قبل قرنين من الزمن تأسست في مصر دولة حديثة من حيث شكل الدولة وليس من حيث مضمونها، فقد استعارت من أوروبا بعض المعارف وبعض القوانين وبعض نظم الإدارة والحرب، لكنها حافظت على مضمون الحكم العثماني المملوكي من حيث استبعاده للشعب من معادلة الحكم، ثم إن ما يسمى الدولة الحديثة زادت على التقاليد العثمانية المملوكية ما تجاوز الاستبعاد والتهميش إلى القمع المنظم والقهر الدائم، حدث هذا في عهد محمد علي باشا وسلالته من بعده على مدى يقترب من قرن ونصف قرن، ثم تكرر – لكن بصورة أشد طغيانا وعتوا -في عهود الحكام من ضباط الجيش في ظل النظام الجمهوري على مدى سبعين عاما ومازالت متواصلة من محمد نجيب إلى عبد الناصر إلى السادات إلى مبارك إلى السيسي.
دولة محمد علي باشا وسلالته احتفظت بتراث الاستبعاد العثماني المملوكي، ثم جاءت دولة الحكام من الضباط فاستمرت في الحفاظ عليه وزادت عليه احتفاظها بتراث الطغيان الاستعماري البريطاني ومارست كل ذلك باسم الشعب تحت شعار الوطنية والاستقلال والقومية. فتاريخ الدولة الحديثة منذ تأسست إلى اليوم والغد هو تاريخ تتواصل فيه الديكتاتوريات دون انقطاع إلا لحظات نادرة لا تلبث بعدها أن تستعيد قواها وتجدد نفسها وتستأنف مسيرتها نحو المزيد من إحكام السيطرة على الشعب وإطفاء نوره وإخماد روحه وشل إرادته وتكسير عزيمته وتطويعه حتى يتكيف -بوعي أو دون وعي- مع ظلم الأمر الواقع، الدولة الحديثة كانت ومازالت مجرد أقفاص من حديد يُحشر المصريون بين قضبانها تحول بينهم وبين الحداثة الحقيقية.
الحداثة الحقيقية -في السياسة والحكم- تعني أن تكون الدولة بكل سلطاتها ومؤسساتها في خدمة المواطنين وراحتهم ورفاهيتهم وتقدمهم المادي والروحي وسعادتهم وتمتعهم بحياة طيبة في بلدانهم، لا أن يكون المواطنون في خدمة طبقات الحكام من ملوك أو رؤساء ومن حولهم من أمراء ونبلاء وأشراف وطبقات مميزة وقيادات البيروقراطية والمنتفعين والمتربحين بكل أشكالهم. الحداثة هنا تعني أن يكون المواطن ولي أمر نفسه وسيد مصيره ليس تابعا ولا خاضعا ولا رعية، قراره في يده وليس في يد الحاكم، بل المواطن هو من يختار الحاكم ويراقبه ويحاسبه ويعارضه ويحاكمه، وإن شاء عزله من موقعه أو أبقى عليه بإرادته.
الدولة الحديثة في الغرب -عقب الثورتين الأمريكية 1776 ثم الفرنسية 1789- كان قد سبقها المجتمع الحديث، والمجتمع الحديث كان قد أنشأ الإنسان الحديث، فقد كافح الإنسان الغربي -بجرأة تصل حد البطولة- كافة أشكال القهر المفروضة على عقله وروحه وضميره، كافح قهر الحكام ومن حولهم، كافح قهر الكنيسة ومن حولها، كافح قهر التقاليد ومن دافع عنها، كافح الإنسان الغربي على كل الجبهات في وقت واحد، حطم كل ما طُلب منه عبادته من أصنام، وكسر كل ما وضع في يديه من قيود وفي رجليه من أغلال وعلى عينيه من عصابات سوداء، ألقى بكل ذلك بعيدا، وحرر عقله وضميره وروحه وحطم قيوده وأغلاله وامتلك إرادته وشحن عزيمته وشد همته وأعلى كلمته فوق كلمة حكامه حتى أصبح سيد نفسه وسيد وطنه وسيد مصيره يعلو حكامه وحكامه يستمدون شرعيتهم منه دون سواه فإن شاء رفعهم وإن شاء أجلسهم في بيوتهم وإن شاء ساقهم إلى المحاكم وأنفذ فيهم كلمة الحق والعدل.
