في عام 2024 سيشهد العالم تحولا جذريا في ترتيب أكبر عشر اقتصادات في العالم طبقا لتقديرات كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، حيث سترتب من حيث الحجم طبقا لما يلي: الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، الهند، اليابان، إندونيسيا، روسيا، ألمانيا، البرازيل، بريطانيا، فرنسا، هذا الرتيب أعطي إندونيسيا التي يبلغ عدد سكانها 270 مليون نسمة، المرتبة الخامسة، ولذا كان اختيارها لعقد قمة العشرين هذا العام منطقيا، إذا نحن أمام الدولة الأكبر اقتصادا في العالم الإسلامي.. مؤخرا حدث تحول بدأ يبرز منذ عشر سنوات وأخذ منحى تصاعدي وهو نموذج الإسلام الإندونيسي، هذا النموذج بدأ أيضا يجعل من إندونيسيا مركزا للدراسات الإسلامية في العالم بعيدا عن المراكز التقليدية في الشرق الأوسط، فهل هذا جاء متواكبا مع الصعود الاقتصادي لإندونيسيا؟ هل هو مخطط من قبل الدولة الإندونيسية؟ وإلى أي مدى هو مختلف عن نماذج الإسلام التقليدية والسياسية في الشرق الأوسط؟ هل نحن أمام قراءة جديدة للإسلام؟
في حقيقة الأمر إن الدوريات الأكاديمية التي تصدرها الجامعات المختصة بالدراسات الإسلامية صارت أعلى تصنيفا من المجلات الأكاديمية التي تنشرها جامعات إسلامية عريقة، فضلا عن فشر مجلات هذه الجامعات جعل باحثين من مصر والسعودية والعراق والجزائر ينشرون في المجلات الإندونيسية، أعدت إندونيسيا جيل جديد من الباحثين في الدراسات الإسلامية عبر الابتعاث لعدد من الجامعات الإسلامية في الشرق الأوسط خاصة جامعة الأزهر، هذا الجيل صار له إنتاجه العلمي ووجهة نظره التي يقدمها لأكبر شعوب العالم الإسلامي من حيث العدد، لنجد أن الكتابة عن الإسلام باللغة الإنجليزية نرى فيها أقلاما من إندونيسيا وماليزيا وبريطانيا والولايات المتحدة، وبالتالي صار هناك حوار دولي حول الإسلام باللغة الإنجليزية العرب خارجه وليسوا حاضرين فيه.
كان الإندونيسيون واعين للدور الجديد الذي يقومون به، فهم يرفضون أنماط الإسلام السياسي القادمة من الشرق الأوسط وعلى رأسها الإسلام السياسي، فقد عانوا منه في تفجيرات أثرت علي الدولة خاصة في جزيرة بالي، لكن بالرغم من التباين الإندونيسي في التعامل مع الإسلام إلا أن هناك إصرارا على إقامة نموذج مغاير، هم لهذا السبب يذهبون بكثافة لدراسة اللغة العربية بل صارت لهم نماذج متعددة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وهذا كله محط اهتمام من الدول التي لديها أقليات مسلمة وتبحث عن صورة للإسلام أكثر قدرة على التعامل الواقعي مع التعددية الدينية والثقافية.
يسود في إندونيسيا نمط التدين الشعبي المعروف بالوسطية والاعتدال فمن خصوصيات الإسلام الإندونيسي أنه أكثر تسامحا مع الأديان والمعتقدات المحلية والأخرى والتسامح مع المعتقدات الموروثة، وقد عمل العلماء الإندونيسيون على توجيه تلك المعتقدات من الموروث الثقافي نحو وجهة توحيدية لا تتنافر مع التوحيد الإسلامي وأصول الدين.
حتي حينما اخترق الإسلام السياسي إندونيسيا فكان أبرز مظاهره مشاركة 3 آلاف “مجاهد” في حرب أفغانستان ضد روسيا، برعاية وتمويل أمريكي سرعان ما أدركت إندونيسيا تداعيات ذلك عليها فسارعت في علاج هذه الظاهرة.
