تنفجر النزاعات في منطقة الشرق الأوسط من حين لآخر، ما بين تجدد لنزاعات قديمة، ونشوء أخرى جديدة. ومع كل نزاع، تأتي فرص لإعمال الوساطات الإقليمية والدولية كأحد أهم سبل تحقيق السلم الدولي ومكافحة النزاعات. ويأتي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي في القلب من هذه النزاعات القديمة – المتجددة، والتي احتلت مصر مكانة تاريخية سواء كطرف فاعل في العقود الأولي للصراع مع إعلان تأسيس دولة إسرائيل في مايو 1948، أو كطرف وسيط له ثقله لدى جميع الأطراف المشاركة الأخرى، وذلك من بعد توقيع اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية وكذا معاهدة كامب ديفيد في عهد الرئيس الراحل أنور السادات.
لكن يبدو أن هيمنة الدور المصري على الوساطة الفلسطينية – الإسرائيلية قد شهدت العديد من التغيرات، ما بين ضعف وانحسار في أوقات، وكذلك بعض المسائل من النزاع، مثل الصراعات الداخلية الفلسطينية – الفلسطينية وأبرزها الخلافات ما بين حركتي فتح وحماس، إذ شهدت هذا الجانب من الصراع مساحة لتدخل أطراف إقليمية وخارجية، وهو ما انعكس على سبيل المثال لا الحصر في اتفاقية مكة بين حماس وفتح في 2007، إضافة إلى استضافة الدوحة وكذلك دمشق لمكاتب حركة حماس، وتقارب حماس، الحركة التي تحكم قطاع غزة منذ 2007، مع تركيا.
ويظهر ذلك أيضا مع مشاركة قطر في الدور المصري التاريخي في الوساطة ما بين الحركات الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس، مع إسرائيل، وهو الدور المشترك المصري- القطري الذي قام الرئيس الأمريكي بايدن بالثناء عليه وتوجيه الشكر لكل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والأمير القطري شيخ حمد بن تميم آل ثاني، في بيان رسمي من الرئاسة الأمريكية في أغسطس 2022.
كما أن انحسار الدور المصري في الوساطة في السودان، البلد الشقيق، الذي حكمته مصر لعقود قبل إعلان استقلال السودان في يناير 1956. يمكن اعتباره مؤشر مقلق، إذ لم تتمكن الجهود المصرية من تحقيق تقدم فارق بين الأطراف السودانية من النظام الحاكم والقوي الشعبية والمعارضة إبان اندلاع الثورة السودانية في ديسمبر 2018.
إذ كان من الملفت للانتباه أن تنجح إثيوبيا فيما فشلت فيه مصر في قيادة مبادرة وساطة بين الأطراف السودانية المختلفة، فبالرغم من أن المشهد النهائي لتوقيع الوثيقة الدستورية، وهي الاتفاق على تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكريين كتتويج لأحد إنجازات الثورة السودانية في الإطاحة بالبشير وتقاسم مقاليد الحكم مع الدولة العسكرية العميقة، تضمن المشهد جلوس كل من نائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو والمعروف بحميدتي وممثل تحالف قوى الحرية والتغيير أحمد الربيع على المنصة الرئيسية وبجوارهما رئيس وزراء إثيوبيا أبيي أحمد ورئيس وزراء مصر مصطفى مدبولي. إلا أن الجهود الإثيوبية، التي قام بها أبيي أحمد كانت هي مربط الفرس في تحقيق تقدم نتج عنه الوصول إلى مثل هذه الاتفاقية، وجاء فوز أبيي أحمد بجائزة نوبل للسلام لاحقا في 2019 ليكلل جهوده، وهو ما انقلب عليها بعدها بأدواره في جر إثيوبيا إلى حرب أهلية مع التيجراي.
ويمكن تفسير نجاح إثيوبيا فيما فشلت فيه مصر في الوساطة في الأزمة السودانية هو إبداء إثيوبيا مرونة أكبر في حين اشتكت العديد من الأطراف السودانية من انحياز النظام المصري لدعم نظام البشير ضد الثورة السودانية، وذلك من خلال تحركات مصر في الاتحاد الإفريقي، والعلاقات الثنائية المصرية – السودانية.
وبالانتقال إلى الضفة الغربية من الحدود المصرية، أي إلى ليبيا، فإن الموقف المصري قد أبدى مرونة بعد جمود طويل، وذلك بإظهار مزيد من التقارب مع حكومة طرابلس، بدلا من الاكتفاء بالمساندة والدعم المفرط لخليفة حفتر في الجانب الشرقي من ليبيا. وبعد أن كانت الوساطة المصرية في الأزمة الليبية مجرد حصان طروادة لإبداء الدعم غير المشروط لحفتر، فإنها تحولت مع إظهار التقارب مع حكومة طرابلس إلى بذل دور وساطة حقيقي، تمثل في إعلان القاهرة، في يونيو 2020، ومن بعدها وقف تقدم القوات المدعومة من طرابلس وتركيا تجاه شرق ليبيا.
ولعل هذا من أهم الدروس المستفادة قبل تقديم دور حقيقي في الوساطة الدولية، فالمرونة، وعدم الانحياز المطلق لطرف على حساب طرف آخر، هو أ ب الوساطة الدولية. وقد نجحت الحكومة المصرية في ذلك بشكل نسبي في ليبيا، قياسا إلى الإخفاق السابق في السودان.
إضافة إلى ذلك فإن الوعي والفهم للمستجدات والتغيرات التي طرأت على الساحة الإقليمية والدولية هو أمر شديد الأهمية لتقوية إمكانيات الدولة وفرصها في تقديم وساطة دولية ناجحة، فمع موجات التطبيع الخليجي والعربي مع إسرائيل قد تقل أهمية الدور المصري التاريخي في لعب أدوار الوساطة بين الفلسطينيين خصوصا، والعرب عموما من ناحية، والإسرائيليين من ناحية أخرى. وبالتالي فإن على المفاوض المصري، التفكير في استخدام كروت جديدة، واستحداث مقومات وفرص لإثبات الثقل الذي تمثله مصر في تلك القضايا، بدلا من انكماش دورها.
وختاما، فإن شرق أوسط متعدد الأقطاب، لم تعد النظرة الاستحقاقية فيه إلى مصر كونها قائدة للمنطقة العربية ولا منافسا لها نظرة مجدية أو فعالة. خصوصا مع تزايد أعباء الديون الداخلية والدولية على مصر، مما يحد من قدرتها الحرة والمستقلة على التحرك على الساحة الدولية، ويزيد تبعيتها أيضا، على الأقل الاقتصادية، لدول الخليج العربي، والدائنين الدوليين. وللخروج من الصندوق، فإن تركيز الجهود على التخلص من أزمة الدين الكبيرة على مصر، وابتكار وسائل ومداخل جديدة لإظهار ثقل وإمكانيات الدور المصري في السياسة الخارجية، ومنها عمليات الوساطة الإقليمية هي مسارات واجب التحرك القوي فيها الآن قبل غد.