التحديث في الغرب بدأ في وقت مبكر، سبقونا بثلاثة قرون على الأقل، ثم بدأ بالمجتمع وبالأفراد قبل الدولة وقبل الكنيسة وقبل المؤسسات والطبقات المهيمنة، ثم بدأ في إطار تحولات رأسمالية جبارة شاركت فيها الدولة والمجتمع والكنيسة وكافة الطبقات، ترافق معها نهضة جبارة في التفكير الحر في كل المجالات، مع حركة نشطة لم تترك برا ولا بحرا في القارات الست لهم فيه مصلحة مادية إلا وصلوا إليه وفرضوا سلطانهم عليه، جاءت حداثة الإنسان الغربي والدولة الغربية في إطار من التمرد الذاتي على كل ما هو مفروض بالقهر القديم والمصالح القديمة ثم في إطار السعي للهيمنة العسكرية والسياسية على العالم كله خارج حدود أوروبا وقد تم هذا التمرد الذاتي والتوسع الاستعماري مع تنافس داخلي عنيف بين القوى الأوروبية على مدى خمسة قرون من حروب مذهبية ودينية وطائفية إلى حروب نفوذ وسيطرة بين العائلات الحاكمة إلى حربين عالميتين لم يشهد تاريخ الإنسان أعنف منهما.
الإنسان الحديث في الغرب صنع نفسه عبر كفاح ممتد من مطلع القرن الثالث عشر 1215 حيث صدرت الوثيقة العظمى الشهيرة باسم ماجنا كارتا تضع قيودا على سلطان الملك، وبعد كل هذا التاريخ مازال عندنا -في العالم العربي والشرق الأوسط- حكام سواء ملوك أو رؤساء يحكمون شعوبهم دون قيود على سلطانهم، خلال هذه القرون الطوال خاض الإنسان الغربي معاركه وحروبه التي أثبت بها لنفسه جملة من الحقوق والحريات والواجبات استقرت بصورة يستحيل معها على أي سلطة أن تفكر مجرد تفكير في المساس بها مجرد مساس ناهيك عن تعطيلها أو العدوان عليها أو انتهاكها بأي شكل أو تحت أي مبرر، هذه الحقوق والحريات والواجبات حارب لأجلها النبلاء ضد الملوك، ثم حارب لأجلها الطبقة الوسطى ضد النبلاء، ثم حارب لأجلها العمال ضد الطبقة الوسطى، وحاربت المرأة ضد هيمنة الذكور، وحاربت الأقليات العرقية ضد التمييز والفصل، وهكذا حروب متواصلة حتى يتم الاعتراف بالحريات والحقوق والواجبات وحمايتها والإقرار بها والتعود عليها، فهي محمية بما اندفع فيها من ثمن وبما انبذل فيها من عرق وبما خيضت لأجلها من معارك، هي محمية ومحل تبجيل حتى لو لم تُكتب في دساتير وقوانين.
لم تتبلور الديمقراطية -بشكلها الحالي- في الغرب إلا بعد الثورتين الأمريكية والفرنسية، وتم ذلك بالتدريج، فلم تنضج بين يوم وليلة، ولم تصل ما وصلت إليه إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، الديمقراطية الغربية سبقتها خمسة قرون من الكفاح من الثالث عشر حتى الثامن عشر، ثم هي ذاتها أخذت قريبا من قرنين -التاسع عشر والعشرين- حتى أخذت شكلها ومضونها الذي هي عليه الآن.
الآية عندنا بدأت معكوسة، الدولة الحديثة، أو ذات الشكل الحديث، سبقت الإنسان الحديث أو الشكل الحديث للإنسان، كما سبقت المجتمع الحديث أو الشكل الحديث للمجتمع، بات عندنا دولة شكلها حديث، وإنسان شكله حديث، ومجتمع شكله حديث، لكن بقي مضمون ذلك كله ومحتواه مضمونا قديما يحتفظ بكل ما ورثه عن التراث السياسي للمماليك والعثمانيين وطغيان الاستعمار الأوروبي.