قررت إندونيسيا اختيار الديموقراطية كخيار سياسي يضمن استقرار البلاد والانتقال الآمن والسلس للسلطة ومستقبل البلاد، وذلك بعد الاضطرابات التي أطاحت بالرئيس سوهارتو والتي أعقبها استخدام الجيش والشرطة جماعة متطرفة هي ( جبهة الدفاع عن الإسلام ) لمواجهة حركة المطالبين بالديموقراطية، هذا عزز رفض الإندونيسيين تسيس الإسلام واستخدامه من قبل السلطة، بل وما زال الإسلام السياسي يخوض معارك خاسرة في إندونيسيا، إذ فشل في عام 2001 في إقرار مادة ضمن دستور البلاد لفرض الشريعة الإسلامية ورفض مجلس الشعب الاستشاري (البرلمان) هذه المادة بأغلبية 81% من الأصوات، كان مجلس الشعب الاستشاري عند الاستقلال عام 1945 قرر شطب المادة التي تلزم الإندونيسيين بتطبيق الشريعة، وأصر على إقرار مواد تدعم التعددية الدينية والثقافية (تحت مادة الوحدة في التنوع) في البلاد بالرغم من أن 88% من السكان مسلمون، وهو ما تم التأكيد عليه مرة أخرى في عام 2020، استنتج الإندونيسيون أن هذا أدى إلى تعزيز الاستثمار وأوجد فرص عمل.
في إندونيسيا جمعيتان إسلاميتان يقودان الإسلام المعتدل في البلاد، الأولى جمعية (نهضة العلماء) وعدد أعضائها أكثر من 90 مليونا، وهي ذات طابع ريفي وتنادي بالديموقراطية وحقوق الإنسان والتعددية، و(الجمعية المحمدية) ويزيد أعضاؤها على 40 مليون.. وبعد الاضطرابات التي شهدتها إندونيسيا عام 1998، أخذت الجمعيتان زمام الأمور، فتولى الرئاسة عبد الرحمن وحيد الذي ترأس جمعية نهضة العلماء لمدة 15 عاما، وترأس الجمعية المحمدية أمين رايس، رئيس مجلس الشعب الاستشاري.. رايس هو الذي قاد عملية الإطاحة بسوهارتو، وأدخل العديد من الإصلاحات كان منها نظام الانتخابات الرئاسية المباشرة، تحديد مدة الرئيس بدورتين، وغير ذلك من التشريعات المستوحاة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
تموج إندونيسيا بتيارات فكرية عديدة وفلسفية أيضا، حتى أن الفيلسوف الإندونيسي روكي جيرونج يعد الآن من أبرز الفلاسفة في العالم، وهو ينادي بالمنطق السليم الذي هو الحكمة أو الحقيقة البديهية العقلانية ويضعها في مقابل المنهج التجريبي الغربي.
كما برز عدد من الأدباء في إندونيسيا على الصعيدين المحلي والدولي ومنهم: أيويوتامي وهي أديبة وصحفية رواياتها الأولى (سامان) صدرت عام 1998 وباعت أكثر من 100 ألف نسخة، وكانت منعت من الكتابة في عهد الرئيس سوهارتو، وهي تناقش بشكل مكثف في كتابتها تاريخ إندونيسيا السياسي وتنتقده وتحلله لخلق وعي وطني، ومن البارزين في الحركة الأدبية لاكسمي بامونتجاك وهي شاعرة وكاتبة في صحيفة الغاردين هربت من إندونيسيا بسبب مطاردة الشيوعين بها بعد انقلاب الجنرال سوهارتو عام 1965 والذي تلاه قتل مليون إندونيسي في إجراءات عنيفة من السلطة، وروايتها (كل الألوان الحمراء) تعالج إرث هذه الفترة، وهو ذات الموضوع الذي عالجته الروائية ليلى تشوردي في رواية (بولانغ) وهي كلمة إندونيسية تعني العودة للوطن.