصرف المرن، نظام سعر الصرف الوسيط أو المختلط.

وقد اختلف الاقتصاديون في ترجيح أفضل سياسات سعر الصرف، فبينما ربط كل من “فريدمان” و”مندل” نظام سعر الصرف بتحقيق هدف الاستقرار، وبلوغ أهداف حكومية، ومحاولة وضع قواعد للسياسات الاقتصادية خاصة في مجال الصرف الأجنبي، فإن تيارا آخر بقيادة كل من “روجوف” و”أوبسفيلد” و”هلبمان” و”لابان” وإندرز” عمدوا إلى تعديل المعايير المحددة لاختيار نظام سعر الصرف الملائم، بإدخال مفهوم الصدمة (داخلية، خارجية، حقيقية، مالية) وإضافة معيار الرفاهية وتعديل أهداف الحكومة.

لذلك تعد مسألة اختيار نظام سعر الصرف الملائم لأي اقتصاد من أصعب التحديات التي تواجه الاقتصادات حول العالم، نظرا لأهمية هذا الاختيار من جهة، ولتأثيره على الأداء الكلي للاقتصاد من جهة أخرى. وقد أصدر صندوق النقد الدولي ثلاث دراسات هامة في هذا الشأن في أعوام 1999 و2003 و2009 بينت تأثير نظام سعر الصرف الذي تنتهجه الدولة على أداء مؤشراتها الاقتصادية الكلية (مثل: التضخم، النمو الاقتصادي، الأزمات المالية…).

وفقا لـ”فرانكل” (1999)، لا يوجد نظام سعر صرف مثالي يناسب جميع الدول وفي كل الأوقات، ولكن هناك نظام سعر صرف مثالي خاص بكل دولة. لذا، في السنوات الأخيرة عمد العديد من الاقتصاديين إلى حصر أهم العوامل التي تحدد الاختيار الأمثل لنظام سعر الصرف، والتي تأخذ بعين الاعتبار: هيكلة الاقتصاد، ونوع الصدمات التي يواجها الاقتصاد، ودرجة الانفتاح المالي والاقتصادي على العالم، من أجل مساعدة الدول في اختيار نظام سعر صرف ملائم خاص بها .

وفيما يلي، نستعرض بإيجاز أبرز ملامح أنظمة سعر الصرف، قبل أن نتناول نظام سعر الصرف الذي توشك مصر أن تتبناه خلال الفترة المقبلة وفقا لبيان البنك المركزي المصري (نهاية أكتوبر 2022) وتصريحات محافظ البنك المركزي خلال المؤتمر الاقتصادي عشية إصدار البيان.

أولا: نظام سعر الصرف الثابت:

في هذا النظام يتم ربط العملة الوطنية وتثبيتها بقيمة تعادل مقابل عملة أجنبية أو بسلة من العملات الأجنبية، حيث الأوزان تعكس الوزن النسبي للتجارة. فاختيار عملة الربط لبلد معين يتم استنادا إلى معرفة العملة أو العملات التي يتم بها عقد معظم صفقات هذا البلد. وفي الواقع، لا يكون سعر الصرف المحدد ثابتا بصفة دائمة، حيث تعمد السلطات النقدية إلى تثبيت العملة وتغيير قيمة تعادلها عند الضرورة. ومن أجل ضمان فاعلية نظام الصرف الثابت، يجب على الدولة أن تلتزم التزاما كاملا بالدفاع عن قيمة تعادل العملة، سواءً في حالة تعرضها لصدمات داخلية أو خارجية، وأن يكون لديها احتياطي نقد أجنبي كاف من أجل التصدي لعمليات المضاربة ضد العملة.