قرنان من الزمن أو أكثر من عمر الدولة الحديثة، ثم مائة عام من الدساتير الحديثة، ورغم ذلك مازال الحاكم الفرد يستطيع -دون أدنى مقاومة تُذكر- أن يضع يده على القرار السياسي دون منازع، ثم يضع يده على القرار الاقتصادي دون شريك، ثم يفرض كلمته على الشعب دون اعتراض، يفعل ذلك محمد علي باشا عند مطلع القرن التاسع عشر، ويفعله الخديو إسماعيل قريبا من خاتمته، ويفعله جمال عبد الناصر عند منتصف القرن العشرين، ويفعله السيسي في القرن الحادي والعشرين، ومازالت الفرص قائمة لأي حاكم قادم يفرض كلمته -دون تردد أمام أي معارضة- على السياسة والاقتصاد والمجتمع وعلى الثقاقة والدين والإعلام والفنون وما شاء.
لقد حوت الدساتير المصرية من أول دستور 1923 -بعد الاستقلال الشكلي- فبراير 1922 إلى آخر دستور في 2014 وتعديلاته في 2019، كل هذه الدساتير حوت وجمعت بين سطورها دفعة واحدة كل الحريات والحقوق والواجبات التي حارب لأجلها الإنسان الغربي القرون الطوال، هكذا حصلنا عليها مكتوبة حبرا على ورق، لم ندفع فيها ما ينبغي لها من ثمن، فلم نعرف قيمتها، ولم نحافظ عليها، ولم نتحمس لها، يُقسم الحكام على احترامها ثم يتجاهلونها أو يتلاعبون بها، ونحن -المواطنين- ننظر لها كنوع من المثال البعيد والخيال المستحيل وربما لا ننظر إليها على الإطلاق أو حتى لا نتذكرها.
***
قيادة ما يسمى “الدولة الحديثة” للحداثة انتهت إلى “الجمهورية الجديدة”، والجمهورية الجديدة ليست أكثر من انتكاسة عميقة للحداثة، انتكاسة لفكرة الدولة ذاتها كمؤسسة رشيدة تقوم على خدمة المصالح العمومية، ثم انتكاسة لفرص تطور المجتمع بما تضعه من قيود على حركته، ثم انتكاسة لتحديث الإنسان نفسه بما تضيقه من إمكانات حريته وتقدمه وتحقيق ذاته.
بعد قرنين من الزمن أو أكثر على ميلاد الدولة الحديثة، وبعد قرن كامل من الدساتير الحديثة ليس عندنا مجتنع حديث ولا إنسان حديث، عندنا من كل شئ حديث شكله وقشوره وقناعه الخارجي فقط. يلزمنا البحث عن مسار جديد، مسار يبدأ بالإنسان الفرد قبل المجتمع ثم يبدأ بالمجتمع قبل الدولة ثم الدولة تكون إطارا صالحا تنمو في أفقه مواهب الأفراد وإمكانات المجتمع، ولا تكون قفصا من حديد يحبس في مواهب الأفراد ويحتجز في داخله طاقات المجتمع.
للإنصاف يلزم التذكير أن المصريين -قبل وبعد الدولة الحديثة- لهم سجل حافل بالهبات والاحتجاجات والانتفاضات التي يحمل بعضها لقب الثورات عن جدارة أو عن تجاوز، عن طريق هذه الانتفاضات وجد محمد علي باشا فرصة للصعود إلى حكم مصر 1805، وانتفاضة مثلها فتحت الطريق أمام السيسي لحكم مصر 2014، لكن انتفاضات المصريين من ثورتهم التي جاءت بالباشا وحتى ثورتهم التي جاءت بالمشير عليها عدة ملاحظات.
– الأولى: أنها ثورات شعب مُنهك أجهدته الديكتاتوريات ماديا ومعنويا، فليس له صبر طويل على الصمود الثوري، فهو منكشف أمام بطش السلطة حتى وهي ضعيفة.
– الثانية: هذا الإجهاد يقنعه بالقليل من الانتصار ويترك تحقيق آماله لانتظار فرص أفضل ربما تأتي بها حركة الزمن وطول العمر يبلغ الأمل.
– الثالثة: هذه الثورات في الغالب تتعامل مع نتائج الديكتاتوريات وثمراتها وأشخاصها وليس مع جذورها ومنابعها وأصولها وأسبابها الموضوعية التي تمكن حاكما فردا من رقاب شعب بأكمله.
– الرابعة: هذه الثورات -باستثناء ثورة 1919- تفتقد الفكر كما تفتقد التنظيم ومن ثم تعجز عن مواصلة التفاعل على الأرض لفترة طويلة.
الخامسة: بعض هذه الثورات شارك فيها العسكريون بمقادير مختلفة، مشاركتهم تساعد على نجاحها في مراحلها الأولى، ثم تقودها نحو الفشل كما حدث في الثورة العرابية، أو تقودها نحو عكس المقصود منها تماما فتتحول إلى من ثورة إلى كارثة مثل ثورة 23 يوليو 1952، أو يوفرون لها الحماية ثم الاحتواء ثم الفشل كما في 25 يناير 2011، أو يستعيدون بها تراث الديكتاتورية بصورة أشد قسوة كما حدث بعد 30 يونيو 2013.
– السادسة: أن كل ثورة -بدون استثناء تقريبا- تبدأ بسقف طموحات وأحلام أكبر من الإمكانات والقدرات ثم لا تلبث أن تنقلب إلى النقيض من فقدان للحماس ثم إخفاق ثم إحباط ثم يأس كامن أو صامت.
– السابعة: من النتائج السلبية لثورة يناير 2011 أنها جعلت كثيرين يرون الحل في إسقاط الأنظمة، خاصة وقد سقط نظامان في أقل من ثلاثين شهرا، ويتناسون أن النظام الذي أعقبهما كان شريكا في إسقاط النظامين، ومن ثم فهو يعتبر نفسه صاحب حق وفضل، كما أنه يعرف -أفضل من غيره- دقائق وتفاصيل الآليات والوسائل التي تم بها إسقاط النظامين السابقين عليه، يعرفها من العمق ومن الداخل معرفة عملية، ومن ثم فهو -بالبداهة- يحصن نفسه من مثل هذه المخاطر التي تعرض لها النظامان السابقان، فكما أن الشعب، أو قطاعات من الشعب، لديهم خبرة في إسقاط الأنظمة، فإن نظام ما بعد 30 يونيو 2013 مفترض لديه وعي فائق بهذا الخطر، ليس فقط من مشاركته في إسقاط نظامين سابقين لكن كذلك من معايشته لفصول الربيع العربي وما شهده من تداعي العديد من الأنظمة في أكثر من بلد عربي.
– الثامنة: أن لدى المصريين المُحدثين وهم شائع أن الإنسان يولد حُرا، وهو وهم تسرب إلينا من الفكر الثوري الفرنسي، وهو قول غير صحيح، وكان من الأسباب التي حرفت الثورة الفرنسية عن الاعتدال والتوازن، فالإنسان يولد ضعيفا كل الضعف، يحتاج لغيره كل الاحتياج، ولا حرية مع الضعف المطلق، ولا حرية مع الاعتماد الكامل على الغير، الصواب أن الإنسان ولد ليكافح من أجل حريته، ولا ينالها إلا بالتحول من طور الضعف إلى طور القوة، ثم من طور الاعتماد والاحتياج إلى طور الاستغناء والاكتفاء والاستقلال.
إذا ولد الإنسان حرا، وإذا تحققت له الحرية بمجرد مولده فلا يكون إذا هناك مبرر لمولده، ينتفي الغرض من وجوده، الإنسان يولد مجردا من كل شيء إلا فضيلة الاستعداد البدني والعقلي والروحي للنمو والتطور والتعلم والترقي، وبهذا الاستعداد، وبالسعي، وبالمجهود، وبالظروف المواتية، يكتسب كل شيء، فكل ما يناله يكون بالاكتساب أي بالسعي والجهد والمحاولة مرة ومرات. الإنسان يولد وليس معه شيء جاء به من بطن أمه فلا علم ولا حرية ولا قوة ولا خبرة، لا شيء غير تكوينه البدني والعقلي والروحي الذي خلقه الخالق العليم عليه. الحرية لا تولد مع الإنسان، الحرية تُكتسب بمقدار ما يكافح من أجلها الإنسان، فبمقدار وعيه بها، وبمقدار سعيه لها، يتحرر -بالتدريج- من كل القيود التي تعوق نموه وتقدمه وتطوره.