كذلك تستطيع الدولة تغيير قيمة تعادل عملتها، بتخفيض أو رفع قيمة العملة الوطنية أمام عملات الربط. وتتعدد صور تثبيت سعر الصرف وفقا لدرجة التثبيت كما هو مبين فيما يلي:

  • أسعار صرف ثابتة ثباتا مطلقا (أو أسعار صرف ثابتة بحق): وفي هذه الحال تلتزم السلطات النقدية أو البنك المركزي التزاما مطلقا بالحفاظ على قيمة سعر الصرف المثبّتة، وتتدخل بشراء وبيع العملات الأجنبية اللازمة للحفاظ على القيمة الثابتة المحددة سلفا.
  • مجالس العملة (أو صندوق الإصدار): وهو نظام نقدي تلتزم بموجبه الدولة قانونا بصرف عملتها الوطنية بمعدل ثابت مقابل عملة صعبة. هذا التعهد أو هذا الالتزام يفرض قيدا على السلطة التي أصدرت تلك العملة من أجل ضمان الالتزامات التي يفرضها القانون. ومن سمات هذا النظام، أن تكون الكتلة النقدية المتداولة مضمونة بقيمة تفوقها أو تساويها على الأقل من احتياطات الصرف، ومن ثم لا تستطيع السلطات النقدية إصدار مزيد من النقود دون أن تزيد مقابله نسبة احتياطات من عملة الربط، ولا تستطيع تمويل عجز الموازنة ومساعدة المؤسسات المهددة بالإفلاس.
  • اتحادات العملة: هي من صور التثبيت الأكثر صرامة، وتكون في حالات دخول الدولة كعضو في اتحاد نقدي مثلا أو تخضع لصورة من صور التعاون النقدي الذي تصدر من خلاله عملة مشتركة. من ثم لا يمكن للدولة تغيير أسعار الصرف الثابتة وفقا لشروط هذا التعاون وسلطة إصداره (مثال ذلك ما يتعلق بقيمة اليورو بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي).

على النقيض من النظم الثابتة، هناك نظم سعر الصرف المرنة أو العائمة، ومن مؤيدي تلك النظم الاقتصادي “فريدمان”، الذي يجزم بتفوق نظام الصرف المرن على نظام الصرف الثابت، نظرا لكون مرونة سعر الصرف تحقق حرية التجارة، وحرية اختيار الدولة للسياسة التي تحقق الاستقرار والتوازن الداخلي. فهدف كل نظام نقدي دولي (وفقا لفريدمان) هو تشجيع وقيام تجارة متعددة الأطراف بدون حواجز. والشرط الأساس لتحقيق هذا، هو حرية تحويل العملات، والأداة الأساسية لتحقيق التوازن الاقتصادي العام هي حرية حركة رؤوس الأموال، بحيث يضع فريدمان ثقة كبيرة في المضاربة التي تعمل على التعديل أو التحقيق التوازن.

فنظام الصرف المرن يترك تحديد أسعار الصرف إلى قوى السوق بالكامل، ومع مرور الوقت يتغير سعر الصرف بين عملتين تبعا لتغيرات العرض والطلب على هاتين العملتين. ويؤدي ذلك نظريا إلى تحقيق سعر صرف متوازن، مما يعطي الدولة الحرية بمتابعة السياسات المحلية المطلوبة من دون قيود خارجية، فتتحسن العملة عندما ترتفع قيمتها (زيادة الطلب عليها) وتتراجع عندما تخسر من قيمتها (ينخفض الطلب عليها). وهناك صورتان لنظام أسعار الصرف المرنة، نبيّنها فيما يلي:

  • نظام الصرف المرن الحر (التعويم الحر): يتم تحديد سعر الصرف حسب تقلبات العرض والطلب، ولا تتدخل السلطة النقدية في السوق بهدف التأثير على سعر الصرف، وإنما تتدخل في حالات نادرة من أجل الحيلولة دون التقلبات غير المرغوبة، دون استهداف معدل معين.
  • نظام الصرف المرن المدار (التعويم المدار): وهنا كذلك يتم تحديد سعر الصرف في السوق حسب العرض والطلب على العملة، ولكن يتميز هذا النظام عن التعويم الحر بكونه يسمح بتأثير السلطات النقدية على تحركات معدل الصرف بتدخلاته الفعّالة في سوق الصرف، دون تخصيص ودون إعلان مسبق عن مسار سعر الصرف.