-التاسعة: الفرد لا يولد في فراغ، يولد في ظروف محددة، أسرة ومجتمع ودولة ومناخ ثقافي واجتماعي واقتصادي، ومن ثم فهو لا ينمو في فراغ، ولا يخوض معاركه في فراغ، إنما في سياق واقعي سابق على وجوده، نوع التربية، نوع التغذية، نوع المعاملة، منظومة الأخلاق، فرص الحياة، أفق التفكير، فرص التمتع بالحياة أو الحرمان منها، مقادير المتاح من عدالة وكفاية ومساواة.
الفرق بين المتقدمين والمتخلفين من الدول والمجتمعات أن هذه الأسئلة وجدت الكثير من الإجابات في مجتمعات التقدم بينما مجتمعات التخلف مازالت تتكلم في وزن رغيف الخبز وسعر كيلو السكر وثمن كرتونة البيض أو علبة اللبن.
العاشرة والأخيرة: إذا هبت رياح الثورات شارك فيها المصريون جميعا -بالاقتناع الحقيقي أو الحماس المؤقت- حتى إذا سكنت ثم سكتت انصرفوا عنها جميعا ثم تبقى أقلية تدفع الثمن بالعقاب أو بالعتاب ثم يدخل الجميع في متاهة لا أول لها ولا آخر تمزقهم الأزمات الروحية والمادية من أعماقهم ولا يعرف أحدهم رأسه من رجله.
***
إذا كانت مصر قد بلغت ذروة المتاهة بعد ما يقرب من عشر سنوات من حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي فإن جذور هذه المتاهة تعود إلى مطلع الألفية، حين تخلد الحاكم الفرد في السلطة عبر استفتاءات مزورة وانتخابات مفبركة، حتى أدركته الشيخوخة بدأت تظهر في العلن فكرة توريث نجله، واستمرت الفكرة قريبا من عشر سنوات، انقسمت حولها أركان الدولة بين حرس قديم يرفضها في السر وحرس جديد يعمل لها في العلن، تعايشت الدولة مع الجمع بين سلطة الرئيس الرسمية وسلطة الوريث الفعلية، وقبلت على نفسها هذا الوضع المخجل، حتى خرج الشعب في 25 يناير 2011 فأسقط الرئيس والوريث معا وأنقذ الدولة المصرية من وحل ظلت تتمرمغ فيه سنوات عدة. زادت المتاهة حين انتقل حكم مصر إلى الإخوان، ثم وصلت المتاهة إلى ذروتها مع ديكتاتورية دولة ما بعد 30 يونيو 2013، وهي ديكتاتورية نسفت كل منجز ديمقراطي للشعب المصري مهما كان محدودا، وبات على المصريين أن يبدأوا من جديد رحلة البحث عن خريطة وبوصلة وطريق وقيادة وزاد وعدة للخروج من المتاهة.
تعريف المتاهة، باختصار شديد، يمكن الإلمام به من ملامح الصورة العامة من لحظة بزوغ فكرة التوريث، ثم لحظة حكم الإخوان، ثم لحظة استعادة أشد أشكال الديكتاتورية طغيانا وضلالا مع دولة ما بعد 30 يونيو 2013، وأهم هذه الملاح:
1 – أن الدولة ذاتها فقدت صورتها عن ذاتها بأنها دولة، ربما تكون سلطة حاكمة، لكنها ليست بما يكفي لتكون دولة مهيبة، ومعنى الهيبة هنا أنها مازالت -رغم فسادها واستبدادها- تحتفظ برسالة الدولة وضميرها ومسؤوليتها عن عموم المصريين دون تفرقة وعن الفقراء دون تجاهل لهم ولا ازدراء.
2 – أن الشعب فقد موقعه المركزي كصاحب سيادة وكمرجع تُرد الأمور إليه ليكون -في نظر الدولة التائهة- مجرد عبء أو سبب للمشاكل أو حمولة زائدة على أكتاف الدولة ومؤسساتها، وهنا يكون الحاكم الفرد هو السيادة كما يكون المقربون منه هم ممثلو السيادة وتكون المؤسسات من برلمان وحكومة وغيرها مجرد دكاكين ملحقة بالحاكم والذبن معه من دوائر المقربين.
3 – أن الجميع، الدولة والشعب، كلاهما يشعر في قرارة ذاته أن الأوضاع عير طبيعية وغير قابلة للاستمرار ولا تصنع استقرارا يمكن الاطمئنان إليه.