وبين نظامي سعر الصرف الثابت والمرن هناك ما يمكن وصفه بنظام سعر الصرف الوسيط أو المختلط والذي من أبرز مؤيديه الاقتصادي الشهير “بول كروجمان” والاقتصادي “ويليامسون”. ويرى الاقتصاديان (وغيرهما من المؤيدين ومنهم كاتب هذه السطور)، أن هذا النظام هو مزيج من نظامي التثبيت والتعويم، ويعد أفضل منهما معا كونه يأخذ ميزة الاستقرار من نظام الصرف الثابت، وميزة استقلالية السياسة النقدية من نظام الصرف المرن. ولنظام الصرف الوسيط كذلك عدة أشكال نوجزها فيما يلي:

  • نظام الربط القابل للتعديل : Adjustable Peg وهو نظام صرف ثابت، ولكنه قابل للتعديل في حالة حدوث اختلال كبير في ميزان التجارة (صادرات وواردات السلع)، ويسمح هذا النظام بتعديل سعر الصرف وفقا لفروقات التضخم بين دولة العملة الأجنبية ودولة الربط، ويتميز هذا النظام بكونه يسمح بدراسة المؤشرات الاقتصادية الهامة (مثل ميزان المدفوعات مؤشرات الأسعار … إلخ) بغرض دراسة تأثيرها على سعر الصرف، ومن ثم السماح لدولة الربط بتقدير والتنبؤ بنسبة التعديل ووقت تطبيق التعديل في هذا السعر.
  • نظام الربط المتحرك أو الزاحف :Crawling Peg ويعتبر أيضا نظام صرف ثابت مثل نظام الربط القابل للتعديل، ولكن تنص سياسة سعر الصرف هنا على قيام الدولة بتخفيضات في عملتها الوطنية بصفة متكررة بنسب محدودة كل فترة زمنية أو كلما كان ذلك ضروريا حسب معايير وشروط محددة، ويتم تعديل قيمة العملات آليا وذلك بترجيح الأسعار بالمؤشرات.
  • الربط بسلة العملات: وفي هذا النظام يتم ربط العملة المحلية بسلة من العملات وليس بعملة أجنبية واحدة، فإما أن تختار الدولة أن تربط عملتها بحقوق السحب الخاصة SDR التي هي عبارة عن سلة يصدرها صندوق النقد الدولي من عملات لكبرى الدول اقتصاديا وأهم العملات التي لكل منها وزن معين في حقوق السحب (الدولار الأمريكي الأكبر وزنا بطبيعة الحال) أو أن تختار الدولة ربط عملتها بسلة من عملات أهم الشركاء التجاريين لها. وهذا النظام هو ما أشار السيد محافظ البنك المركزي المصري إلى كونه يرجح استخدامه في الفترة المقبلة (حتى وإن جاء الوصف في بيان البنك المركزي خلاف ذلك، عندما أشار إلى تبني سياسة صرف مرن، لأن المقصود هنا سياسة أكثر مرونة فيما يبدو).
  • منطقة محددة أو منطقة مستهدفة: ففي هذا النظام تحدد الدولة الحد الأعلى والحد الأدنى الذي يمكن أن يبلغه سعر الصرف، فتسمح له بالتقلب في حدود هذا الهامش، ولا تتدخل الدولة طالما لم يتجاوز سعر الصرف الهامش المحدد، ولكن تتدخل السلطات النقدية فقط لمنع تجاوز سعر الصرف الهامش المحدد سلفا.