تكررت هذه المتاهات في مراحل كثيرة من تاريخ الدولة الحديثة، حين تزل أقدام السلطة الحاكمة فتضل طريق الصواب، وحين يضطرب المجتمع فلا يعرف لنفسه مخرجا، وبعد تجارب المصريين مع الثورات والانقلابات وقلة ما ترتب عليهما من تحول حقيقي إلى الأفضل في حياة المصريين، فإن السؤال عن مخرج غير ثوري وغير انقلابي أصبح ملحا ومشروعا، فلا تفيد ثورات وانقلابات تعود بعدها الأوضاع إلى أسوأ مما كانت عليه قبلها.
هذه المتاهة ليست جديدة، الجديد هو كيف يمكن التعامل معها دون ثورة شعبية ودون انقلاب عسكري ودون لجوء الديكتاتورية إلى النقيضين: أن تنهار من داخلها، أو تزداد قسوة وطغيانا ومن ثم تزداد فشلا وتخبطا.
هذه -في الظاهر- محنة نظام، وربما محنة حاكم فرد مطلق، لكنها في حقيقتها وجوهرها محنة الدولة الحديثة ذاتها، هذه هي طبيعة تكوينها منذ تأسست على يد محمد علي باشا، كل فترة تشهد متاهة بصورة دورية منتظمة، عهد محمد علي باشا نفسه وصل إلى ذروة المجد الإمبراطوري ثم انتهى بمتاهة حقيقية تقككت فيها الإمبراطورية في لمح البصر واضمحلت الدولة أمام عينيه وتصارع السلطة مع نجله وعاش يراها تنتقل إلى حفيد أقرب إلى معتوه أو مختل عقليا أو مريض نفسيا، ثم وصلت لمتاهة مع فشل المشروع الحديثي الإمبراطوري للخديوي إسماعيل وتم عزله وخلفه ولده وولده عاش في حماية الاستعمار، ثم تكررت المتاهة بعد الحرب العالمية الثانية إذ فقدت ثورة 1919 ودستورها وملكها وطبقتها فقدت بريقها وجدارتها بالبقاء، ثم تكررت المتاهة بعد ثمانية عشر عاما من ديكتاتورية عبد الناصر إذ فقد زعامته وانكسر مشروعه ووصل الإسرائيليون إلى البر الشرقي من قناة السويس، ثم تكررت المتاهة بعد عشر سنوات من صدمات وتحولات السادات وفقد حياته في لحظة غدر رخيصة، ثم تكررت المتاهة على مدى السنوات العشر الأخيرة من حكم مبارك، ثم كان حكم الإخوان لحظة زوال مؤقت للدولة المصرية، ثم تتكرر المتاهة بعد سنوات من ديكتاتورية لم يكن لها مبرر بعد 30 يونيو 2013.
هذه -قبل أن تكون معضلة نظام حكم أو أنظمة حكم- هي أولا وآخرا معضلة الدولة الحديثة ذاتها، دولة أخذت من الشكل حداثتها وحاربت مضمونها، ومضمون الحداثة هو -باختصار شديد- رفاهة الإنسان، وهذا يعني أن تكون الدولة في خدمة الإنسان، لا يكون الإنسان في خدمة الدولة من محمد علي باشا إلى عبد الفتاح السيسي وإلى أي حاكم في المقبل من الزمن.
الإنسان المصري في الدولة الحديثة إما مستعبد من الاستعباد تحت حكم محمد علي باشا وسلالته وإما مستبعد تحت الحكام من ضباط الجيش من نجيب الى السيسي، هذا الموقف من الدولة تجاه الإنسان يكشف عن شكلانية حداثتها كما يكشف عن استبدادية مضمونها كما يفسر المتاهات والأزمات الجذرية المتكررة التي تقع فيها وتؤول إليها في حياة أصحابها قبل مماتهم.
***
الدولة الحديثة بحق لن تكون دون إنسان حديث بحق، والإنسان الحديث بحق لن يكون دون كفاح متواصل ينتزع به أمرين:
– الأمر الأول: هو الحرية بلا استعباد ولا استبعاد، حرية ينال بها حقوقه، كما يؤدي بها واجباته.
– الأمر الثاني: هو الرفاهية فلا إنسانية مع الفقر ولا مع العوز ولا مع الدخل المحدود والعيش الضيق.
وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.