ومن الأشكال السابقة لنظام الصرف المختلط أو الوسيط الذي يمزج بين الأنظمة المرنة والمثبتة، يتضح أن البنك المركزي المصري يعتزم تبنّي نظام الربط بسلة العملات مع السماح للتحرك داخل منطقة مستهدفة أو هامش محدد سلفا (غير معلن بالضرورة). وهو نظام ينقلنا من نظامي الربط المتحرك والقابل للتعديل (وكلاهما من أشكال النظم المختلطة)، إلى نظم ربط مرنة soft peg تراها السلطة النقدية أكثر مرونة وأكثر تعبيرا عن المؤشرات الاقتصادية، حيث أكد محافظ المركزي أن البنك بصدد إصدار مؤشر للجنيه المصري يضم سلة من العملات والذهب، في إشارة إلى أن ذلك المؤشر من شأنه المساعدة في تحديد قيمة عادلة للعملة تعكس وزنها في التجارة والمعاملات، ومن ثم المساعدة في تحديد الهامش الذي يجب أن تتحرك خلاله قيمة العملة الوطنية مقابل أهم العملات، ومن ثم يحدد الوقت والقيمة التي ينبغي عندها أن تتدخل السلطة النقدية للتأثير في العرض والطلب.

ويتضح مما سبق أن مصر غالبا ما كانت تتبع نظاما وسيطا خلال التسعينات من القرن الماضي، وأنها تحوّلت إلى النظم المرنة مع بداية الألفية (وفق ما هو معلن) لكنها بقيت فعليا في مساحة الربط المرن أو الزاحف. ولم يكن الاعتماد على سلة عملات عوضا عن الدولار الأمريكي ليؤثر كثيرا في طبيعة الربط المرن تاريخيا، نظرا للأهمية النسبية في وزن الدولار الأمريكي في حقوق السحب الخاصة، وفي عملة التجارة (بنسبة 80%) وكعملة تقييم وسداد الديون، وعملة الاحتياطي الأهم في العالم.

ومن مميزات هذا النظام أنه يجعل الدولة أقل عرضة للصدمات الخارجية ولسيطرة المضاربين، مع إمكانية التأثير المرغوب على سعر الصرف دون الحاجة إلى حجم كبير جدا من احتياطي النقد الأجنبي، الذي يتعين توافره بصفة مستمرة في حالة التثبيت أو الربط الجامد (كما هي الحال في دول الفوائض النفطية). لكن إذا لم تقلل مصر من الاعتماد على الديون الخارجية (المستحقة السداد بالعملة الصعبة) والواردات الأجنبية (بلغت ما يقرب من 90 مليار دولار مقارنة بنحو 45 مليار دولار صادرات) فإن تأثير تقلبات سعر الصرف عليها سيظل كبيرا، بما يؤثر سلبا على النمو الاقتصادي والتضخم والبطالة وميزان المدفوعات ذاته، ويجعل الدولة حائرة بين قرار ترك العملة إلى حد انفلات أسعارها بشكل غير متصور أو مقبول نظرا لتداعياته الاقتصادية الكبيرة، وبين قرار التدخل في سعر الصرف المكلف جدا والذي يعمّق الفجوة بين الصادرات والواردات (التي تصبح أرخص سعرا بصورة لا تعكس الواقع) ويساعد على عزوف الاستثمار الأجنبي (المطلوب لسد الفجوة بين معدل الادخار المحلي البالغ 6% وبين معدل الاستثمار المطلوب لتحقيق معدل نمو 7% وهو ما لا يقل عن 20% معدل استثمار)، وذلك لأن المستثمر الأجنبي يجد أن عملته لا تقيم بالشكل الذي يقبله السوق.

فالحل المستدام إذن يكمن في إصلاح الاقتصاد العيني، وزيادة الإنتاج وتخفيض فاتورة الاستيراد والاعتماد على مصادر أخرى لتمويل عجز الموازنة بخلاف الدين الخارجي. وفي هذا تكتب العديد من المقالات.